عشاق الله

الغفران المتبادل بين المسيحية والإسلام

 

الغفران المتبادل بين المسيحية والإسلام
طريق للتضامن بينهما من أجل عالم أفضل


جورج جبور

أولاً: أهمية البحث وخطته:

يمكن اعتبار التنافس بين أتباع الديانات المتعددة ناظماً هاماً للكثير من أحداث التاريخ الإنساني منذ القدم وإلى اليوم. ولا تشذ العلاقة بين أتباع المسيحية وأتباع الإسلام عن هذه القاعدة. وكما في حالات التنافس، كثيراً ما يقع ظلم من فئة على أخرى. والظلم يولد الحقد الذي يولد بدوره مزيداً من التنافس والظلم. ويمكن لهذه السلسلة أن تستمر حافلةً بالمكاره. وفي الوقت نفسه يوجب الالتزام بجوهر المسيحية، كما يوجب الالتزام بجوهر الإسلام، الوصول إلى سلم بين أتباع كل من الديانتين الكبيرتين اللتين تشملان نصف العالم، واللتين تكوّنان الجانب الغالب من تراث الحضارة الإنسانية، أو على الأقل جانباً كبيراً منه.

ومن المؤكد أن الوضع العالمي الراهن لا يسمح لأي من أتباع الديانتين أن يداعب تخيلاته حلم الانتصار النهائي على أتباع الديانة الأخرى. بل إن ما نشهده حقاً، ولاسيما منذ عام 1856، إنما يتكشف عن جهدِ نبيل يقوم به بعض أتباع الديانتين باتجاه زيادة وعي ما هو مشترك بينهما. وهو اتجاه يؤدي بالنتيجة إلى مزيد من السلم في علاقاتهما المتبادلة. وقد اخترت عام /1856/ نقطة علاماً لبداية الاتجاه الجديد لأنني أحب أن أؤكد على أهمية ما جرى في ذلك العام، إذ فيه تم قبول الدولة العثمانية في المنظومة الأوروبية. ثم لا بأس أن تتم مناقشة مدى الحكمة في اختياري ذلك التاريخ. أحد أهم معاني المنظومة الأوروبية هو صيانة السلم بين أعضائها. على نحوٍ موازٍٍ، إذن، يمكن القول أن قبول الدولة العثمانية في تلك المنظومة إنما يتضمن إشارة معلنة إلى ضرورة أن تتحول العلاقة بين المسيحية (التي تعتنقها كل دول المنظومة) وبين الإسلام (الذي تعتنقه الدولة المنضمة حديثاً إلى المنظومة) من الحرب إلى السلم. وقد عالجت جوانب من هذا التحول في محاضرة عنوانها "تأملات موجزة في العلاقة بين الأديان: من الحرب إلى السلم" ( ألقيت في تونس ضمن الندوة الدولية عن الإسلام والسلام، المنظمة من قبل وزارة الشؤون الدينية التونسية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، 15-17/4/2003).

في 11/9/2001 وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية الأحداث الجرمية المعروفة، فبهتت أمام لهيبها جذوة نصر إنساني كبير تمثل في الانعقاد الناجح لمؤتمر ينبغي اعتباره أعظم مؤتمر في تاريخ البشرية، وهو مؤتمر دربان لمناهضة العنصرية الذي اختتم أعماله في 7/9/2001. وبسبب أن من اتجه إليهم الاتهام من منفذي تلك الأحداث الجرمية، إنما يعتبرون، أو يعتبرون أنفسهم، من أتباع  الديانة الإسلامية، فقد عانى من ضربة قاسية ذلك الاتجاه الذي أشرنا إليه أعلاه، وهو الذي يؤدي إلى مزيد من السلم في العلاقة المتبادلة بين المسيحية والإسلام. وبغض النظر عن محاولات المستفيدين من النفخ في نار الفتنة بين المسيحية والإسلام، فإن الواقع الموضوعي يدلنا على أن جسوراً وطيدة من علاقات التفاهم المتبادلة قد ضعفت. هكذا أصبح من أول الأولويات العمل من أجل إعادة الثقة المتبادلة بين أتباع الديانتين، ومن هنا تنبثق أهمية هذا البحث.

أما الخطة التي اعتمدتها  فتقليدية. أقدم بعد قليل مقاربة  لمفهوم الغفران  وما يجاوره. ثم أؤرخ لمحاولة أعتبر أنني مبدعها ورائدها ( وآسف لمديح الذات هذا، وهو رد فعل طبيعي على بعض كاتمي الشهادة ولا سيما في الغرب)،  بدأتها علناً عام 1989 وأتابعها اليوم من خلال مؤتمرنا هذا. بعد ذلك أضع أمامكم أفكاراً فاعلة في ميدان العلاقات بين المسيحية والإسلام راجياً منكم التوقف عندها. أما الختام فيرتبط مباشرة بالعنوان، إذ هو يقدم ملامح عالم جديد يبنيه التضامن بين المسيحية والإسلام.

