كن الصوت لا الصدى
ونحن ننتقل من موسم الغفران إلى موسم الشجاعة، كنت أفكر في كلمة الشجاعة. ما الذي تعنيه حقا؟ كنت في العراق بعد الغزو الأمريكي بقليل أقدم يد المساعدة هنا وهناك عندما قتل أربعة من زملائي. هل تلك هي الشجاعة؟
الشجاعة أحيانا لا تعني مواجهة عنف جسدي ما بل هي في الحقيقة الاعتراف بالخطأ. الانتقال من الشرف إلى الإحساس بالعار يحتاج إلى شجاعة حقيقية. ويصبح الأمر أصعب عندما يتطلب ذلك الاعتذار أيضا. لقد تم إعلان وعد بلفور منذ 100 سنة. ومنذ تلك الفترة وتاريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يؤثران في واقعنا اليوم، وسوف ظلان يؤثران على واقع أبنائنا غدا. لذلك نحن بحاجة إلى الشجاعة لمواجهة الأمر وتغيير مستقبلنا.
كتب لي صديق لبناني قبل مدة قصيرة يحدثني عن سيدة تركية من أتباع السيد المسيح جاءت إلى لبنان، وكانت تبكي وتعتذر عما قاساه شعب لبنان من معاناة في الماضي على يد الإمبراطورية العثمانية. وقد أثر هذا الأمر كثيرا في صديقي حتى أنه أخذها هو وزوجته في حضنهما وصليا بحرقة إلى الله لأجل الغفران والمصالحة.
أخبرني هذا الصديق أن الله منح الشجاعة لآخرين أيضا من تركيا. فقد ذهب بعض القادة الأتراك إلى زعيم أرمني واعتذروا له عن الإبادة الجماعية والأعمال الوحشية التي مارستها تركيا على الشعب الأرمني. فالذهاب إلى الشعب الذي كان عدوا لك والاعتذار له خطوة شجاعة بحق.
قال لي هذا الصديق أيضا: "لا أحد يستطيع أن ينكر فظائع الإبادة الجماعية ضد الشعب الأرمني، لكنني أومن بقوة أن الغفران هو شفاء لكل ذلك، وهذا ما يريده المسيح حقا، وإلا ما الذي يجعل أتباعه مختلفين عن الآخرين؟".
وقال لي أنه وصل إلى خلاصة مفادها أن عدم الغفران يتحول إلى نير أقوى من الحديد الصلب حول عنق كل من لا يغفر. لكن تلزمنا حقا الشجاعة للعمل بوصية سيدنا عيسى المسيح "أحبوا أعداءكم". فمحاربة الأعداء شكل واحد من أشكال الشجاعة، لكن الشكل الأمثل والمطلوب لها هو محبة الأعداء.
تجدر الإشارة إلى ان دعوة السيد المسيح في اتخاذ الخطوة الشجاعة لمحبة الأعداء تخص كل أهل الكتاب، كل اليهود وكل المسلمين: كل الذين يؤمنون بسيدنا عيسى المسيح. فلا أحد بإمكانه الادعاء أن دعوة محبة الأعداء لا تخصه.
قبل بضع سنوات عندما كنت في مصر سمعت عن شرطي مجند شاب، لم يكن شرطيا بالكامل بعد، بل شابا يقوم بخدمته في إطار التجنيد الوطني، لذلك لم يكن لديه سلاح. رأى هذا الشاب فتاة تغتصب. فكان لديه خياران إما طلب المساعدة أو إنقاذ الفتاة فورا. ففضل إنقاذ الفتاة فورا، لكن المغتصبين قتلوه. كان ذلك مثالا حيا للشجاعة أيضا، لأن السيد المسيح قال: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ.".
في الوقت الذي تحدث فيه سيدنا عيسى عن محبة أعدائنا، ومباركة لاعنينا، والإحسان لمبغضينا كان شعبه يعيش تحت نير إمبراطورية رومانية شرسة لا ترحم. فالمسألة ليست مسألة ما قد يكون صائبا أو منصفا في أعيننا، بل المسألة الحقيقية مدى استعدادنا رغم كوننا خطاة للسير على خطى المسيح.
لنمش على خطى المسيح. لنسأل الله الشجاعة للسير على خطاه. لنكن صوتا في مجتمعاتنا وليكن صدانا الوحيد هو السيد المسيح.