عشاق الله

ابـن رشـد

  ابـن رشـد

حياته:

أبو الوليد محمد بن أحمد ابن محمد بن رشد، المعروف عند الغربيين في القرون الوسطى باسم أفروس Averroes؛ ولد بقرطبة عام 520هـ(1126م). وكان جده قاضي قرطبة، وقد خلف عدة مؤلفات قيمة؛ كما كان أبوه قاضياً كذلك. ودرس ابن رشد في مسقط رأسه الفقه والطب، ومن شيوخه أبو جعفر هارون وهو من مدينة ترجيلة Truxillo بالأندلس. وقد كان ابن رشد عام 548هـ(1153م) بمدينة مراكش، ويحتمل أن يكون ابن الطفيل قد رغّبه في الرحلة إليها. وهناك قدمه هذا الفيلسوف إلى أبي يعقوب يوسف الموحدي فشمله برعايته. وهذه المقابلة (المراكشي: المعدب في تلخيص أخبار المغرب، طبعه دوزي ص 174 – 175) لا تزال معروفة حتى اليوم، فقد ذكر ابن رشد أن الخليفة عندما سأله عن رأي الفلاسفة في السماء هل هي جوهر قديم أم حادث، امتلأ رعباً ولم يحر جواباً، فهش له الخليفة وبدأ يبسط هذه المسألة بنفسه ويسرد آراء مختلف العلماء في تثبت ودراية واسعتين يندر وجودهما عند أمثاله من الأمراء؛ وصرفه الخليفة بعد أن أجازه. وقد أشار عليه ابن الطفيل بشرح كتب أرسطو وقال له إن أمير المؤمنين كثيراً ما يشكو من غموض فلاسفة الإغريق، أو قل من الترجمات التي كانت موجودة في ذلك الحين، وأنه ينبغي عليه أن يضطلع بشرحها.

ولقد ولى ابن رشد القضاء بإشبيلية عام 565هـ، ثم ولى القضاء بقرطبة عام 567هـ، ورغم اشتغاله مما تتطلبه تلك المناصب من أعباء فقد صنف أهم كتبه في ذلك العهد. ونجده عام 578هـ في مراكش، وكان قد استدعاه واليها يوسف ليكون طبيبه الخاص بدلاً من ابن الطفيل الذي كان قد طعن في السن، وبعثه الخليفة بعد ذلك إلى قرطبة قاضياً لقضاتها.

وكان ابن رشد موضع رعاية يعقوب المنصور – خليفة يوسف – في بداية حكمه ولكنه فقد رضاه بعد ذلك لأن الفقهاء كانوا قد قاموا في وجه مصنفاته واتهموه في بالمروق، وحوكم من أجل ذلك، ونفي إلى اليسانة بالقرب من قرطبة. وأمر الخليفة في نفس الوقت بإحراق كتبه في الفلسفة ما عدا الطب والحساب والمواقيت (حوالي عام 1195م) ويلاحظ دنكان مكدونلد Duncan Macdonald أن أوامر الخليفة الموحدي – الذي كان حتى ذلك الحين نصيراً للفلسفة – لا بد أنها صدرت إرضاء لمسلمي الأندلسي الذين كانوا أكثر تمسكاً بالسنة من البربر. والواقع أن الخليفة كان في ذلك الوقت منشغلاً بمحاربة النصارى في الأندلس. وما إن رجع الخليفة إلى مراكش حتى ألغى أوامره وقرب إليه ابن رشد ثانية D. Macdonald: Development of muslim Theology: نيويورك 1903، ص 255).

ولما عاد ابن رشد إلى مراكش لم يستمتع طويلاً بحظوته عند الخليفة إذ توفى في التاسع من صفر عام 595 (1198م) ودفن بقرب تلك المدينة خارج باب تاغزوت.