ثانياً: في الغفران وما يجاوره:

غفر، في اللغة، غطى. كان يقال: غفر الشيب بالخضاب، أي غطى شيبه بصبغه. وهكذا فإن الغفران هو التغطية. وأكتسبت كلمة الغفران، مع الأيام، مدلولاً معنوياً بل ودينياً. فالمتدين يناشد الله غفران ذنوبه. واعتماداً على المدلولين المادي والمعنوي لكلمة غفران، يمكن القول أن الغفران يبدو وكأنه وقف مفعول ذنب ما، دون التطهر من ذلك الذنب بالكلية. في كل حال، تتخذ كلمة الغفران مدلولات متنوعة في الخطاب الديني، فتختلف باختلاف القائل والسياق. والأصل أن طالب الغفران إنما ينحصر همه في أن يغفر ذنبه. طلب الغفران، في الخطاب الديني، عمل ذو اتجاه واحد. أقول هذا وأعرف أن الأمر يتطلب مزيداً من البحث.

وثمة إلى جانب الغفران، كلمات أخرى يحسن التوقف عندها باختصار.

كلمة اعتذار تعود في أصلها اللغوي، إلى كلمة عذر أي حجب. والمعتذر هو المتحجب، والأصل أن العذر هو الواقي من ضربة. وهكذا فإن مرتكب الذنب، وهو يعرف أنه ستتم معاقبته، إنما يعتذر ليتفادى العقاب. المعتذر إذن يبدو وكأنه يؤمن بأن من يتوجه إليه باعتذاره قوي الشكيمة يستطيع أن يقوم بمعاقبته. بهذا المعنى يمكن القول أن لا اعتذار من ضعيف لا يستطيع أن يعاقب من أساء إليه.

وتتعدد الكلمات التي تجاور معاني الغفران والاعتذار. ثمة مثلاً الأسف، وهو شعور ذاتي لا يشترط فيه أن يوجه إلى شخص معين أو إلى جهة معينة. وثمة التبرير، وهو محاولة تعليل فعل معيّن مستقبح بعلة نبيلة او منطقية. أما كلمة شرح فهي أكثر حيادية، أي علمية.

وفي كل حال يصح أن نتعمق في معاني الكلمات التي وردت سابقاً، وفي كلمات أخرى تجاورها في المعنى، ويصح أن نتباحث فيها لغوياً وفلسفياً ولاهوتياً، وأن ننقصّى استعمالاتها عبر التاريخ. إلا أن كل ذلك يبقى "حذلقة" نحن في غنى عنها في إطار بحثنا الحالي.

ولكن ماذا عن "الغفران المتبادل" وهو تعبير ورد في عنوان هذه المداخلة؟ لعل من المناسب هنا أن نميّز بين الغفران الديني وبين الغفران السياسي، أو بالأحرى بين الاستغفار الديني وبين الاستغفار السياسي. الاستغفار الديني صوت ضمير. أما الاستغفار السياسي فلا بد- في نظري- من احتوائه على مصلحة. من هنا يمكن ان يقال ان ثمة في السياسة بخاصة، وفي الشؤون العامة إجمالاً، ما يصح وصفه بأنه استغفار متبادل، أو غفران متبادل. قد يشترط عليك غيرك أن تغطي له ذنوبه كي يغطي لك ذنوبك. إذن، فالغفران المتبادل صفقة إن أحببت أن تنتقص من قيمته الأخلاقية. ولكنه أيضاً اتفاق بل ومودة متبادلة إن أحببت أن تعلي من شأن تلك القيمة.

تلك كانت محاولات نظرية سريعة في إيضاح مدلولات بعض الكلمات كالغفران والاعتذار. ماذا عن الممارسة العملية للغفران والاعتذار؟

قديمة هي تلك الممارسة العملية، وتزداد انتشاراً في أيامنا المعاصرة. ولعل أهم مثال على هذه الممارسة ما جرى ويجري بشأن الاعتذار عن العداء لليهود الذي يعرف باسم اللا سامية. ونعلم بالطبع أن الأمم المتحدة جعلت التذكير بالشواء (الهولوكوست، أي المحرقة) واجباً على كل الدول الأعضاء. ونعلم طبعاً أن اللا سامية تجلت أكثر ما تجلت في الغرب، وأن الشواء إنما كان في أوروبا. وهكذا فكأن أوروبا إنما أرادت، في جهدها تعميم ثقافة التذكير بالشواء، أن تشاركها كل قارات العالم  استغفارها. أي بمعنى ما أن تشاركها في تحمل مسؤولية آثامها إزاء اليهود. هذا وثمة محاولات عديدة تبحث أثر الاعتذار في الحياة الدولية، وفي كتابي:رسالة إلى قداسة البابا (بيروت، دار الكنوز الأدبية، 1995) شيء من التفصيل عن هذا الموضوع.

 

  ثالثاً: مخاطبة الفاتيكان من أجل شرح يقترب من الاعتذار عن حروب الفرنجة: 1989- 2007:

تيقظت إلى أهمية حروب الفرنجة في العلاقات بين شاطئي المتوسط باكراً أثناء دراستي الثانوية والجامعية، وكان ذلك من خلال محاضرات الأستاذ هاني المبارك والأستاذ الدكتور جورج حداد.

إلا أن الفضل يعود إلى الرئيس حافظ الأسد، رئيس الجمهورية العربية السورية، رحمه الله، في اهتمامي الجاد بتلك الحروب. ففي الأيام التالية التي أعقبت وقف إطلاق النار إثر حرب تشرين التحريرية سألني الرئيس إعطاءه لمحة عن دور دمشق وصلاح الدين في تلك الحروب. وفي غمار اهتمامي بالموضوع أعلمت رئيس الجمهورية بأن للأستاذ الدكتور سهيل زكار عناية خاصة بحروب الفرنجة. ورغم أنني لاأعرف بالضبط تاريخ تشجيع الرئيس الأسد لجهود الدكتور زكار في هذا الشأن، ولم أكن طرفاً فيه ، إلا أن من واجبي هنا الإشارة إلى أن دار البعث، وبدعم من رئاسة الجمهورية،  مستمر حتى اليوم، قد نشرت ما يزيد عن مائة مجلد عن تلك الحروب. وأود بهذا الشأن أن أعبر عن عميق التقدير لرئاسة الجمهورية وللدكتور زكار.

