عشاق الله

مسيحيون ومسلمون

 

مسيحيون ومسلمون

البطريرك ميشيل الصبّاح

كل مسيحي، في العالم كلِّه، ينتسب بصورة طبيعيّة إلى شعبه وبلده. وكذلك المسيحيّون في البلدان العربيّة وفي فلسطين وإسرائيل. هم أيضًا ينتسبون إلى شعوبهم وأوطانهم. أمّا المسيحيّون العرب في إسرائيل فقد سبق وحدَّدْنا معالم هوّيّتهم وقلنا إنهم عرب ومسيحيّون وفي دولة إسرائيل. وفي ضمن هذه الرؤية الثلاثية عليهم أن يحدِّدوا مواقفهم في حياتهم اليومية. 

المسيحيّون، مثل غيرهم، مواطنون كاملو المواطنة. لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها. والدساتير في بلدان الشرق الأوسط تعترف بذلك. والعلاقات مع السلطات المدنيّة والدينيّة جيّدة. وكذلك العلاقات على مستوى الشعب، فهناك عيش معًا وجوار حسن منذ قرون، وتعاون في مختلف المجالات، في الدراسات، والثقافة، والأعمال، والسياسة الخ... إنَّما هناك مجالان مغلقان، وهما العقيدة والأسرة، لا تداخل بينهما، وإن حصل تدخُّلٌ فيهما حصلَ انفجار في المجتمع وتأزُّم في العلاقات، يليه إجراءات ووساطات لإعادة الأمور إلى مجاريها. وهناك حوار بين المؤمنين، لا يتناول العقيدة، بل مجالات الحياة المشتركة لضمان عيش مشترك وتعاون أفضل. وهناك أيضًا بعض الأحداث أو الصدامات تَحدُث طبعًا بين الأفراد، وقد تتحوّل أحيانًا إلى صدام بين الجماعتَيْن، بين المسلمين والمسيحيين. وفي هذه الحال أيضًا، الحكومات ساهرة والجاهات والوسطاء يعملون على المصالحة ووضع حدٍّ للأزمة الطارئة. ويجب القول إنَّ هذه العلاقات، على كلِّ حال، بين المسيحيّين والمسلمين في المجتمع الواحد، لم تبلغ بعد كمالها، فهي مسيرة طويلة وبطيئة يجب العمل على بلوغ الكمال فيها يومًا بعد يوم.

مع ظهور تيّارات دينيّة متطرّفة، بدت الحاجة إلى وحدة جديدة بين المسلمين والمسيحيّين للوقوف صفًّا واحدًا في وجه التغيُّرات ذات الطابع الديني والمتطرِّف والتي تهدِّد المجتمع بكلِّ من فيه.

الحركات الإسلاميّة الدينيّة ترى أن الحلَّ لكلِّ الأزمات يَكمُن في التطبيق الحرفيِّ للشريعة الإسلاميّة على المجتمع في مجالَيْ السياسة والحياة الاجتماعية بكلِّ من فيه، مسلمين أم غير مسلمين. في هذه الحال، الموقف المسيحي هو التالي: أوّلا، الوحدة الوطنيّة بين المسيحيّين والمسلمين للوقوف صفًّا واحدًا في وجه التطرّف الذي يهدِّدهم مسلمين ومسيحيين معًا. وثانيًا، إن وصلت هذه التيّارات الدينيّة يومًا إلى فرضِ سيطرتها على المجتمع، يبقى كذلك مجال كبير للحوار. وإن لم ينجح الحوار، يبقى للمسيحيّ أمر واحد يقوم به: ألا يستسلم للخوف، بل يثبِّت حقَّه في المواطنة ويَثبُت على إيمانه، ويستعدُّ في الوقت نفسه إما للشهادة في سبيل إيمانه بتحمُّل المضايقات اليوميّة في الحياة، وإمَّا للاستشهاد ببذل الحياة نفسِها. وإذا ما انفتح أمام المسيحيّين مرّةً ثانية عصرُ الاستشهاد، كما حصل في القرون الأولى للمسيحيّة مع الإمبراطوريّة الرومانيّة، سيكون ذلك لمنفعة المجتمع كلِّه ولتنقيته، ولتقوية المسيحيّين في إيمانهم ولخلق وجه جديد للمجتمع كلِّه.

ولكن يجب أن نتساءل أيضًا لماذا تنشأ وتنمو هذه الحركات الدينيّة المتطرِّفة. أوّلا، يمكن أن نرى فيها حاجة لدى الناس إلى حياة دينيّة صادقة. وثانيًا، نجد فيها رفضًا لأوضاع بشريّة داخليّة مبنيّة على عدم المساواة والفقر والمظالم في داخل المجتمعات العربية المسلمة، وثالثًا هي رفضٌ لغزو "غربيٍّ" للمجتمعات العربيَّة عبر وسائل الإعلام المتنوِّعة على صعيد القيم والأخلاق. كما هي رفضٌ للتدخُّل "الغربيِّ" على الصعيد السياسيِّ أيضًا. وفيها أخيرا ردَّة فعل على الخلل القائم في العلاقات بين الشعوب. هذا، بالإضافة إلى الصراعات المحتدمة في إسرائيل وفلسطين والعراق.

هذه التيّارات الدينيّة، بكلِّ تعقيداتها وتهديداتها للمسلم وغير المسلم على السواء وللعالم كلِّه، قد تُحكِم يومًا قبضتَها على المجتمع، ما لم تعمل السياسات الداخليّة في البلدان العربية على خلق مجتمعات عادلة وآمنة، وما لم يتجدَّد الإسلام من الداخل فيستجيب لحاجة المؤمنين إلى حياة دينيّة صادقة، ويحُول دون مساعي المتطرِّفين لتحويل الدين إلى أداة للتعصُّب والعنف، وما لم تتوصَّل السياسة العالميّة إلى وضع حدٍّ لمختلف صور الاستعمار الحديث للشعوب.