عشاق الله

شهر رمضان بين الحروب و نوم الموظف الكسلان

  شهر رمضان بين الحروب و نوم الموظف الكسلان

محيي هادي*

"يدخل شعبان في رمضان" مثلٌ ذكرهُ الميداني في كتابه (الأمثال)، ويضرب هذا المثل للمخلط أو الذي تختلط عليه الأمور.

وكل عام تختلط الأمور على المسلمين و "فقهائهم" لتحديد هلال شهر رمضان، هذا الشهر الذي يعتبرونه من أفضل أشهر السنة، لا بل أن ليلة القدر فيه خير من ألف شهر. و كالعادة، و لكي يتفق المسلمون على أن لا يتفقوا، فقد "حدد" بعضهم بداية شهر رمضان، في هذه السنة، يوم (كذا)، و آخرون يوم (كذا)، و آخرون يوم (كذا). و طبعا فلكل منهم سببه و تأويله. و هكذا أكد المسلمون بفعلهم، لا بقولهم، الحديث الذي يُنسب إلى نبي الإسلام، و الذي كتبه ابن أبي يُعلى في (طبقات الحنابلة): "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي"... و لم يحدد ابن أبي يُعلى أو يفرق بين هذا الصحابي أو ذلك، فبالنسبة له هم كالنجوم بأيهم اهتدى اقتدى.. أما الخطيب البغدادي فقد ذكر حديثا أخرا مشابها عن النبي أنه قال: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة شر فرقة منها قوم يقيسون الدين بالرأي فيحلون به الحرام ويحرمون به الحلال"، و الخطيب بهذا حاول طعن أنصار أبي حنيفة الذين يقولون بالرأي. و ما نراه اليوم، و أكده التاريخ، أن هذا العدد من الفرق قليل جدا (...)و ربما يكون هذا التفرق هو نوع من أنواع "حرية" الاختيار!! التي نفتقدها في مجتمعاتنا. و لحرية الاختيار وضع حديث "اختلاف أمتي رحمة" على شماعة أحاديث النبي و فسرته السنة بأنه التباعد و التفرق في الآراء. في الوقت الذي رفضت الشيعة تفسير الاختلاف بأنه افتراق بل جعلت الاختلاف في هذا الحديث يعني التزاور و الاقتراب. وأعتقد جازما أن المعنى الأخير أفضل و يعطي بعدا إنسانيا و أخلاقيا واجتماعيا عميقا نحتاجه اليوم أكثر فأكثر. و في الحقيقة أنني وجدت في كثير من الكتب بأن "اختلف فلان إلى فلان" تعطي معنى معاكسا لـ "اختلف فلان عن فلان"، وعلى مثل "اختلف" نجد "رغب"، فمعنى "يرغب المرء في شيء" يعاكس تماما عندما "يرغب المرء عن شيء".

و يحتار شهر رمضان فيختلط عليه الحر والبرد، فمرة يقع هذا الشهر في الصيف الذي يقلي البيض بحرارته، و مرة في الخريف حيث تسقط أوراق الشجر، و أخرى في الشتاء إذ يُجمد برده المياه، و رابعة في الربيع عندما تزهر الأزهار و تخضر الأشجار، فشهر "رمضانُ متحوِّلُ الأزمانِ في الشِّتاءِ والصيف والرَّبيعِ والخريفِ"، هكذا كتب الجاحظ في (الحيوان). و قد يكون انتقال شهر رمضان من فصل إلى فصل، بالنسبة للمسلمين، "حكمة تقويمية" قمرية إلهية يجب البقاء عليها و عدم تبديلها بأخرى شمسية بحيث يقع هذا الشهر في نفس الفصل و يبدأ في نفس الساعة، و يترك المسلمون الاختلاف في تعيين بداية الشهر. و لا أظن أن مثل هذا الشيء سيقع، فالحال هو كحال المصريين إذ كان لهم نوع من الأسرار الذي لم ينسوه طوال القرون، ألا وهو كراهيتهم للتغيير و يحالون بكل ما في إمكانهم الابتعاد عنه و تجنبه.

