عشاق الله

الصدق والكذب في الحياة

يعود الصدق والكذب إلى ثنائية الخير والشر في الحياة، فالصدق أحد أوجه الحقيقة التي ليس سهلاً البوح بها كونها تضر بالمصالح الخاصة، على خلافه الكذب يحجب الحقيقة لتحقيق مصلحة خاصة فكلما تراجعت القيم الأخلاقية ساد الكذب والخداع وكلما فُعلت القيم الأخلاقية ساد الصدق والفضيلة في المجتمع.

كما أن الصدق والكذب متعلقان بثقة الفرد بنفسه فإن كان عديم الثقة بالنفس تستر وراء الكذب لإخفاء شخصيته الحقيقية، والفرد ذي الثقة العالية بالنفس يكون صادقاً ويظهر بشخصيته الحقيقية في المجتمع. وقد تفرض أخلاق المهنة قيمها على الفرد بالصدق أو الكذب، فالسياسي لا يمكنه ممارسة مهنة السياسة من دون أن يتقن الكذب والخداع لتحقيق مصالحه الخاصة، وأخلاقية مهنة العلم تفرض نهجها في الصدق ليكتسب النتاج العلمي صدقيته. وقد يسبب الإختلال النفسي أو العقلي أو العاطفي ضعفاً في الشخصية، فتتخذ الكذب سبيلاً لتعاملها مع الآخرين. ويعدّ الكذب أو الصدق نتاجاً لقيم التربية المغروسة في لاوعي الفرد، وفي المقابل فإن زيادة مستوى وعي الفرد يزيد من ثقته بنفسه فيتحاشى الكذب.

يعتقد (( ألبرت إيليس )) " أن انعدام الصدق مع النفس سببه خلل عاطفي أو عقلي في الذات ". يُحدث إختلال آليات العقل ضرراً بالغاً بوظائف الجسد ولا يقتصر على وظيفة ما، لأن آلية الوظائف مرتبطة بمنظومة القيم في الذات، فعند حدوث خلل ما في قيمة اجتماعية كامنة يختل ما يماثلها من قيم أخرى في الذات فإن أختلت قيمة الصدق، كذب الفرد فتنحدر قيمة مماثلة كالخشية من قول الحقيقة ومن ثم تنحدر قيمة أخرى مثل الثقة بالنفس ليصبح مخادعاً... وهكذا يتناسل انهيار القيم الخيرة الكامنة تدريجياً مقابل تنامي القيم الشريرة الكامنة فيؤدي انحداراً بالسلوك ليصبح الفرد شريراً لا يمكن الوثوق بحراكه اليومي في المجتمع. يصف (( نيتشه )) ذلك قائلاً : " إن الرأس حين يخفي الحقيقة يتفنن الفم بالكذب ".

وحين يصبح الكذب ممارسة يومية للفرد في الحياة العامة يرافقه سلوك غير سوي ينال حقوق الآخرين ومع الزمن يختفي الصدق تماماً من حياته ليفقد احترامه في المجتمع، فالذي يكذب بوعي كامل تصبح أفعاله وممارساته منافية للقيم العامة ولا يهتم بسمعته الشخصية طالما تحقق مصالحه الخاصة. وفي المقابل الذي يكون صادقاً يمارس بوعي كامل أفعال وممارسات متوافقة مع القيم العامة للمجتمع للحفاظ على سمعته الشخصية، ليكسب احتراماً من المجتمع.   يقول (( نيتشه )) : " إنه ليس كذبك الذي يُتعبني وحسب، بل ما عُدت أصدقك أبداً ".

وبعدّ الكذب ممارسة يومية للفرد في الحياة العامة، يقابله سلوك غير سوي. ومع الزمن لا يبدي اهتماماً بتعارض سلوكه مع القيم العامة للمجتمع، فيختفي الصدق تماماً من قاموسه الشخصي ويوصم بهذا السلوك غير السوي السياسي تحديداً كونه يسعى إلى إسقاط ذاته الكاذبة على الآخرين وينعتهم بعدم الصدق لخلو قاموسه الشخصي من مفردات الصدق. ويعتقد أن كل ممارساته الكاذبة هي أفعالاً صادقة لا يعيها المجتمع بعدّه ميالاً إلى تصديق الكذب أكثر من إيمانه بالصدق ذاته. ومع الزمن يكذب ويصدق كذبه ويفرض على الآخرين تصديق كذبه ومن ثم يوكل إلى حاشيته تجميل كذبه ويطعن في صدق غيره وينعتهم بالكذب.

يتساءل (( أورهان باموق )) عن أخلاق السياسي قائلاً: " مالذي لا يعرفه السياسي ؟. هل لا يعرف أنه يكذب كثيراً، أم لا يعرف أنه كذاباً ؟ ". الجذر الأساس لقيم الصدق والكذب هو ثنائية الخير والشر السائدة في المجتمع، ولكل منهما سلوك وممارسة محددة بعدّها غرساً تربوياً لمبادئ الصدق أو الكذب في الذات، وفي المحصلة يعدّ الكذب خللاً بمنظومة القيم العائلية المغروسة في لاوعي الفرد الذي اكتسب خلالها عضويته في المجتمع. ومع تراجع منظومة قيمه العامة تظهر سلوكيات وممارسات شاذة منافية لقيم المجتمع ليتخلى من ذاته عن عضويته كفرد مكتسب الاعتراف الاجتماعي، ليصبح بحل من إلتزامه القيمي غير منظور مع المجتمع.

صاحب الربيعي