عشاق الله

شعب الله المختار

  شعب الله المختار

 


بالنسبة لأولئك المؤمنين الذين يسعون لطاعة الله أيّا كانت عقيدتهم، فإن الاعتقاد بأنهم ينتمون إلى شعب الله المختار أمر عظيم القيمة ومدعاة للقوّة. ولكنه قد يكون أيضا مصدر صراع عنيف. وقد استخدم التعبير " شعب الله المختار " لإثارة مشاعر الولاء عند الفرد لأقربائه في الدم ضدّ الأجانب. ولذا من المهم أن نفهم أن تعاليم سفر التكوين لا تؤيد حصر عبارة شعب مختار بفئة معينة من الناس، بل هي تدعو إلى العكس من ذلك تماما. وفي الواقع ليس هناك ذكر صريح لشعب مختار في سفر التكوين، كما لا وجود لمثل هذا التعبير في سفر الخروج حيث بدأت قصة موسى والعبرانيين وصدرت شريعة العهد لإسرائيل. ونحن لا نجد أيّ إشارة للشعب اليهودي باعتباره شعبا اختاره الله إلاّ في فترة لاحقة للخروج وفي الطبعة الثانية من (سفر التثنيّة 7: 6 ـ 7).

إن ما نجده في الإصحاح 12 من سفر التكوين هو أن الرب نادى إبراهيم وأعلن غرضه في جعله مع ذريته وكلاء على رغبته في منح بركته لجميع الناس. وفي سفر التكوين من (الإصحاح 1 إلى 11) تقدم جميع أنماط الجنس البشري على أنها شعب واحد وحيد. يقول (الإصحاح 11: 1) «وكان أهل الأرض جميعا يتكلمون أولا بلسان واحد ولغة واحدة ». وعندما انطلق أهل الأرض هؤلاء بفخر عظيم لبناء برج يناطح السماء تدخل الرب وقسّمهم وشتتهم. ومن هنا كانت دعوة إبراهيم بداية لخطة الرب في إعادة بركته إلى شعوب العالم جميعا.ونقرأ: «سأجعل منك أمة كبيرة وأباركك وأعظّم اسمك وتكون بركة (لكثيرين) وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك وتتبارك فيك جميع أمم الأرض (التكوين 12: 2، 3)

· الوعد والمسؤولية:
هناك عنصران في هذا الإعلان: الأول: أن الرب يعد أن يبارك إبراهيم، ثانيا: أن الرب يكلف إبراهيم مسؤولية حمل البركة لجميع أمم الأرض. ولكي يصبح إبراهيم بركة لجميع الناس كان من الضروري له أن يظهر ولاءه للرب ولأغراض الرب، وهو أمر أكثر أهمية من ولائه لشعبه الذي من دمه. ولذا فإن الرب قد دعا إبراهيم قبل ذلك الإعلان بقوله:
{ اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك واذهب إلى الأرض التي أريك} (التكوين 12: 1)

وليس مما يدعو إلى الدهشة إذن أن يناقش الناس عبر التاريخ فكرة " شعب الله المختار " فيما يتعلق أساسا بمسألة من يتوقع أن يتلقى البركة الموعودة. ويبيّن سفر التكوين بوضوح انه يتوجب علينا أن نأخذ بجدّية موضوع المسؤولية باعتبارها بركة لجميع الأمم والثمن الذي يجب أن ندفعه لكي نصبح أكثر ولاء لذلك الغرض من ولائنا لقرابتنا في الدم.

إن الإعلان عن الوعد المرتبط بالمسؤولية يتكرر عبر ثنايا سفر التكوين ثلاث مرات لإبراهيم (12: 3؛ 18؛ 22: 18) ولإسحاق (26: 4) وليعقوب (28: 14). وتبيّن هذه النصوص أن الوعد والمسؤولية سوف ينتقلان لنسل إبراهيم (في العبرية زرع) وسوف يصبح هؤلاء شعبا يدعى لتحقيق غرض الرب في مباركة الجميع. وفي مختلف أجزاء التوراة وحيثما تمّ التأكيد على العهد لا يمكن فصل الوعد والمسؤولية الواحد عن الآخر. وكمثال على ذلك نجد الدعاء الجميل الذي يتضمنه (المزمور 67) الذي يعلن بأن غرض بركة الرب علينا وعلى شعبنا هو أن جميع الأمم قد تسرّ وتغني ابتهاجا عندما تعرف قوّة الرب المنقذة. فقد جاء في (المزمور 67): ـ ليترأف الله علينا وليباركنا وليضئ بوجهه علينا لكي يعرف في الأرض طريقك وبين جميع الأمم خلاصك،
ـ تحمدك الشعوب، يا الله، تحمدك الشعوب كلها !
ـ تفرح وتبتهج الأمم لأنك تدين الشعوب بالاستقامة وتهدي أمم الأرض،
ـ تحمدك الشعوب يا الله، تحمدك الشعوب كلها،
ـ أعطت الأرض غلّتها الوفيرة، يباركنا الله إلهنا فتخافه كل أقاصي الأرض.
وباعتبار أن الذرية الجسدية لإبراهيم هي اليهود والعرب فإنهما يرثان معا الوعد والمسؤولية كليهما، كما أن المسيحيين من جميع الأمم يشملهم ذلك الوعد لأنهم يعتبرون إبراهيم أباهم الروحي. ومن المؤكد أن لإبراهيم تقديراً عظيماً بين قسم كبير من أمم العالم اليوم . على كل حال، ليس واضحا من بقية أجزاء التوراة ومن تاريخ العالم أن جميع نسل إبراهيم قد فهموا معنى أن يكونوا بركة للأمم الأخرى من حولهم.