مؤلفاته:

ولم يبق من مؤلفات ابن رشد باللغة العربية إلى القليل، فقد بقي لنا منها كتابه "تهافت التهافت" وهو رد على كتاب الغزالي المشهور "تهافت الفلاسفة" (انظر بحث Miguel Asin وPalacios في معنى كلمة "تهافت" في كتب الغزالي وابن رشد: المجلة الإفريقية، العددين 261، 262 عام 1906، ص 202 بنوع خاص) وشروحه الوسطى على كتابي الشعر والخطابة لأرسطو (نشرها وطبعها لأزينيو Lasinio) ورسالة في المنطق ملحقة بشرحيه على الكتابين السابقين. وتعليق على بعض قطع من شرح الإسكندر الأفردويسي على كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو، (انظر J. Freudenthal وS.Fraenkel، بحثهما المذكور في المصادر) والشرح الأكبر على "ما بعد الطبيعة" ويوجد في ليدن (Cat. Cod. Orient، رقم 2821). وكتاب جوامع كتب أرسططاليس، بمجريط (انظر Cata-: Guill&eactute;n Robles Logo.., Bibl. Nacion، رقم 27؛ وانظر Notes sur les manus: H. Derenbourg ar. de. Madrid رقم 37 في Homenje à D. Franc Codera ص 577 وما بعدها) وهو عبارة عن مجموعة شروحه الصغرى على كتب أرسطو الآتية: الطبيعات، السماء والعالم الكون والفساد، الآثار العلوية، النفس، وبعض مسائل فيما بعد الطبيعة (انظر أيضاً Le Com-: H. Derenbourg mentaire Arabe d'Averroès sur quelques petits &eactute;crits physiques d'Aristote في Archiv für Gesch der Philosophie، جـ18، 1905، ص 250) ورسالتان طريفتان عن الصلة بين الدين والفلسفة درسهما ليون غوتييه Lion Gauthier وميجيل أسين Miguel Asin، تسمى إحدهما "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" والأخرى "كتاب مناهج الأدلة في علم الأصول" وقد نشر مولر J.Müller هاتين الرسالتين وترجمهما إلى الألمانية ونشرا بالقاهرة معاً بعنوان "كتاب فلسفة ابن رشد" (1313، 1328هـ) وبقيت أيضاً بعض مصنفاته مكتوباً نصها العربي بحروف عبرية: مختصر في المنطق، الشرح الأوسط لكتب "الكون والفساد" و"الآثار العلوية" و"النفس"، وشرحه "للطبيعيات الصغرى" (المكتبة الأهلية بباريس، رقم 303 و317) وشروحه على "السماء والعالم" و"الكون والفساد" والآثار العلوية بمكتبة بودلين (Uri، ص 86، الفهرس العبري) – (انظر رينان: ابن رشد، الطبعة الثالثة، ص 83).

وشروح ابن رشد لكتب أرسطو التي اشتهر أمرها على ثلاثة أنواع أو قل إنه شرح كل كتاب من كتب أرسطو شروحاً ثلاثة: فثمة شرح أكبر، وشرح أوسط، وشرح أصغر. وهذا التأليف الثلاثي يتمشى مع مراحل التعليم الثلاث المعروفة في الجامعات الإسلامية، فالشرح الأصغر يدرس في العام الأول، والأوسط في العالم الثاني، والأكبر في العام الثالث. وكانت تدرس العقائد على هذا النحو أيضاً.

رأينا فيما تقدم ما بقي من كتبه بالعربية، ونذكر الآن ما بقي منها باللاتينية والعبرية: شروحه الثلاثة على "الأنالوطيقا الثانية" و"الطبيعيات" و"السماء والعالم" و"النفس" و"ما بعد الطبيعة". ولقد فقدت شروحه الكبرى على كتب أرسطو الأخرى، كما فقدت كل شروحه على كتاب "الحيوان".

وكتب ابن رشد كذلك شرحاً لجمهورية أفلاطون، ونقد منطق الفارابي وطريقته في فهم أرسطو، كما ناقش بعض أنظار ابن سينا، وعلق على عقيدة المهدي ابن تومرت. وصنف كتباً مختلفة في الفقه (كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد، القاهرة 1329هـ) والفلك والطب. وكان لكتابه في الطب المسمى "الكليات" – الذي حُرف في الترجمات اللاتينية باسم Colliget – بعض الشأن في العصور الوسطى، بيد أنه لم يكن يضارع بأية حال ما كان لكتاب ابن سينا المسمى "القانون". (يوجد كتاب "الكليات" مخطوطاً بغرناطة، انظر دوزي في Zeitschr. d. Deutsch. Morgenl. Gesell.، جـ36، 1882م، ص 343؛ وبسنت بطرسبرج، انظر فهرس دورن، رقم 124، وربما كان بمجريط، انظر فهرس Robles، رقم 132؛ وانظر Notes etc.: H. Derenbourg، رقم 132، وفي Homenaje، ص 587 وما بعدها).