و أوضح الجاحظ أيضا عن مجاهد أنه كره "قول القائل: دخل رمضان، وذهب رمضان، وقال: قولوا شهر رمضان، فلعلّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى"، كما كتب عن أبي إسحاق "إنما أتى من قِبل قوله تعالى: "شَهْرُ رَمََضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقرْآنُ" فقد قال الناس يوم التَّروية، ويوم عَرَفة ولم يقولوا عرفة". و إذا كان رمضان اسم من أسماء الله فيجب أن يغير كل واحد اسمه رمضان إلى اسم آخر حتى لا يُنازع الله في أسمائه.

و إذا كان مجاهد قد ظنَّ أن اسم رمضان هو من أسماء الله فإن صاحب معجم (لسان العرب) كتب أن: ابن دريد قال" لما نقلوا أَسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأَزمنة التي هي فيها فوافَقَ رمضانُ أَيامَ رَمَضِ الحرّ وشدّته فسمّي به". ثم كتب صاحب (لسان العرب): شهر رمضانَ مأْخوذ من رَمِضَ الصائم يَرْمَضُ إذا حَرّ جوْفُه من شدّة العطش.

و يقدس المسلمون هذا الشهر تقديسا كبيرا، ففيه، كما ذكر السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن) عن النبي انه قال: "أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشر خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه وفي رواية وصحف إبراهيم لأول ليلة". و لم أقرأ عن اليهود و عن المسيحيين أنهم يعتقدون بأن كتبهم المقدسة قد نزلت في شهر رمضان.


وفي هذا الشهر نرى الكثير من المسلمين يعتكفون في المساجد لقراءة القرآن، و إن البعض منهم ينوي مسبقا إكمال قراءته في هذا الشهر. و بعد قراءة القرآن يستنتج كل قارئ ما قرأ ، فالقارئ الرحيم يستنتج أن الله رحمن رحيم، و إن الله ليس بظلاّم بعبيده، أما القارئ الظالم فيستنتج أن الله شديد العقاب و يجعل هذا القارئ من شخصه و كأنه حامي كلام الله فيحمل من أجله سيفه ليقطع به أعناق من يتصورهم الأعداء آملا بأن يصبح اسمه "سيف الله المسلول". و هكذا نرى اليوم في العراق كيف أصبحت مساجد المسلمين السنة مأوى للإرهابيين، باسم الإسلام، و مجمعا لأنذل خلق الله، و ورشة لتفخيخ السيارات لقتل الأطفال في العراق و مصنعا لعمل المتفجرات. و كذلك لدينا في المساجد في أسبانيا و المساجد في بريطانيا مثلين آخرين عن أن مساجد الله قد تحولت إلى ماكنة لتفريخ المجرمين الذين لا ضمير و لا رحمة لهم عند قتل الناس.

و يؤدي المسلمون في شهر رمضان إحدى الفرائض الواجب عليهم أداءها، ألا وهي صيام رمضان، ليعملوا ما تقوله الآية القرآنية: "كُتبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". و قد كتب الجاحظ في (الحيوان): أنَّ شهر رمضانَ قد كان فرضاً على جميع الأمم وأنّ الناس غيَّروه. و لم أقرأ للجاحظ، لحد الآن، عن مثل لـ"جميع الأمم" التي يذكرها، إلا أنني قرأت في إحدى الصفحات الألكترونية المسيحية عن أن المسيح لم يُعارض الصيام إلا أنه لم يكن يستحبه. و قد يقول قائل أن الكاثوليك يصومون في عيد الفصح، إلا أنني وجدت بعض الكاثوليك الأسبان يمتنعون عن أكل اللحم في بعض أيام الاسبوع المقدس، أما بقية الأكل فلا، لا بل أن الذي يستطيع دفع مبلغ معين للكنيسة يستطيع أكل ما يريد، ليس اللحم فقط بل و الشحم و الفحم أيضا.