· العهد:

بينما لا نجد في سفر التكوين ذكرا لعبارة " المختار " فإننا نجد عوضا عنها أن الوعد المرتبط بالمسؤولية يقدم على شكل عهد وبعبارة العهد الإبراهيمي (أو الميثاق الإبراهيمي). وفي العهد كله يلتزم الرب بوعده وتلتزم أمة الرب بعلامة الختان. ويبرز السؤال حول ما إذا كان هذا العهد محدداً ببعض أبناء إبراهيم فقط. ولدارسي الإنجيل وجهات نظر مختلفة حول هذه المسألة.
يتضح من (سفر التكوين 17: 19 ـ 21) أن إسحاق الذي لم يكن ولد بعد سيكون له شأن بارز في عهد الرب. غير أن الرب في البداية يقول لإبراهيم انه يعطي عهده لإبراهيم وذريته (الآية 7 وما بعدها) مع علامة الختان. وفي ذلك اليوم بعينه (الآية 23) وقبل أن يتم الحمل بإسحاق {أخذ إبراهيم ولده إسماعيل وجميع الذكور من أهل بيته وختنهم كما قال له الرب}. وقد حدث ذلك قبل عام على الأقل من ولادة إسحاق. وعندما ولد إسحاق لاحقا ختنه إبراهيم أيضا (21: 4). وهكذا، فطبقا لتعليمات الرب الصريحة تمّ ختان إسماعيل وإسحاق ورسمت عليهما علامة عهد الرب. ومن المعلوم بالطبع أن نسل إسماعيل وإسحاق استمروا في ختان أبنائهم حتى هذا اليوم.

يولي سفر التكوين اهتماما متوازنا بإسماعيل وإسحاق وإبراهيم وسارة جميعا. ففي اليوم نفسه الذي أعطى الرب فيه عهد الختان ـ أي اليوم الذي ختن فيه إسماعيل ـ وعد الرب كذلك بمباركة سارة وجعلها أمّا لأمم كثيرة من خلال ابنها إسحاق بالرغم من كونها تجاوزت سن الحمل والإنجاب. وكان ردّ فعل إبراهيم على ذلك طبيعيا وهو رد فعل أيّ أب بشري يحب وينادي ذريته. إبراهيم قائل: «ليت إسماعيل يحيا في رعايتك » (الآية 18). وبالطبع لا يعني ذلك أنه لا يريد بركة الرب أيضا لابنه إسحاق الذي سيولد لاحقا ـ كل ما يريده هو أن يتأكد من أن ابنه إسماعيل البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما تشمله كذلك بركة الرب.
تتضمن الاستجابة المبدئية لرجاء إبراهيم حرف الاستدراك " أبل " التي لها صلة بالحرف العربي " بل “. وفي أكثر النصوص قدما كسفر التكوين فإن معنى أبل أقرب إلى الحرف العربي " إِنَّ" التوكيدية. وتحتوي هذه الكلمة بصورة خفيّة على تأنيب خفيف لإبراهيم لعدم استماعه لما كان الرب يقول له. وفي الوقت ذاته وبعد أن يعيد الرب تأكيد وعده لسارة يطمئن إبراهيم قائلا له: «أما إسماعيل فقد استجبت لطلبك من أجله وسأباركه حقا». (الآية 20). وختم كل من إسماعيل وإسحاق بالعلامة الجسدية الخاصة بعهد الوعد والمسؤولية، وتلقى كلاهما البركة، الأمر الذي يعني أنهما يرثان المسؤولية في أن يصبحا بركة للآخرين.

