عشاق الله

ألسنة النار

نادر عبد الأمير

“وبَعدَ ذلِكَ، في يومِ عِيدِ الخَمسينَ وبَينَما كانَ أتباعُ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) مُجتَمِعينَ في بَيتٍ في القُدسِ،  إذا بصَوتٍ هادِرٍ يأتي مِن السَّماءِ كأنّهُ الرِّيحُ العاصِفُ يَملأُ أرجاءَ المَكانِ الّذي كانوا مُجتَمِعينَ فيهِ،  ورافَقَ الصَّوتَ ما يُشبِهُ ألسِنَةً مِنَ النّارِ تَفَرّقَت واستقَرَّت على رأسِ كُلِّ المُجتَمِعينَ الّذينَ حَظوا جَميعًا بَعدَئذٍ بفَيضٍ مِن رُوحِ اللهِ، فانطَلَقَت ألسِنتُهُم بِلُغاتٍ مُختَلِفةٍ عن لُغتِهِم، وذلِكَ حَسَبَ إمداداتِ رُوحِ الله وقيادَتِهِ لهُم.” ( أعمال الرسل 2 : 1-4)

وعد السيد المسيح الحواريين بعد قيامته قائلاً لهم : " وسأُرسِلُ إليكُم رُوحَ اللهِ كَما وَعَدَ اللهُ أبي الصَّمَدُ، فامكُثوا في المَدينةِ المُقَدَّسةِ حتّى أوانِ حُلولِ الرُّوحِ عليكُم فتَغمُرُكُم قوّةٌ سَماويّةٌ." ( لو 24 : 49 )، وأعاد عليهم هذا الوعد الكريم قبيل ارتفاعه قائلاً : "بل عِندَ تَجَلّي رُوحِ اللهِ القُدّوسِ عليكُم، تَحظَونَ بِالقُوّةِ والسُّلطانِ، فتَكونونَ لي شُهودًا في القُدس، وفي مَناطقِ يَهوذا والسّامرةِ، وسائرِ أصقاعِ الأرضِ"" ( أعمال الرسل 1 : 8)

وقد تحقق وعده ذلك في يوم الخمسين Pentecost. فما معنى يوم الخمسين؟ لقد كان أحد أهم الأعياد الكبيرة لدى بني إسرائيل. وكان مرتبطاً لديهم بموسم حصاد الغلال، وذلك من خلال تقدمة باكورة المحاصيل الأولى في الهيكل كما نقرأ في كتاب الخروج من العهد القديم "عيّدوا عيد حصاد بواكير غلاتكم التي تزرعونها في الحقل عند نهاية السنة ... احملوا أوائل بواكير أرضكم إلى بيت الرب إلهكم" (خروج 23: 16، 19). لقد كان في البداية عيدا للتقرب إلى الله من خلال تقديم بواكير الحصاد لها، وحمده على كل عطاياه ونعمه. بعد ذلك، تطور مفهوم هذا العيد ليصبح مقترنا بذكرى نزول الشريعة في جبل سيناء، لأن الشريعة نزلت خمسين يوماً بعد الفصح. ثم بعد ذلك، أصبح هذا العيد لدى المؤمنين أتباع المسيح رمزاً للحصاد الروحي والرسالة المكتوبة في قلوب الحواريين.

فقد حدث بعد صعود سيدنا عيسى أن حوارييه كانوا مجتمعين في اليوم الخمسين بعد عيد الفصح، عندما حل الروح القدس عليهم دفعة واحدة وكنفس واحدة، وبقوة عجيبة. وقد صاحبت ذلك الحلول ظواهر خارقة للطبيعة: فقد سمع بغتة صوت من السماء "مندفعاً" كريح عاصفة دون أن تكون هناك ريح. وكان الصوت مجهول المصدر لكنه كان مسموعاً للجميع. ثم رأى المجتمعون ألسنة منقسمة كأنها ألسنة من نار، نزلت على كل واحد منهم. كما صار المجتمعون يتكلمون بألسنة ولغات مختلفة.

”وسيَجُودُ اللهُ الأبُ الرَّحمنُ عليكُم بمُعينٍ آخَرَ مِثلي أطلُبُهُ أنا مِنهُ يَبقى مَعَكُم إلى الأبَدِ" (يوحنا 14: 16). والمعزي في الأدب اليوناني القديم تعني "شخصا يدعى للمساعدة" في المحكمة مثل المحامي أو المستشار القانوني أو ما شابه. وقد تحقق وعد سيدنا عيسى ذلك، لأن وعده حق. فالحواريون كانوا مجتمعين لذكرى يوم الخمسين بالذات حين حل الروح القدس عليهم.

يمكن القول أن سيدنا عيسى فعلا شرح تعاليمه وبشكل واضح لحوارييه، إلا أنهم لم يكن بمقدورهم فهمها كما ينبغي إلا عندما نالوا الروح من الأعالي، وهذا الروح هو الذي فتح أمامهم أبواب كل الحقيقة. لقد علّمهم أقوال السيد المسيح وذكّرهم وقواهم وأعطاهم نورا يُعينهم على كشف عمق ما رأوه وسمعوه. ذلك أن الروح القدس هو المؤيد الكبير للإيمان الذي نحمله منذ عمادتنا. والروح القدس هو الذي يحثنا على إعلان إيماننا. وكما أن سيدنا عيسى مُسح بالروح القدس في نهر الأردن في بدء رسالته، هكذا احتاج الحواريون المَسح من الروح القدس، لكي يحملوا بقوة البشارة المعطاة لهم.