عشاق الله

في ميلاد المسيح حسب القرآن

 

في ميلاد المسيح حسب القرآن

الأرشمندريت إيليا طعمه

ما انفك ميلاد المسيح ندياً في ذاكرة المسيحيين والمسلمين. يذّكر هذا الحدث بميلاد السعادة والسلام والفرح. إنه ميلاد المسيح \"كلمته ألقاها إلى مريم\" (النساء، 171). ومريم هي المرأة الوحيدة المذكورة باسمها في القرآن والتي حملتْ سورةٌ من سوَر القرآن اسمها.

سنعرض هنا رواية القرآن عن ميلاد المسيح ونقارنها بما ورد في التراث المسيحيّ ما قبل الإسلام.
تبدأ القصة القرآنية من البشرى الملائكية. يؤمن الإسلام طبعاً ببتوليّة مريم ونقائها حين أتاها الملاك يبشّرها قائلاً: \"إنّما أنا رسول ربّكِ لأهب لكِ غلامًا زكيًّا، قالت أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسَسْني بشرٌ ولم أكُ بغيًّا\" (مريم، 19-20). إن سؤال مريم التعجبي يبدو وكأنه صدىً لما يرويه لوقا في إنجيليه عن لسان العذراء: \"كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً\" (لوقا 1: 34). وينكر القرآن كلّ تدخّل بشريّ في حمل السيّدة مريم بابنها، فهو وُلد منها بصورة معجزة. حتّى أنّ القرآن يدافع عن البتول ويلعن اليهود الذين شكّوا بحبل مريم فاتّهموها باطلاً بالزنا، فيقول: \"وَبكُفرهم (أي اليهود) وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا\" (النّساء، 156).

أما بخصوص الحبل به فيقول فخر الدين الرازي، أحد اكبر مفسّري القرآن، أنّ مريم حملت بالمسيح بمجرّد نفخ الملاك فيها، وطبيعيّ أنّها قد مرّت بجميع أدوار الحمل إلى أن ولدته. ويقول مفسّر آخر إنّ مدّة الحمل كانت تسعة أشهر أو سبعة أو ستّة أو ثمانية \"ولم يعش مولود وُضع لثمانية إلاّ هو\"، وقيل ساعة واحدة حملته وولدته (تفسير الرازي). هذا الخلاف بشأن مدّة الحمل يعود إلى عدم تحديد القرآن لهذه المدّة. أمّا ولادته فتمّت بمعجزة يرويها القرآن كما يأتي: \"فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت (مريم) يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسيًا منسيًّا. فناداها من تحتها ألاّ تحزني قد جعل ربّك تحتك سريًّا (جدولاً صغيرًا يجري ماؤه). وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليكِ رُطبًا (تمرًا طازجًا) جنيًّا (طريًّا ناضجًا). فكُلي واشربي وقرّي عينًا\" (مريم، 23-26).

تناول التفسير الإسلاميّ هذه الرواية القرآنيّة عن ولادة المسيح بكثير من التفاصيل. فقيل إنّ زمن الولادة كان زمن شتاء وكانت النخلة يابسة فهزّتها فجعل الله لها رأسًا وأنبتها ثمرًا لتأكل منها. ويشير المفسّرون إلى أنّ النساء العربيّات اللواتي كنّ يلدن كنّ يأكلن الرُّطب لأنّه \"أوفق طعام للوالدة\". أمّا الذي نادى مريم من تحتها، فثمّة روايتان: الملاك جبريل الذي \"كان في مكان أسفل من مكانها\"، أو السيّد المسيح الذي سنراه بعد قليل يتكلّم في المهد. أمّا جدول الماء فلكي تشرب بعد أن تأكل الرُّطب فتقرّ عينها، ولكي تعلم أيضًا أنّ الله الذي أوجد لها الرُّطب من النخلة اليابسة وأنبع لها الجدول في الصحراء قادرٌ أن يردّ عنها عيب العائبين وتعييرات المعيّرين.

في تفسير فخر الدين الرازي نقع على قصة مفادها ما رواه الثعلبي أن مريم لما حملت بابنها كان معها ابن عم هو يوسف النجار وهو المذكور في الإنجيل. وعندما عرف يوسف بحمل مريم تحير في أمرها فأراد أن يتهمها لكنه ذكر صلاحها وعبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فصارحها بما وقع في نفسه من أمركها وقال: \"أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم: ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر...\" . فعندما سمع هذه الأقوال زالت التهمة عن قلبه. فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة، وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها (تفسير الرازي). تتطابق الرواية السابقة مع النص الإنجيلي الذي يتحدث عن الشكوك التي ساورت يوسف \"الذي لم يشأ أن يُشهرها\" (متى 1: 19)، وكيف هربت مريم ويوسف إلى مصر حتى لا يقتل الطفل المولود (انظر متى 2: 13-14). ويحفظ التقليد المسيحي أيضاً أن زمن الولادة كان في الشتاء. ونجد في الصلوات الميلادية حواراً متشابه المضمون بين يوسف ومريم.

ثمّ يذكر القرآن أنّ الله طلب من مريم أن تصوم عن الكلام ﴿إنّي نذرت للرحمن صومًا فلن أكلّم اليوم إنسيًّا﴾ (مريم، 26). هذا يذكرنا بما يقوله الإنجيل عنها أنها كانت [تحفظ جميع الأمور في قلبها] (لوقا 2: 51).
إنّ الرواية القرآنيّة لولادة المسيح لها جذور ضاربة في عمق التاريخ والتراث المسيحيَّين. وهي تؤكد على إيمان المسيحيين بميلاد المسيح من بتول هي مريم من دون توسّط بشر. وفيها ما يؤكّد محبّة المسلمين للمسيح وأمّه، كدفاع القرآن عن مريم ضدّ اليهود وما قالوه من افتراءات عنها.