مذهبه الفلسفي:

ولا يمكننا أن نعتبر فلسفة ابن رشد فلسفة مبتكرة (انظر في هذا الحكم: رينان في كتابه عن ابن رشد ومدرسته، الطبعة الثالثة، ص 88) لأنها فلسفة تلك المدرسة التي نحا أفرادها منحى اليونان وعرفوا "بالفلاسفة" (انظر مادة "فيلسوف") والتي أخذ بها من قبله الكندي والفارابي وابن سينا في الشرق، وابن باجه في الغرب. ولا شك أنه خالف هؤلاء الفلاسفة العظام الذين سبقوه في عدة مسائل، إلا أن تلك المسائل كانت في الدرجة الثانية من الأهمية. وبالجملة فقد تبع ابن رشد نفس مذهب أولئك الفلاسفة وطريقتهم في التفلسف.

وعلى هذا فإن شهرة ابن رشد ترجع في الأغلب إلى عمقه في التحليل وقدرته على الشرح، وهما صفتان يصعب علينا اليوم أن نقدرهما حق التقدير لاختلاف طرائق تفكيرنا ومناهجنا العلمية، ومع أن هاتين الصفتين كانتا موضع تقدير علماء القرون الوسطى، وخاصة في الأوساط اليهودية والنصرانية. وكان الإعجاب بشروحه عظيماً حتى بين رجال الدين الذين كانوا يرون في مذهبه خطراً يهدد العقيدة.

وقد هاجم رجال الدين في الشرق الإسلامي الفلاسفة في عنف، وكان كتاب "تهافت الفلاسفة" الذي نقد الغزالي فيه الفارابي وابن سينا على الخصوص أهم أثر لهذا النزاع. أما في الغرب فقد هاجمهم أولاً فقهاء الأندلس من المسلمين، ثم علماء اللاهوت من النصارى عندما نقلت إليهم شروح ابن رشد. وحرم أساقفة باريس وأكسفورد وكانتربري في القرن الثالث عشر الميلادي قراءة مصنفات ابن رشد لنفس الأسباب التي حدت بفقهاء الأندلس إلى تحريم قراءتها.

وأهم ما في مذهب ابن رشد من المسائل التي اتهم من أجلها بالزندقة ما يأتي: قدم العالم، وعلم الله وعنايته، وكلية النفس والعقل، والبعث. وقد يبدو ابن رشد في سهولة أنه كان يخالف الشريعة في هذه المسائل المختلفة، على أنه لم ينكر العقيدة ولكنه فسرها على وجه جعلها تتمشى مع الفلسفة.(1)

ففي مسألة قدم العالم لم ينكر ابن رشد أنه مخلوق، ولكنه جاء برأي في الخلق خالف فيه المتكلمين بعض المخالفة. فالخلق عنده لم يكن دفعة واحدة، أي مسبوقاً بالعدم، ولكنه خلق متجدد آناً بعد آن، به يدوم العالم ويتغير؛ وبمعنى آخر: هناك قوة خالقة تفعل باستمرار في هذا العالم وتحفظ عليه بقاءه وحركته. والأجرام السماوية على وجه خاص لا توجد إلا بالحركة، وهذه الحركة تأتيها من القوة المحركة التي تؤثر فيها منذ الأزل؛ فالعالم قديم ولكنه معلول لعلة خالقة ومحركة، والله وحده قديم لا علة له.

أما فيما يختص بعلم الله فإن ابن رشد يأخذ بذلك الأصل الموضوع الذي قالت به الفلاسفة من قبل وهو "أن المبدأ الأول لا يعقل إلا ذاته"، ولا بد أن يكون الأمر كذلك عند هؤلاء الفلاسفة، حتى يحتفظ المبدأ الأول بوحدانيته، لأنه إذا عقل كثرة الموجودات صار متكثراً في ذاته. وإذا دققنا النظرفي هذا الأصل فإن الموجود الأول يجب ألا يعدو حدود ذاته لأنه لا يعقل غير ماهيته، ويترتب على هذا أن تصبح العناية أمراً مستحيلاً. وذلك هو المأزق الذي كان يجتهد المتكلمون أن يدفعوا الفلاسفة إليه.