في 1987 عقدت وزارة الثقافة مؤتمراً بمناسبة الذكرى الثمانمائة لمعركة حطين، وقد حضرت جانباً منها. تباحثت على هامشها مع الأستاذ الدكتور خليل سمعان، أستاذ التاريخ في جامعة نيويورك الحكومية، تباحثت معه في التوجه إلى الفاتيكان بسؤال عن إمكان الاعتذار عن حروب الفرنجة. ذكر الدكتور سمعان هذا الأمر في كتاب حرره عن مؤتمر رئسه في عام 1999 بمناسبة الذكرى التسعمائة لسقوط القدس بيد الفرنجة (الصليبيون: الخبرات الأخرى والآفاق البديلة

The Crusaders, other experiences, Alternative perspectives, Birmingham, New York, Global Academic publishers, 2003, p5)

إلا أن أهم معلم في مسيرتي هذه إنما كان في مدينة ياموسوكرو، عاصمة ساحل العاج، ضمن إطار مؤتمر دعاني إليه السيد فيديريكو مايور، مدير عام اليونيسكو آنذاك، وكان تحت عنوان: "بناء السلم في عقول البشر". في ذلك المؤتمر تحدثت علناً عن ضرورة اعتذار الفاتيكان عن حروب الفرنجة بمناسبة اقتراب الذكرى التسعمائة لخطابات البابا أوربان الثاني المطالبة بما دعاه تحرير قبر المسيح من أيدي الكفار. وبعد مباحثات معمقة ومطولة مع حبرين جليلين هما حضرة الأب فيليب ماك غريغورFelipe Mac Gregor ، رئيس رابطة البيرو للبحث في السلم، وقد باحثته في ساحل العاج، وسيادة المطران لويجي اكويلي، سفير الفاتيكان في سورية آنذاك، وجهت في 29/7/1992 رسالة إلى قداسة البابا، عن طريق سعادة السفير، أسأل بها "إعادة النظر في مقررات مؤتمر كليرمونت- فيران بتقديم شرح يقترب من الاعتذار إلى أحفاد أولئك الذين كانوا ضحايا تطبيق هذه المقررات". تلقيت جوابين عن هذه الرسالة، وجههما إليّ سعادة السفير اكويلي، تقول الثانية منهما، وتاريخها 7/9/1992، أن سكرتيرية الدولة في الفاتيكان "تود... التأكيد لكم أنها تلقت رسالتكم وأنها أخذت علماً بمضمونها". (التأكيد مضاف).

وضعت الرسائل الثلاث أمام صديق عزيز هو الأب الجليل الدكتور كميل حشيمة مدير عام دار المشرق ورئيس تحرير مجلة المشرق اليسوعية التي تصدر في بيروت. سألته رأيه. أجابني في 29/11/1992 برسالة كلها تعاطف، جوهرها كلمات قليلة:

"ورأيي أن ما كتبته إلى الحبر الأعظم ستكون له فائدة لا محال، إذ أن ما عرفناه عن هذا البابا أنه لا يدع فرصة تفوته للعمل في سبيل كل ما من شانه الدفاع عن الحق حتى لو جرح هذا الحق كبرياء الكنيسة. فكأنني به جعل شعاراً  له قول السيد المسيح: تعرفون الحق والحق يحرركم".

واستمرت المسيرة منذئذٍ وبأساليب متعددة حتى كان حدث هام في 11/3/2000.  في ذلك اليوم  تقدم قداسة البابا باعتذارات عن عدد من الأخطاء ارتكبها المسيحيون باسم المسيحية، كما تقدم بأسف عن أساليب المسيحيين في نشر الحقيقة. لم يذكر قداسته حروب الفرنجة بالاسم، إلا أنه كان من المفهوم أنه يقصد الأفعال الوحشية التي ارتكبها الصليبيون أثناء حروبهم. وبمناسبة ذلك الأسف تلقيت مئات من الهواتف والرسائل المعبرة عن التهنئة بالنجاح الجزئي الذي كان نصيب مطالبتي الفاتيكان بالشرح الاعتذاري.

ومما ينبغي ذكره أن المفكر الإسلامي الأستاذ فهمي هويدي أشار إلى رسالتي، نافياً أثرها، مرتين على الأقلوكانت ثانيتهما في مقال له في السفير بتاريخ 8/5/2001. وقمت بالرد عليه مستشهداً برسالة الدكتور حشيمة (السفير 17/5/2001).

كما أن من الطريف أن الدكتور ناصر الرباط، الأستاذ في معهد ماساشوتستس التكنولوجي، أشار إلى رسالتي في جريدة الحياة   ناسباً إياها إلى غيري. ثم عاد في دراسة له عن الموضوع نشرها في مجلة وجهات نظر فأعاد الأمر إلى نصابه، بل وطالب القادة العرب، في مؤتمر قمة- اعتماد فكرتي والسعي إلى تنفيذها. وبالإمكان إمداد من يشاء بالأوراق- الوثائق التي أشرت إليها أعلاه.

