الإسلام مسؤول أيضاً عن فشل الحوار أو نجاحه
الإسلام مسؤول أيضاً عن فشل الحوار أو نجاحه
الشيخ عبد الأمير قبلان
إن عقد هذا المؤتمر (* مؤتمر مجمع البحوث الاسلامية الثاني عشر) يؤكد جدوى المبدأ الذي نعتنقه ونلتزمه ونطبقه، وهو مبدأ الأخذ بالحوار سبيلا للتعاون والتعارف من اجل رفع قواعد بناء انساني قوي متكامل، وجعل هذه الكرة الارضية واحة رفاه واخاء وسلام ووفاق .
وديننا الاسلامي خلافا لما يُرمى به من تهم مغرضة، دين نادى بالحوار والبعد عن الصدام، ودعا الى نبذ العنف، وحاربه، وقرر حقوق الانسان وامر بحمايتها منذ أنزله الله على قلب رسوله الأمين محمد (ص).
فالحوار في المنظور الاسلامي هو ثمرة التصور الاسلامي للانسان الذي استخلفه الله في الارض وحدد غاية وجوده "افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون" (سورة المؤمنون 115).
ان نظرية الصدام والالغاء بين الحضارات، التي نادى بها بعض المفكرين الغربيين وحتمية المواجهة بين الحضارتين الغربية والاسلامية، هي جزء مما يثار حول الاسلام من شبهات وليس الا افتئاتا ناجما عن جهل بالاسلام العظيم ومبادئه السمحاء التي تحل الحوار محل الصدام.
فالدعوة الى الحوار خرجت من العالم الاسلامي معبّرة عن رؤية اسلامية انسانية كونية الى حاضر الانسانية والى مستقبلها، ومن شروطها التكافؤ وصفاء النيات والدوافع والاهداف والغايات والالتزام بالمبادئ الانسانية التي تحكم العلاقات بين المجتمعات الانسانية.
فالحوار والتعايش بين الحضارات والثقافات يساهم في درجة كبيرة في التقارب بين الشعوب والامم، وفي ازالة الحواجز المتراكمة من سوء الفهم ومن الافكار المسبقة القائمة على اسس غير صحيحة، والتي تختزنها ذاكرة الشعوب، مما يجعل من مواصلة الحوار وتوسيع دائرته رسالة اصحاب النخبة والكفاية الثقافية والعلمية ومسؤولية المهتمين بالمصير الانساني.
فالحوار ضرورة حتمية وواجب انساني وشرط مؤكد للتعايش السلمي بين البشر. وهو يتطلب فضلا عن التكافؤ بين الارادات، الالتزام بالاهداف التي تعزز القيم والمبادئ الانسانية التي هي القاسم المشترك بين جميع الحضارات والثقافات، ونحن اذ نتطلع الى اليوم الذي تسود فيه بيننا وبين الغرب والحضارات العالمية الاخرى روح التلاقي والتفاهم والحوار، فإن ضرورة مواصلة التعاون، ومد اسباب التواصل مع الامم والشعوب الاخرى واجب ديني وانساني، لما يمهد من سبل التقارب والتفاهم، ويعزز الروابط الانسانية التي تجمع بين تلك الشعوب والامم.
الحوار منهج واسلوب قرآني تنتاب العالم اليوم الكثير من التطورات والتحولات في شتى الحقول ومجالات الحياة، حيث تعيش البشرية بأسرها مرحلة انتقالية، ومنعطفا تاريخيا له تداعياته السلبية والايجابية العديدة.
وفي كل حقبة انتقالية تواجه الامم والشعوب تحديات حقيقية تتطلب من الجميع التفكير العميق والتخطيط المتواصل للخروج من هذه التحديات بنجاح واقتدار.
وتأتي ثقافة الحوار لتشكل الاداة الفاعلة الاولى في الانفتاح على الغير وسبيلا افضل للتفاهم مع الشعوب الاخرى على صيغ ومشاريع لتأسيس نظام ثقافي كوني عالمي يحافظ على الانسان ويحقق المثل العليا.
ان الحديث عن الحوار في مؤتمرنا هذا وموضوعه "هذا هو الاسلام" يقتضي منا التعرف على الحوار لغة لنصل الى تبيان مفهوم الحوار الذي تحدث عنه الاسلام.
الحوار لغة جاء في لسان العرب ان الحوار هو الرجوع عن الشيء الى الشيء. حار الى الشيء وعنه حوارا كذلك حار عليه اي رجع اليه ما نسب اليه، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة. وردت كلمة الحوار في القرآن الكريم ثلاث مرات، منها قوله تعالى في سورة الكهف "قال له صاحبه وهو يحاوره" اي وهو يراجعه الكلام ويجادله.