ولكن مذهب ابن رشد كان أكثر مرونة مما يظن، لأنه يذهب إلى أن الله يعقل الأشياء في ذاته، وهو لا يعقلها على وجه كلي أو على وجه جزئي كما نعقلها نحن، ولكنه يعقلها على وجه أسمى يدق عن إدراكنا (انظر مادة فلسفة). فعلم الله لا يمكن أن يكون كعلم الإنسان، لأنه لو كان كذلك لكان لله شركاء في علمه ولما كان إلهاً واحداً. وفوق ذلك فإن علم الله لا يستمد من الموجودات كما هو الحال عند الإنسان، فهو علم لم تسببه الموجودات بل هو على عكس ذلك على كل الموجودات. فليس من الصواب إذاً أن نقول كما قال المتكلمون إن مذهب ابن رشد ينكر العناية الإلهية.

أما فيما يتعلق بمسألة النفس فقد اتهم ابن رشد بأنه يذهب إلى أن النفوس الفردية تندمج في النفس الكلية بعد الموت، وأنه ينكر على هذا النحو خلود كل نفس إنسانية على انفرادها. وليس هذا من الحق في شيء، إذ إنه يجب أن نميز في مذهب ابن رشد – كما في مذاهب غيره من الفلاسفة – بين "النفس" و"العقل"؛ فالعقل مجرد غاية التجريد مخلص عن المادة، ولا يكون بالفعل إلا إذا اتصل بالعقل الكلي أو العقل الفعال؛ وما نسميه عقلاً عند الإنسان ليس إلاّ قوة أو استعداداً لقبول المعقولات الصادة عن العقل الفعال، وتسمى هذه القوة "العقل المنفعل"، وهي ليست موجودة بالفعل وإنما يجب أن تخرج إلى الفعل وأن تصير "عقلاً مستفاداً"، فهي إذاً تتصل بالعقل الفعال الذي هو محل المعقولات الأزلية الأبدية، وباتصالها بهذا العقل الفعال تصير بدورها أبدية.

وليس الأمر كذلك في النفس، لأن النفس عند هؤلاء الفلاسفة هي القوة المحركة التي تحيي الأجسام الطبيعية الآلية (العضوية) وتغذيها وتنميها؛ هي نوع من القوة يحيى المادة، وليس مخلصاً من غواشيها كخلوص العقل، بل هو على عكس ذلك شديد الاختلاط بها، حتى إن النفس قد تكون متكونة مما يشبه المادة أو من مادة لطيفة بالغة اللطف. وهذه النفوس الإنسانية "صور" للأجسام" وهي لذلك لا تتقوم بها بل تبقى بعدها وتستطيع أن تحيا منفردة بعد فناء الأجسام.

وليس هذا البقاء عند ابن رشد إلا مجرد إمكان فحسب، فهو لا يعتقد أن الأدلة الفلسفية البحتة تستطيع أن تعطينا برهاناً قاطعاً على خلود النفس إذا تصورناها على هذا النحو. وحل هذه المسألة متروك إلى الوحي (تهافت التهافت، ص 137).

وقد اتهم المتكلمون فيلسوفنا أيضاً بأنه أنكر بعث الأجسام مع أن مذهبه في هذه المسألة أقرب إلى التمشي مع العقيدة من إنكارها. فهو يقول إن أجسامنا في الحياة الأخرى لن تكون عين الأجسام التي لنا في هذه الحياة، ذلك لأن الجسم الذي يفنى لا يبعث بعينه وإنما يبعث شيء يشبهه. والحياة الأخرى عند ابن رشد ستكون أكثر كمالاً من الحياة الدنيا، وعلى هذا فإن أجسامنا في الحياة الأخرى سوف تكون أكثر كمالاً منها في هذه الحياة. على أن ابن رشد لا يقر تلك الأساطير والتصورات التي تصاغ عن الحياة الأخرى.

ولما كان أهل السنة قد هاجموا هذا الفيلسوف أكثر من الفلاسفة الذين تقدمونه، فقد حدد أكثر من هؤلاء الصلة بين الحكمة والشريعة، وبسط مذهبه في هذه المسألة في الرسالتين اللتين سبق ذكرهما وهما "فصل المقال" و"مناهج الأدلة".