ثم إن الأزهر في 27/3/2000 وجه رسالة إلى الفاتيكان طالباً القيام "بتقويم أمين وموضوعي لتأريخ الحروب الصليبية يفصح عن مدى الأذى الذي لحق الشعوب الإسلامية وقتها" (من مقال في الأهرام بتاريخ 14/5/2000 بقلم الدكتور علي السمان). وكنت خاطبت الأزهر مرات طالباً دعم محاولتي ولكنني لم أستلم أية إجابة.

ولعل قداسة البابا الراحل شعر بان عليه متابعة خطوته التاريخية الأولى. فأقدم على خطوة ثانية في 6/5/2001، لكنها ضاعت في زحمة افتعالات سياسية أريد لها أن تكون "حدثاً صاخباً.

في الدراسة التي نشرتها جريدة تشرين (2/4/1994) عن الشرح الاعتذاري الذي أطالب الفاتيكان به، حددت أربع آثار ايجابية لهذا الشرح يهمني أن أثبت هنا الأثرين الثاني والثالث منها. قلت آنذاك أن "من المرجح أن يؤدي صدور شرح اعتذاري عن الفاتيكان إلى إعطاء دفعة هائلة للحوار المجدي بين الديانتين العالميتين التوحيديتين الكبيرتين. وقد يؤدي هذا الشرح إلى تليين مواقف إسلامية معينة لا يمكنني تحديدها الآن،رغم أننا قد نسمع أصواتاً إسلامية تنادي بأن الشرح إنما هو دلالة جديدة على خوف المسيحية من الإسلام بسبب ما يراه أصحاب هذه الأصوات من قوة متجددة في الإسلام". (ص54-55 من كتاب رسالة إلى قداسة البابا المشار إليه آنفاً)

وقد تنبه إلى أهمية فكرة تليين المواقف التي وردت في دراستي، الدكتور وهبة الزحيلي، الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق والمفكر الإسلامي المعروف. ففي دراسة له نشرتها مجلة نهج الإسلام (الدمشقية الفصلية، العدد /75/ السنة /15/، ربيع الأول 1415 هـ /آب أغسطس 1994) أشار إلى دراستي وأبدى استعداد المسلمين "للاسهام بما يمليه الواجب... في إبراز النظرة الودية والسلمية والإنسانية لجميع شعوب العالم" فيما إذا اتخذت الكنيسة الكاثوليكية خطوات باتجاه اعتبارها "إن المسلمين والعرب كانوا هم المعتدى عليهم" في الحروب الصليبية (ص25).

في دراستي تلميح إلى مبدأ التبادلية، تلميح أصبح تصريحاً في دراسة الدكتور الزحيلي.

وكأن قداسة البابا قد استوعب التلميح والتصريح. وكأنه أراد أن يقول: موافق! كيف كان ذلك؟

في 6/5/2001 سجل البابا سابقة تاريخية إذ زار جامعاً ، واختار دمشق مكاناً لهذه السابقة.- وكان سجل سابقة تاريخية قبل ذلك بزيارته معبداً يهودياً -. جامع بني أمية الكبير يحتضن ضريح القديس يوحنا المعمدان. وهكذا فقد قام البابا بزيارة الضريح وسط الجامع، وزار الجامع. وفي صحنه ألقى كلمة هامة رأيت فيها استجابة إلى مبدأ التبادلية، وإكمالاً للأسف الذي كان أبداه في الشهر الثالث من عام /2000/. ولعل ما جعل البابا يعود إلى موضوع الاعتذار لدى زيارته الجامع هو أنه كان استجاب لطلب اعتذار أصرت عليه الكنيسة اليونانية، ومعها الحكومة، كشرط لقبول زيارته أرض الأرثوذكسية التي أهانها الفرنجة عام 1204. قال قداسته: "يجب أن تشدد جماعاتنا في رجاء السلام. وعلينا ألا نسمح للخبرات السلبية أن تخيب هذا الرجاء.علينا أن نطلب الغفران من القادر على كل شيء عن كل مرة أهان فيها المسلمون والمسيحيون بعضهم بعضاً، كما علينا أن يغفر بعضنا لبعض".

هذا الكلام الواضح الذي أطلقه قداسة البابا في صحن الجامع الأموي بدمشق، المجاور لضريح البطل صلاح الدين، والذي كان يمكن أن يصنع التاريخ تحت عنوان الغفران المتبادل، ذهب أدراج الرياح بسبب إصرار دوائر إعلامية مهيمنة على حرمان زيارة قداسته إلى الجامع وإلى سورية من زخمها الإنساني، وجعلها مناسبة لمحاولة النيل من الرئيس بشار الأسد تحت دعوى باطلة مؤداها انه عبر في خطابه مرحباً بالبابا عن عداء لليهود ولليهودية رغم أن هاتين الكلمتين لم تردا في الخطاب.