و هناك رأي في أن الصيام كان موجودا في المجتمعات القديمة و الامتناع عن الأكل في فترة معينة هو للحفاظ على الطعام لكي يدوم فترة أطول في وقت قلته، تماما مثلما نرى الآن قيام السلطات الأوربية و المغربية و غيرها بإيقاف صيد الأسماك في فترة تكاثر هذه الحيوانات البحرية، و للموازنة بين معدل كميات الصيد و معدل تكاثر الأسماك.كما ورأينا في الزعيم غاندي محرر الهند من الاستعمار البريطاني كيف كان يقوم بالصيام و الإمتناع عن الأكل احتجاجا ضد أعمال يقوم بها بعض أتباعه أو ضد أفعال المستعمرين. وقيل عن العالم الإغريقي فيثاغورس أنه صام حتى الموت، و كان ذلك في حدود عام 500 قبل الميلاد.

ولترغيب الصيام يعلله آخرون بأن بالصيام يصح الجسد، و قالوا بحديث نسبوه للنبي: "صوموا تصحوا"، و ربما يكون الصوم صحة للأشخاص الذين تهددهم السمنة و لكن هل هو صحيح للأشخاص الضعيفي الجسم، المضموري البطون، الأفارقة الفقر؟ و لحد الآن لم أر بعد أخصائيا ينصح بالصوم للجميع.

و أعطانا ابن عربي في (الفتوحات المكية) سببا دينيا في أن الصيام ليس للصائم بل لله، و كتب: "خرَّج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي"". و أيده ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) فكتب: "وفرض الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى: "الصوم لي وأنا أجزي به ".
" أما الغزّالي فقد كتب (في إحياء علوم الدين) أن النبي قال: "ست من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان: الصيام في الصيف، وضرب أعداء الله بالسيف، وتعجيل الصلاة في اليوم الدجن، والصبر على المصيبات، وإسباغ الوضوء على المكاره، وترك المراء وهو صادق"، و في مكان آخر من كتابه المذكور ذكر عن النبي أنه قال: " إن في الجنة غرفاً من أصناف الجوهر كله يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وفيها من النعيم واللذات والسرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" و سئل النبي: " ولمن هذه الغرف؟ قال: "لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام".

لينهض الغزالي من غفوته ليرى أن الإسلام اليوم قد سيطر عليه أعداء الله و الإنسان: من يُفشي الحروب و يسمم الأطفال العراقيين بالطعام و يقتل الناس و هم صيام و لا يركع في الليل إلا ركعات (...) أبي بركات و يغدر بالناس غدر ابن ملجم و هم في صلاتهم أو نيام. و لم تُغَلّ شياطين الإرهاب في هذا الشهر مثلما ذكر الجاحظ في (الحيوان) عن النبي: "أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان".

و يعتقد ناس من غير المسلمين بأن قدسية شهر رمضان تعطي له حرمة يمتنع المسلمون فيه عن الاغتيال و الحروب، و في هذا يخطأ هؤلاء خطأ فظيعا، إذ نرى المجرمين (...) لا يزالون على إرهابهم للعراقيين و يحسبون الشعب العراقي عدوهم، و قد دشنوا رمضان هذه السنة باغتيالات فظيعة أخرى. هذا عن الإرهابيين و لكن هذا الشهر لم تحرم فيه الحروب و المعارك أبدا، فغزوة بدر كانت في السابع عشر من رمضان و حرب صفين كانت في رمضان و حروب أخرى كثيرة قامت في هذا الشهر، و إن الغدر بالإمام علي في يوم التحكيم بين أبي موسى الأشعري و عمرو بن العاص كان في رمضان أيضا، و كذلك فإن الإمام علي قد اغتيل غدرا و هو يصلي في رمضان، و ذكر الجاحظ في (الرسائل) : "أن علياً قتل سنة أربعين في رمضان". كما أن هناك احتمال في أن دخول طارق بن زياد إلى الأندلس و احتلالها، كما يقول ابن الخطيب في (الإحاطة)، كان في شهر رمضان. إن شهر رمضان لا يعني أبدا إفشاء السلام.، بل هو شهر شهد و سيشهد حروبا كثيرة.