· البركة لجميع الناس:
يصف الأنبياء العبريون إسرائيل بأنها نور للأمم (إشعياء 42: 6) ويتطلعون إلى ذلك الزمن الذي يتوسع فيه عهد الرب ليشمل الناس أجمعين. ونحن نقرأ في (إشعياء 56: 6 ـ 7) ما يلي: «وأما الغرباء المنضمون إلى الرب ليخدموه ويحبوا اسمه ليكونوا له عبيدا.. ويتشبثون بعهدي، فهؤلاء آتي بهم إلى جبلي المقدس وأفيض عليهم الفرح في بيت صلاتي وتكون محرقاتهم وقرابينهم مقبولة على مذبحي لأن بيتي سيدعى بيت الصلاة لجميع الأمم».
عندما نعود إلى الإنجيل نجد الكلمات المذكورة أعلاه بلسان إشعياء على شفتي المسيح وهو يذكر أتباعه اليهود بالغرض الشامل للرب (مرقس 11: 17). ويحمل الحواري بولس الاهتمام ذاته، فهو يعلّم المسيحيين الجدد أن المسيح هو بذرة إبراهيم الذي يوسّع الرب من خلاله الوعد والمسؤولية لتشمل الناس أجمعين. ويكتب بولس إلى المسيحيين في غلاطية رسالة تقول: «وقد وجهت الوعود لإبراهيم ونسله، ولا تقول «وللأنسال»، إشارة إلى كثيرين، بل يشير إلى واحد، إذ يقول: «ولنسلك» يعني «المسيح ». وتقول الرسالة: «وإذا كنتم للمسيح فأنتم إذن نسل إبراهيم وحسب الوعد وارثون». (الرسالة إلى مؤمني غلاطية) (3: 16، 29). وترد هذه التوجيهات عبر الإنجيل كله، وبذلك فإن كل من يؤمن بالمسيح، يعتبر أمام الرب ابنا له ويرث وعد تلقي البركة ووعد حمل المسؤولية لمباركة الآخرين. ومثل هذا الأمر لا ينفي المكانة الخاصة التي يحتلها أنسال إبراهيم الجسديين (والتي تؤكد عليها كل نصوص الإنجيل)، ولكن الإنجيل يوضّح أن الناس من الأمم الأخرى التي تعتنق المسيح هم أيضا ضمن ورثة العهد الإبراهيمي.
وعلى غرار التوراة، يذكّر الإنجيل أيضا بأن الله لا يباركنا لمجرد المباركة فحسب، إذ هو عندما يباركنا أو يبارك شعبنا فإنه يهدف إلى أن يجعل منا بركة لجميع الناس. وتقول الرسالة إلى مؤمني غلاطية (13: 13 ـ 14) ما يلي: «إن المسيح حرّرنا بالفداء من لعنة الشريعة... لكي تصل بركة إبراهيم إلى جميع الأمم في المسيح يسوع». غير أن هناك تأكيدا جديدا هاما في الإنجيل يقول بأن التعميد (الذي يشمل الرجال والنساء على حدّ سواء) قد عوّض الختان المعتبر علامة خارجية تتعلق بالعهد (الرسالة إلى مؤمني غلاطية 3: 27 ـ 29، الرسالة إلى مؤمني كولوسي 2: 11 ـ 12). ولا يعني ذلك أن الأنسال الجسديين لإبراهيم لا يجب أن يختنوا.
هناك عنصر آخر هام للعهد في الإنجيل يتمثل في التغيّر الحياتي الذي تحدثه بركة الله. فعندما يعظ الحواري بطرس اليهود في القدس لأول مرة فإنه يربط البركة التي وعد بها إبراهيم بالمسيح ودوره في أن يطهّر كل الناس من لؤمهم (أعمال الرسل 3: 25) وهنا فإن بركة إبراهيم لشعب الله المختار ـ تتضمن دعوة إلى الندم ـ وهي دعوة للعودة إلى الله من خلال يسوع المسيح. ففي المسيح تعتبر الدعوة والوعد والمسؤولية الكامنة في دعوى " شعب الله المختار " موجهة إلينا جميعا بغض النظر عن خلفيتنا العرقية أو انتمائنا القومي. وعلينا أن نقرر فيما إذا كنا سنعود إلى الله من خلال المسيح ونتلقى بركة الله ونصبح بركة لجميع شعوب الأرض.
من خلال رواية التوراة لتاريخ اليهود نجد أنهم لم يكونوا في غالب الأحيان أوفياء لمسؤولية منح البركة للشعوب الأخرى. وإذا ما كنّا أمناء مع أنفسنا ومع شعبنا فإن علينا أن نعترف أننا نحن أيضا لم نكن دائما أوفياء لمسؤوليتنا تجاه جميع الناس، لأنه، إذا كان الله باركنا شخصيا، أو إذا كان بارك شعبنا، فإن هذه البركة تحمّلنا مسؤولية حمل البركة للآخرين


جوزيف كومنج


======================