أين نقف الآن؟ دعوة قداسة البابا الراحل إلى الغفران المتبادل ما تزال قائمة. وإذا كان رحيله قد أضعف من شأنها- كما أضعف من شانها فتور استقبالها إسلامياً، فإن من الممكن بل من الواجب إعادة إحيائها. محاضرة قداسة البابا الحالي في الشهر التاسع من عام 2006، ثم الشروحات التي قدمت لتلك المحاضرة، ثم إصدار قداسة البابا بندكتوس السادس عشر كتابه الجديد عن المسيح الناصري، وإصراره على أن يحتمل النقد (أي أنه خارج نطاق العصمة البابوية)، وما يجسده هذا الإصرار، من موضوعية علمية، كل ما سبق يشكل حوافز لإعادة تفعيل مبدأ الغفران المتبادل في المسيحية والإسلام. ولعل بإمكان كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان أن يقود جهداً علمياًُ يؤدي إلى كلمة سواء في موضوع حروب الفرنجة وما يترتب عليها. في كل حال يصطدم الحديث عن الغفران المتبادل، إذ يتعلق الأمر بحروب الفرنجة، يصطدم بعقبة كبيرة مؤداها أنه ليس في العلاقة بين المسيحية والإسلام حدث باهمية تلك الحروب، وهي بدأها المسيحيون ويتحملون مسؤوليتها. يثور هنا إذن سؤال جوهري: بما انه ليس ثمة من "ذنب" ارتكبه المسلمون إزاء المسيحيين، بفداحة تلك الحروب، فكيف يكون الغفران متبادلاً، والتبادلية تقتضي تناسباً في حجم ما يتم تبادله؟ السؤال في محله، والحوار في الإجابات الممكنة مفيد. ولعل البداية الأولى سؤال يوجه إلى الفاتيكان: هل ثمة نية بناء على فكرة أطقها الحبر الأعظم في أول زيارة له إلى جامع؟ هل يود الخلف أن يبني على ما أتى به السلف؟

 

رابعاً: العلاقات بين المسيحية والإسلام: خمس أفكار فاعلة.

كثيرة هي الأفكار الفاعلة، أو التي يمكن تفعيلها، في العلاقات بين المسيحية والإسلام. وفي هذا الجزء من البحث أقف عند خمس أفكار أرى مناسباً أن نقف عندها، وهي مرتبة بحسب أهميتها، كما بدا لي ذلك التراتب وقت الكتابة:

الفكرة الأولى وعد بلفور

ومن الصواب القول أن المشكلة الأولى في هذه العلاقات هي تلك التي بدأت عام 1917 حين صدر وعد بلفور وما ترتب عليه. ومن الصواب أيضاً القول الآن، ونحن على عتبة بدء العقد العاشر لذلك الوعد الظالم، ان معظم العالم المسيحي أيد الوعد إما بداية أوفي أوقات لاحقة، وأنه ما يزال  في حالة تعاطف مع "إسرائيل" وجوداً على الأقل، وما يزال في حالة صمت عن احتلالها أراضي غيرها، وأنه في كل ذلك ينطلق، ضمن أمور عدة. من موقف ديني في أساسه، مبني على اعتقاد لاهوتي بحق اليهود في استيطان فلسطين. كذلك من الصواب القول أن كل العالم الإسلامي يناهض إسرائيل في احتلالها، وأن معظمه يناهض فكرة وجودها، وأن الجذر الديني في هذه المناهضة واضح. وإلى جانبه جذور أخرى ، والحوار بين الموقفين المسيحي والإسلامي في قضية فلسطين، أصلاً وتطوراً، أمر واجب رغم صعوباته. ومن المناسب أن تذلل تلك الصعوبات أمام الحوار، ولاسيما أن مستقبل إسرائيل أمر يتصاعد الحوار فيه سواء في صعيد إسرائيل أو في صعيد المنطقة والعالم. باختصار: ثمة حاجة لبحث يؤدي إلى اتفاق حول من يملك الحق في أرض فلسطين بمقتضى الديانتين التوحيديتين الكبيرتين. والاتفاق صعب ولكنه ليس مستحيلاً، وإذا لم يتم التوصل إليه فستبقى العلاقات بين المسيحية والإسلام حافلة بالألغام التي تستطيع نسف كل تقارب.

 

الفكرة الثانية: هل حاولت محاضرة البابا إلغاء دور العرب المسيحيين حين ربطت بين المسيحية وبين اليونان وأوروبا؟