وأول مبادئه في هذه الصلة هو أن الحكمة ينبغي أن تتمشى مع الشريعة، وقد أخذ بهذا المبدأ جميع فلاسفة الإسلام. ويمكننا أن نقول إن هناك حقيقتين أو بديهيتين هما الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية. ويجب أن تتفقا معاً. فالفلاسفة أنبياء على أسلوبهم يتوجهون بتعاليمهم إلى العلماء خاصة. ويجب في تعاليمهم ألا تتعارض مع تعاليم الأنبياء الحقيقيين الذين أرسلوا إلى جمهور الناس بنوع خاص. وعلى تعاليم الفلاسفة أن تؤدي الحقيقة الدينية عينها ولكن في ثوب أكثر كمالاً وأقل مادية.
ويجب أن نفرق في الدين بين المعنى الحرفي والمعنى الذي يحتاج إلى التإويل، فإذا بدا لنا أن في القرآن نصاً يتعارض والنتائج الفلسفية فعلينا أننعتقد أن هذا النص له معنى آخر يخالف المعنى الحرفي، وعلينا أن نبحث عنه. وواجب العامة أن يتمسكوا ألمعنى الحرفي، أما العلماء فشأنهم التأويل. وعلى العامة من الناس أن يقبلوا القصص والرموز كما ينص عليها الوحى. أما الفلاسفة فلهم الحق في أن يستخلصوا المعاني العميقة المجردة التي تنطوى عليها تللك النصوص. ويجب على العلماء أن يأخذوا أنفسهم بألا يذيعوا تأويلاتهم في العامة.

وقد بين ابن رشد كيف ينبغي أن يعلم الدين تبعاً لمدارك الناس، فقسم الناس تبعاً لمواهبهم العقلية إلى ثلاث طبقات: الأولى - وهي أوسع الطبقات - تتألف من هؤلاء الذين يوعظون بكلام الله فيؤمنون، وهم لا يستجيبون إلا للخطابيات؛ والثانية تتألف من أولئك الذين يتم اعتقادهم بعد البرهان، ذلك البرهان الذي يعتمد على مقدمات سبق أن اعتقدوا بها وليست موضع نقد عندهم؛ والثالثة- وهي أقل الطبقات- تتألف من أولئك الذين لا يعتقدون إلا بعد أدلة تستند إلى مقدمات يقينية وثيقة.
وهذا الأسلوب من تعليم الدين وفقاً لمدارك الناس يدل على أن ابن رشد كان عالماً نفسياً خبيراً، ولكن قد يستهدف صاحب هذا الأسلوب إلى الإتهام بالغرض، ومن ثم نفهم لماذا أثاار هذا الأسلوب شكوك رجال الدين.


تعليق علي فلسفة ابن رشد:

ولسنا نعتقد بعد هذا كله أن ابن رشد كان مارقاً على الدين حاول أن يحتمي من هجمات أهل السنة بما ذهب إليه من تأويلت تتفاوت قوة و ضعفاً، بل نعتقد أنه كان ينزع - مثل كثير من علماء المشرق - إلى التوفيق بين الذاهب المتضاربة، قائلاً بإخلاص إن الحقيقة الواحدة يمكن أن يتصورها الإنسان بصورة مختلفة، ووصل بفضل مقدرته الفلسفية العظيمة إلى التقريب بين المذاهب التي تبدو واضحة التنافر لدى العقول القليلة المرونة. وقد نقل شروح ابن رشد إلى العبرية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر يعقوب الأنطولي (1232م) وهو من مدينة نابلي، وموسى بن تبّون(1) (1260م) وهو مدينة لونيل، وقلونيموس(2) (1314م)، وشموئيل بن تبون(3)، ويهودا بن سليمان كوهين (1247م) وهو من مدينة طليطلة، وشم طوب بن يوسف بن فلقرى. وقد شرح ليون بن جرشون(4) كتب ابن رشد، كما شرح ابن رشد كتب أرسطو. وفي العالم المسيحي بدأ كل من ميخائيل سكوت وهرمان- وكانا يتصلان ببت هوهنشتاوفن- بنقل مصنفات ابن رشد من العربية إلى اللاتينية عام 1230، 1240م. وحوالي نهاية القرن الخامس عشر أصلح كل من نيفوس وزيمارا الترجمات القديمة. وقد ترجم كتب ابن رشد ترجمة جديدة معتمدة على النص العبري: يعقوب منتينو الطرطوشي، وأبراهام ده بالمز، وجيوفاني فرنسسكو بورانا من فيرونا. وكان نيفوس (1495-1497م) ويونتاس (1553م) أفضل من ترجم ابن رشد.
-----------------------