و لما كان الصيام لله و فريضة يقدمها المسلم لله، برغبتة أو إجبارا، فإن مندوبي الله على الأرض قد وضعوا أيضا عقابا و حدودا زواجر لمن لا يصوم، و لا يقدم لهم عذرا مقبولا في عدم صيامه كـ : "و من كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فكتب الماوردي في (الاحكام السلطانية و الولايات الدينية): "الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم"، و على الرغم من أن الماوردي قد ذكر آية: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "، إلا أنه كتب: " فأما تارك الصيام فلا يقتل بإجماع الفقهاء ويحبس عن الطعام والشراب مدة صيام شهر رمضان ويؤدب تعزيراً، فإن أجاب إلى الصيام ترك ووكل إلى أمانته، فإن شوهد آكلاً عزر ولم يقتل". يجب أن نقبّل وجنات المدافعين عن هذه العقوبة، لأنهم لا يطالبون بقتل غير الصائم بل بحبس الطعام و الشراب عنه مدة شهر رمضان!!!

و إذ نقلت عن الماوردي قوله "مغالبة الشهوات الملتهبة" لا بد لي أن أنقل أيضا ما كتبه الو احدي في (أسباب نزول القرآن) و تعليله لسبب نزول الآية : "أُحِلَّ لَكُم لَيلَةَ الصِيامِ الرَفَثُ إِلى نِسائِكُم" فكتب: " قال ابن عباس في رواية الوالبي: وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية". ثم ذكر: "عن البراء بن عازب قال: كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويمسون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلى مثلها، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فأتى أهله عند الإفطار، فانطلقت امرأته تطلب شيئاً وغلبته عيناه فنام، فلما انتصف النهار من غد غشي عليه، قال: وأتى عمر امرأته وقد نامت، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت (أُحِلَّ لَكُم لَيلَةَ الصِيامِ الرَفَثُ إِلى نِسائِكُم) إلى قوله (الفَجرِ) ففرح المسلمون بذلك".

و في هذا الشهر نجد موظفي المؤسسات الحكومية هم الأكثر فرحا و بشاشة و استعدادا لقدوم هذا الشهر المعظم، و كيف لا؟! و ترى فيهم الكسل يزداد أضعافا على كسلهم، و تصبح معاملات الناس لا تؤجل إلى "روح و تعال بعد اسبوع" بل تؤجل إلى ما بعد شهر رمضان. و لم لا؟! و الموظف يوجعه رأسه و يقف دماغه عن العمل و الفهم، و لهذا يزداد فيه البطر و النوم و التنبلة. و دوام العمل لا يبدأ متأخرا في وقته بل يؤخر احتراما للصائم الشغيل جدا (!)، و نوم القيلولة يصل حتى ساعة الغروب، حيث يقترب موعد الإفطار و ترس البطون.

وفي هذا الشهر المقدس نرى أسعار المواد الغذائية الأساسية ترتفع إرتفاعا بالغا، و كذلك قرأنا عن مسلمي تهريب الأغنام العراقية نحو دول الخليج الغنية، و كيف تزداد أرباح تجار الغذاء و التهريب، و على الرغم من هذا نجد البعض يقول ان الصيام هو لأجل إشعار الغني بجوع الفقير. و لا أدري كيف يكون ذلك ؟ و لم أر لحد الآن عقوبة دينية أو زجر "مقدس" في حق رافعي أسعار الغذاء و في حق مسلمي التهريب في رمضان.

ويجد البعض في الصيام في شهر رمضان تقليل لكمية الطعام التي يأكله الصائم، فهل هذا حقيقة و نحن نرى مائدة الطعام مملوءة، بألذه و أحسنه و أكثره، لذة و حسن و كثرة لا ترى في غير شهر رمضان, و إذا حسبنا السعرات الحرارية في طعام الصائم في أيام شهر رمضان نجدها أكثر بكثير من الأيام الإعتيادية. إن عدد الوجبات التي لا يأكلها الصائم هي واحدة فقط.

وأخيرا أتمنى أن يكون شهر رمضان عن حق شهر سلام و طمأنينة يمر بأرض العراق.
و ليكن صيام الصائمين المسالمين صياما مقبولا.

-----------------------------

* كاتب عراقي