الآية التي استشهد بها البابا في أعمال الرسل ومؤداها أن دروب القديس بولس إلى آسيا مقطوعة (الإصحاح 16- الآيات 6-10) ينبغي أن تفهم ضمن سياق أمن السفر، لا ضمن سياق آخر يبدو وكأنه يجعل الله مخطئاً لأن السيد المسيح عليه السلام ولد وعاش وصلب ومات على الصليب في فلسطين. تترتب على تفسير البابا للآية نتائج خطيرة في اللاهوت المسيحي لأنها تقوم على نظرة تراتبية في تقييم الشعوب والقارات. قال السيد المسيح عليه السلام: "إذهبوا وبشروا الأمم"، ولم يقل إذهبوا وبشروا اليونان وأوروبا وامتنعوا عن التبشير في آسيا. بمقتضى محاضرة البابا تصبح مسيحية الآسيويين مسيحية من الدرجة الثانية، وضمن هذه المسيحية- من- الدرجة- الثانية تقع مسيحية العرب المسيحيين، أولئك الذين يرون أنفسهم –وبحق- جسر تواصل بين العالمين المسيحي والإسلامي. يلقب غبطة بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس منذ أواخر القرن التاسع عشر بأنه "بطريرك العرب" وكنيسته "كنيسة العرب". أما غبطة البطريرك الحالي لانطاكية وسائر المشرق للروم الكاثوليك فقد اختار أن يسمي كنيسته "كنيسة الإسلام". وفي التقصي التاريخي تبدو كرسي إنطاكية مثالاً للتعددية الكوزموبوليتية التي هي أفضل تجسيد لعالمية المسيحية، تتبعها في هذا كرسي بيزنطة، بينما تحل التعددية الكوزموبوليتية لكرسي روما في المرتبة الثالثة. وأقدم هنا فرضية مبنية على ما سبق. كل تعددية كوزموبوليتية تتضمن نقصاً في التماسك الداخلي. وهكذا فقد لحق الضعف كرسي إنطاكية ثم كرسي بيزنطة بينما استمر كرسي روما قوياً بتماسكه "الاثني"- وعذراً لهذا التعبير-. (فصلت القول في هذا الشأن ضمن دراسة تحت عنوان "الفكر السياسي العربي بين التبعية والإبداع" مجلة  المنابر اللبنانية السنة الثالثة. العدد /28 حزيران 1988 ص17-32) . وبالطبع فقد ورثت دمشق الكرسي الانطاكي إذ يقطنها بطاركة ثلاث لانطاكية التي فيها دعي المسيحيون لأول مرة مسيحيين بعد أن كانوا يدعون نصارى. بمقتضى ما أثرته في هذه الفكرة يستحسن أن يتفضل قداسة البابا بندكتوس فيقدم شرحاً عما قصد في محاضرته إلى المسيحيين غير الأوروبيين، ولا سيما إلى مسيحيي فلسطين وبلاد الشام وهم الذين يعتبرون أنفسهم الحملة الأصلاء لرسالة السيد المسيح. ولعل موعد تقديم هذا الشرح هو في مطلع عام 2008، ولعل مكانه دمشق، حيث من المفترض أن ينعقد في إحدى ضواحيها، وهي بلدة صيدنايا، حيث الديرا الشهير الأرثوذكسي مؤتمر هام دعا إليه الفاتيكان في 8/2/2007 للحوار بينه وبين الكنائس الشرقية.

 

الفكرة الثالثة: تقوم حضارة العرب والمسلمين التي هي التجسيد الأشمل لحضارة آسيا الغربية والجنوبية وأفريقيا الشمالية أساس صلد هو إقامة العدل.

منها انطلق قانون حمو رابي، أهم وثيقة تقيم العدل. ومنها انطلقت الشرائع. وفي مكة قبل الإسلام كان حلف الفضول الذي بموجبه تعاهد فضلاء مكة ألا يدعو ببطنها مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه على ظالمه حتى ترد مظلمته. وقد بارك الرسول العربي الكريم هذا الحلف فأبطل أحلاف الجاهلية إلاه، وقال أنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب. وهو في صيغة الحديث النبوي الشريف المتواتر لم يشأ أن يغمط عاقديه حقهم في عقده، وفضلهم في أولوية الدعوة إليه، فلم يقل أنه يدعو إليه، بل قال أنه يجيب الدعوة. تحدث البابا بندكتوس عن الزواج بين المسيحية واليونان على أساس العقل. ولكن من يستطيع أن ينكر الزواج بين العقل والعدل؟ وأن ينكر أنّ حقوق الإنسان إنما هي وليد زواج العقل والعدل؟ ولحلف الفضول مكان رائد في تاريخ تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان. إن أيامنا هذه حيث يهان الإسلام والمسلمون يومياً، لا سيما في عالم المسيحية، على أساس البعد عن حقوق الإنسان، يحسن بعالم الإسلام أن يعيد الاعتبار لحلف الفضول ويحسن بالذين في عالم المسيحية يودون تحسين العلاقات بين الديانتين التوحيديتين الكبيرتين أن ينشروا السبق العربي المؤيد إسلامياً في ريادة فكرة تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان على أساس أن هذا الدفاع إنما هو واجب كل فرد في المجتمع ، أي واجب كل إنسان.

 

الفكرة الرابعة: في عام 1998 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بتعطيل كل مكاتبها في كل أرجاء العالم يومين، في أول أيام كل من عيدي الفطر والأضحى.

وكنت أثرت مع مدير عام اليونسكو عام 1989 هذا الموضوع بمناسبة استقباله لي في مكتبه في باريس يوم 13/7/1989، وكان أول أيام عيد الأضحى. في أعقاب قرار الجمعية العامة حسبت أن اليونسكو سوف تسارع إلى الاقتداء بالأمم المتحدة ولا سيما أنها تضم نسبة من الموظفين المسلمين أعلى من نسبتهم في أية منظمة أخرى ضمن عائلة الأمم المتحدة، ولا سيما أيضاً أن مقرها في فرنسا التي تضم من المسلمين نسبة أعلى من نسبتهم في أية دولة غربية تحتضن أياً من منظمات عائلة الأمم المتحدة. تكاد تنقضي عشرة أعوام على قرار الجمعية العامة ولم تتحرك اليونسكو في ذلك الاتجاه، ولم تحركها فيه أية دولة إسلامية أو مسيحية. تبلغ نسبة المسلمين في فرنسا ذات النسبة التي تبلغها نسبة المسيحيين في سورية. تعطي الحكومة السورية ثلاثة أيام تعطيل حكومي عام بمناسبة ثلاثة أعياد مسيحية هي الفصح حسب التقويمين الغربي والشرقي (وموعده في الربيع) والميلاد (وموعده الثابت 25/12 من كل عام). لماذا لا تقتدي فرنسا بسورية؟ ألن يساعد ذلك على تحسين العلاقات المسيحية – الإسلامية في فرنسا بالذات؟ ثم ألا يستطيع الاتحاد الأوروبي ، وعالم المسيحية بمجمله، أن يعنى ولو قليلاً بالمناسبات الإسلامية ولو دون تعطيل؟ تقدم مواسم الأعياد الدينية على اختلافها فرصاً متنوعة للتآلف والتوادد، وحبذا لو يستفاد منها على أكمل وجه. وهنا أحب أن أشيد بتقليد قيام قداسة البابا ومنذ أكثر من عقد كما أظن، بتوجيه رسالتي تهنئة بعيدي الفطر والأضحى إلى مسلمي العالم. ذلكم تقليد ممتاز يلقى صدى إيجابياً واسعاً لدى العرب والمسلمين.

