عشاق الله

المسيحيون العرب ماضيهم ومستقبلهم

  المسيحيون العرب ماضيهم ومستقبلهم

أنطون سابيلا

أن يكون المسيحيون العرب ضمير الامة العربية لا يعني أنهم الضمير الوحيد ذلك لأن العرب عموما من انبل شعوب الأرض من حيث التعامل مع الآخر، ولكن المقصود من هذه العبارة أن نستذكر مع القارئ المواقف الضميرية المشرفة التي وقفها المسيحيون العرب على مدى تاريخهم بالرغم مما تعرضوا له في عهود معينة من إجحاف او حتى إضطهاد من بعض ذوي القربى مما دفع الكثيرين منهم إلى الرحيل عن المنطقة.

والهدف الثاني من حديثنا هو الرد على التساؤل حول ماهية مستقبل الامة العربية بدون المسيحيين العرب. 

ومن البديهي انه لولا وجود حكام ونخب عرب يؤمنون بالتعايش والمصير المشترك لجميع اطياف الامة، من امثال الهاشميين في التاريخ المعاصر والأمويين وبعض الخلفاء العباسيين في الماضي السحيق لكان تاريخ المسيحيين العرب يختلف كثيرا عما نحن بصدد التطرق له في هذه العجالة. 

ولا يخفى على أحد أن التاريخ العربي مرّ بعدة مراحل، أولها العصر الجاهلي وهو العصر الذي شهد ايضا الإنتاج الأدبي الرفيع والغزير، حيث كان للشعراء المسيحيين العرب باع طويل فيه، بمن فيهم النابغة الذيبياني وأمرؤ القيس وعمرو بن كلثوم، صاحب اعظم بيت شعر في الفخر عندما قال:

ملأنا البر حتى ضاق عنّا وماء البحر نملؤه سفينا

وليس بمستغرب أن يعلن العديد من المؤرخين أن العصر الجاهلي كان بمثابة العهد الأول للقومية العربية، وإن كانت قومية اساسها القبيلة والقرابة والنسب. وطبعا فقد سمّي هذا العصر بالجاهلي لأن كثيرين من العرب كانوا يعبدون الأصنام، بالرغم من وجود قبائل عربية متعددة تتبع المسيحية واليهودية. وكيف ننسى فضل سوق عكاظ  الذي كان يجمع القبائل العربية للتنافس على اروع الخطب والقصائد، واشهرها المعلقات السبع والتي أنتج معظمها شعراء مسيحيون عرب.

أما العصر الثاني للعرب فهو الممتد من القرن الأول ميلادي إلى عام 650 ميلادي، وهذا هو عصر المسيحية العربية والحكم الملكي الذي شهد إزدهار الممالك العربية المسيحية في سوريا والعراق لستة قرون. وقد كانت هذه الممالك تجاور الأمبراطوريتين الرومانية والساسانية (الغساسنة في سوريا والمناذرة في العراق)، وكانت علاقة القبائل العربية المسيحية في شبه الجزيرة العربية مع القبائل الأخرى تقوم على التفاهم المتبادل والمودة.

وشهد العصر الثاني إنبثاق روح القومية العربية في اشكالها ووظائفها المتعددة بين المسيحيين العرب، وهو الأمر الذي أسس للتمسك المدهش والرائع لهم بقوميتهم بالرغم من حقبات التمييز والإضطهاد التي مروا بها من أبناء قوميتهم تارة ومن الغزاة الأجانب تارة أخرى. كان هذا العهد هو عهد التنوير والعدالة بإمتياز حيث فتحت المدارس وجرى استقدام المعلمين والفلاسفة العظام لتعليم الفتيان والفتيات في مدارس غير مختلطة. كما أن البلاطين الملكيين في سوريا

  والعراق جرى فتحهما امام الشعراء من داخل وخارج المملكتين، وبدأت عمليات الترجمة التي لعبت لاحقا دورا كبيرا في تقدم العرب واوروبا على مدى التاريخ القديم.  

كانت هذه الممالك العربية علمانية في تركيبها وتصرفاتها. وعلى اساس هذه العلمانية للدولة جرى إقامة العلاقات مع الدول العربية المجاورة في الجنوب ، وكذلك مع روما وبيزنطيه والامبراطورية الفارسيه. ومن هذه الامبراطوريات إستقدمت الممالك العربية المسيحية الخبراء في ادارة الدولة ونظام التعليم  ولكن بقيت ممالك الغساسنة والمناذرة عربية في النفس والروح وحافظت على مثل القوميه العربية والثقافة العربية، وهي الأمور التي إستمر تأثيرها إلى أواخر العهد الأموي.

المرحلة الإسلامية وحّدت العرب تحت خليفة عربي واحد والجميع تحت راية قبائلهم، ولعبت القومية العربية المقترنة بالروح الدينية دورا بارزا في إنتصار العرب المسلمين على الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، بالإضافة إلى هزيمة مملكتي الغساسنة والمناذرة. ولكن هذه الروح القومية العربية منيت بإنتكاسة مفزعة في أواخر العهد العباسي أدت إلى تأخر العرب وتقلد قوميات أخرى مقدراتهم.

وفي التاريخ المعاصر رأينا كيف شارك المسيحيون العرب في النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرون ومساهماتهم في المجالات الفكرية والعلمية والسياسية، ومشاركتهم اشقاءهم المسلمين في السراء والضراء.  بإعتقادي أن إحدى أهم المشاكل التي يواجهها المسيحييون العرب هذه الأيام جهل أجيالهم الناشئة بتاريخهم، علاوة على جهل الشعوب العربية عموما بتاريخ المسيحية بين العرب.

إن احفاد المسيحيين العرب الذين هاجروا إلى المجتمعات الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر يتقلدون اليوم ارفع المناصب في الولايات المتحدة واستراليا وكندا وعدة دول اوروبية، اي انهم قريبون من مواقع القرار الدولي. ولا ابالغ إذا قلت ان قوتهم هي "القوة المنسية"، ومع ذلك فنحن لا نرى أي إهتمام من قبل الدول العربية لتمتين العلاقات بهم. والمشكلة التي يعاني منها هؤلاء انه في ظل غياب التواصل معهم فقد أخذوا يبتعدون عن تاريخهم وواقع اجدادهم، مما ينعكس سلبا على نصرة القضايا العربية.  

أما بالنسبة للمسيحيين العرب في الأوطان الأم فإنني اعتقد جازما أن تدريس تاريخ المسيحية بين العرب كمادة إختيارية أو ضمن مادة تاريخ العرب سيعود على المدى الطويل بالفائدة القصوى على المسلمين والمسيحيين العرب ويحد من الهجرة المسيحية إلى الخارج، لأن من يعرف تاريخه حق المعرفة يصعب عليه أن يفرط بوطنه من اجل الذهاب للعمل وبناء اوطان أخرى، ناهيك عن أن مثل هذه المعرفة ستعزز من الترابط الإسلامي-المسيحي في الدول العربية.  

وفي ما يتعلق بمستقبل الامة العربية بدون مسيحيين عرب، فإن العودة إلى تاريخ العرب كفيل بالرد على هذا التساؤل، ولكن أزيد واقول أن لا مستقبل للمسيحيين العرب بدون اشقائهم المسلمين العرب، مثلما أنه يستحيل أن يكون هناك مستقبل مشرق لكل العرب بدون المسيحيين العرب