 

الفكرة الخامسة: يقدم الزواج بين المسلمين والمسيحين فرصة ممتازة لتحسين العلاقات بين الديانتين التوحيديتين الكبيرتين،

وهذا النمط من الزواج يزداد شيوعاً. في بلدان العالم الإسلامي ثمة ظاهرة واضحة هي إقدام عدد لا بأس به من المسلمين على الزواج من مسيحيات ، ولاسيما في البلدان العربية التي توجد فيها أقليات مسيحية مثل بلاد الشام ومصر. وقد أصبح لهذا النوع من الزواج تقاليده. فالزوجة المسيحية تستطيع الاحتفاظ بدينها وهذا أمر ملحوظ, ولكن "الجو العام" – ومن ضمنه قوانين الإرث – يجعل الزوجة المسيحية ميالة إلى اعتناق الإسلام. وبالمقابل فأن ظاهرة زواج المسيحي من مسلمة، في العالم الإسلامي، أقل شيوعاً. وكثيراً ما يتطلب الإقدام على هذا الزواج، أو الاستمرار فيه، اعتناق المسيحي للإسلام. وثمة تبرير إسلامي يتكرر اللجوء إليه لإثبات أن لا تناقض بين الممارستين. جوهر التبرير: يعترف المسلم بالمسيحية بمقتضى دينه، والعكس ليس صحيحاً. وبما أن الرجل قوام على المرأة عادةً، فإن زواج المسلمة من مسيحي يجعل صعباً عليها الاستمرار في ممارسة دينها بحرية. ويمكن الرد على هذا التبرير من أوجه عدة أهمها أن جوهره مبني على أساس قوامة الرجل على المرأة وهو أساس يتنافى مع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة. ثم أن من المرجح أن اختلاف الدين لا يكون، في الأعم، عاملاً هاماً بين شخصين جمعهما الحب في زواج. والزواج يقتضي الاحترام المتبادل. وهكذا فلن يكون صعباً – ضمن قاعدة وجوب الاحترام المتبادل بين الزوجين - أن تستطيع الزوجة المسلمة ممارسة دينها دون أن يمنعها زوجها المسيحي من ذلك. ومما يذكر أن ثمة اتجاهاً فقهياً إسلامياً، ما يزال ضعيفاً ولكنه يحظى بتأييد متصاعد، لا يرى أي مانع شرعي من زواج المسيحي بمسلمة. قاد هذا التيار وبجرأة شيخ جليل من لبنان له مقامه العربي الكبير هو الدكتور عبد الله العلايلي في كتابه أين الخطأ: تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد (بيروت لا ذكر للناشر – حزيران 1978 – 159 صفحة، وقد عولج موضوع زواج المسلم بمسيحية في الصفحات 125- 136)، وإذ ذكرت مبدأ القوامة في أسطر سابقة فإنني أود أن أشير إلى أن هذا المبدأ مسيحي أيضاً، تدل عليه الصلاة التي بموجبها يتم الزواج المسيحي، حيث على المرأة أن تطيع زوجها. وثمة في العالم المسيحي ثورة نسائية على هذه القوامة. وقد قرأت مؤخراً أن ممثلة بريطانية هي أليزابيت هيرلي رفضت في الاحتفال الكنسي بزواجها أن تتعهد بطاعة زوجها، واكتفت بالتعهد بحبه والعناية به واحترامه والقبول به في المرض والعافية" وهذه الكلمات مأخوذة من العهد القديم، كل ما سبق من جريدة الحياة 5/3/2007 الصفحة الأخيرة.

وفي العالم المسيحي تزداد ظاهرة زواج المسلم من مسيحية، ومعظم المسلمين الذين يقدمون على هذا النوع من الزواج هم من الذين هاجروا من بلدانهم الأصلية في الجنوب المسلم إلى الشمال المسيحي. وتزداد أيضاً في العالم المسيحي ظاهرة زواج المسيحي من مسلمات دون أن يغير المسيحي دينه، إذ لا يفرض عليه "الجو العام" هذا النوع القسري من اعتناق الإسلام.

إلا أن ما يلفت النظر هو أن الكنيسة ، ولا سيما الكنيسة الكاثوليكية، لا تشجع على الزواج المختلط. وكان قداسة البابا الراحل قد أصدر رسالة بهذا الشأن قبل عدة سنوات.

وبغض النظر عما يثيره الزواج المختلط من إشكالات قد يعاني منها الأولاد، إلا أن من المفيد – في نظري – تخفيف قبضة الدين على الزواج المختلط وهو تخفيف يتجه إليه عالمنا المعاصر في كل حال.

وترتبط بالزواج المختلط مسألة شبهة الردة عن الإسلام، كما ترتبط به مسألة الحرية في إعلان الإلحاد. كذلك عرفت كل من الديانتين، في تاريخهما، إشكالات في إقرار الزواج بين أتباع المذاهب المختلفة ضمن كلٍ من الديانتين، إلا أن كل هذه المسائل والإشكالات إنما هي إلى تضاؤل. فللحب، في معظم الحالات، قدرة على الانتصار رغم اختلاف الديانات والمذاهب.

 

خامساً: ملامح عالم جديد يبنيه التضامن بين المسيحية والإسلام على أساس تبادلي:

كان في الصفحات السابقة تركيز على أفكار ست ، لكن التقدم كان لأولاها وهي فكرة العنوان المتبادل. وقد اخترت لها أن تعطي البحث اسمه. وكان تقدمها لأن الآمال التي انعقدت عليها لم تتحقق على النحو الذي أردته حين أطلقتها، ولأنني ما أزال مصمماً على المتابعة.

إلا أن الأفكار الست مترابطة إذ هي تهدف إلى تحسين التواصل بين المسيحية والإسلام.

وبالإمكان، في مجال الترابط ، التحدث عن ظلمين تاريخيين عانى منهما العرب والمسلمون وهما حروب الفرنجة، ووعد بلفور. وقد يكمن الاعتذار عنهما اعتذاراً تعويضياً عن طريق إقرار عالم المسيحية بالظلم الذي أوقع، وأيضاً بالاعتراف بالإسلام اعترافاً واقعياً (دي فاكتو) على أنه دين معادل للمسيحية وليس ناقصاً عنها، في تمسكه بالمثل الإنسانية العليا. وقد خطا الفاتيكان خطوة هامة بهذا الاتجاه في المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1962. ومنذ ذلك التاريخ ابتدأ الحوار الفاتيكاني مع العالم الإسلامي، كما هو معروف. ولا ريب أن الاهتمام بما سبق طريق للتضامن بين المسيحية والإسلام.

ثم لا ريب أن هذا التضامن يمكن أن يدعم بمزيد من احترام المناسبات الدينية وبمزيد من إزالة العقبات أمام الزواج المختلط. وهذان الموضوعان – الأعياد والزواج المختلط- ليسا إلا غيضاً من فيض الأساليب التي عن طريقها يستطاع دعم التضامن.

يشهد عالم اليوم عولمة متسارعة أبرز ما فيها تصاعد فروق الدخل بين القلة والكثرة، وازدياد تهميش القيم الروحية. ورغم أن أحداً لا يستطيع أن يكون ضد العولمة، إلا أن من الواجب محاولة التصدي لشرورها.

وفي المسيحية تنبه لهذا الشرور أوضحها مؤخراً وبجلاء قداسة البابا بندكتوس في كتابه: يسوع الناصري.

ذلك في الإسلام اهتمام تقليدي مستقر مستمر بالتكافل الاجتماعي.

وحين تتضامن الديانتان المسيحية والإسلامية فلن تكونا وحدهما. سوف تتضامن معهما كل الديانات الأخرى وكل الفلسفات الكبرى. وعن طريق هذا التضامن الشامل يمكن بناء عالم جديد قائم على العدل والقيم الروحية والمثل الإنسانية العليا.

وفي تونس، هذه الدولة التي تحتفل سنوياً بيوم التضامن، والتي قامت بخطوات دولية أيدتها الأمم المتحدة لترسيخ التضامن ، فكرة وممارسة، في تونس الخضراء هذه، أتوقع أن يثمر مؤتمرنا مزيداً من التضامن من أجل الإنسان والإنسانية.

 

وفي الختام: تهنئة للفاتيكان على عقلنته الإيمان بشأن مطهر الأطفال :

  أثناء إعداد هذا البحث قرأت في الموند (24/4/2007) أن "اللجنة اللاهوتية العالمية" في الفاتيكان أعلنت يوم 20/4/2007، أن الطفل الذي يتوفى قبل الاعتماد (أو التعمد : bapteme) لن يكون مصيره المطهر (Limbes وهو منزلة بين منزلتي الجنة وجهنم) كما قال بذلك القديس أوغسطين في القرن الرابع. وقد تبعته الكنيسة في ذلك. في اللاهوت المسيحي: الخطيئة الأصلية التي ارتكبها آدم وحواؤه تلازم الإنسان منذ ولادته حتى اعتماده. النظرية الكاثوليكية منذ 20/4/2007 أن الطفل بريء حتى ولم يعتمد ومصيره الجنة. المرجح أن "نظرية المطهر" كانت جزءاً من "العصمة الإيمانية". ومن العقل القول أن هذه "العصمة الإيمانية" تجافي العقل.

أتوجه هنا بالتهنئة إلى قداسة البابا بندكتوس أستاذ الفلسفة الذي لا ريب أن قرار "اللجنة اللاهوتية العالمية" حظي بموافقته، واعتبر أن ما تم في 20/4/2007 خطوة هامة جداً على طريق تعقيل الإيمان، خطوة أرجو أن تتبعها خطوات أخرى في الكاثوليكية وفي المذاهب المسيحية الأخرى وفي الديانات كافة.

عن حركة القوميين العرب