والتحاور التجاوب لذلك يستلزم الحوار متكلما ومخاطبا ولا بد فيه من مراجعة الكلام وتبادله وتداوله. وغاية الحوار توليد الافكار الجديدة في ذهن المتكلم وعدم الاقتصار على عرض الافكار القديمة.
وفي هذا التجاوب توضيح للمعاني واغناء للمفاهيم. والحوار مبدأ اساسي في الفكر الديني الاسلامي، وقد اعتمده القرآن الكريم كمنهج واسلوب في ايصال الحقائق الى الناس، وقد تنوعت اشكال الحوار القرآني واصنافه بتنوع المقاصد والاهداف تماشيا مع الفطرة الانسانية واحتياجاتها والاغراض التعليمية والتربوية المقصودة. فكان هناك حوار تذكيري وتعبدي وايماني وانساني وحوار خاص مع الرسول(ص)، بالاضافة الى الحوار البرهاني والحوار القرآني بجميع اصنافه وصيغه واشكاله يهذب المشاعر ويوقظ الوجدان ويربي العواطف الربانية ويجيب عن اسئلة السائلين، وآثاره التربوية كثيرة واهمها، كونه يكشف عن العناية الالهية بالانسان وقيمة الانسان عند الله وهو يحاوره، او يستمع اليه، ليخرجه من ظلمات الجهل الى نور المعرفة والحقيقة.
لقد نظم الحوار القرآني بعناية من طريق الوحي، وفي آيات قرآنية واضحة الدلالة، لضبط هدفه وطرائق استعماله، وبذلك اصبح الحوار نهجا ربانيا وجزءا من عقيدة المسلم ومن ثوابتها التي لا تقبل التغيير، وألزم به صاحب الرسالة اولا ثم من تبعه من المسلمين في ما بينهم، واصبح نهجا ثابتا في حوار الغير حيث خاطب الله نبيه محمد (ص) بقوله تعالى "ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن" (النحل 125).
فهدف الحوار الدعوة الى سبيل الله اي الطريق المؤدي الى اقامة المنهج الرباني على الارض، وان يكون اسلوب الحوار والدعوة بالحكمة والتعقل والاعتدال وإحكام الامور، وان يكون الحوار موضوعيا مفتوحا هادفا الى تحقيق غاية شريفة، يلتقي عليها المتحاورون وتضيف الآية الى الحكمة الموعظة الحسنة، والموعظة حض على عمل الخير، وقد زادها القرآن وصفا حيث وصفها بالحسنة، بحيث تضبطها الموضوعية وان تبتعد عن الاثارة وجرح العاطفة وان يقدمها الواعظ في غير عنف بل برفق ولين، خاليين من الانفعال والتشنج وبدون تعال.
وقد يدخل الحوار في مرحلة دقيقة وهي مرحلة الجدال في شأن قبول الدعوة او انكارها، وسعي المحاور غير المسلم الى تقويض حجيتها، او التنقيص منها فحينئذ ابقى القرآن في هذه الحالة الحوار مفتوحا لاتخاذ اي طريق يراها الداعية الاسلامي احسن الطرق الى بلوغ الحوار مقصده. وهو ان يتلقى المخاطب الدعوة بالاقتناع والرضا والتسلم بحجيتها دون ضغط او اكراه.
وقد انتقلت الدعوة بنداء إلهي طلب الله فيه من رسوله ان يوجهه الى اهل الكتاب بالالتقاء على كلمة التوحيد في مقابل الشرك، حيث يقول الله تعالى في سورة آل عمران الآية 64 "قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله".
وهذا النداء يشكل اول نداء عالمي للتعايش بين الديانات الموحدة، وهو اول نداء عالمي للتعايش السلمي بين المجتمعات، ولقد وجد هذا النداء تطبيقه في الحياة العملية، حيث قام النبي محمد (ص) بعد هجرته واستقراره في المدينة المنورة (يثرب) بمعالجة انسانية متطورة لعلاقة بين التكوينات الاجتماعية والسياسية الحديثة العهد بالاسلام، من خلال دستور عرف بصحيفة المدينة، جاء في شكل اتفاق مبرم بين فصائل سكان يثرب على اختلاف اصولهم العرقية وعقائدهم الدينية، من اجل ان تصبح المدينة حرما آمنا للتعايش السلمي، في ظل احترام جميع العقائد.
لقد اثبتت ثقافتنا الاسلامية، عبر تاريخها الطويل، انها ثقافة حوار وتواصل تداخلت مع الثقافات الاخرى، فأخذت منها واعطتها، كما ساهمت في رفد العديد من الحضارات الاخرى بالعلم والمعرفة. ولقد استطاع الدين الاسلامي بأفقه العالمي ان يؤسس لقنوات تفاعل ايجابي مع مجتمعات متنوعة، دون ان يفرض نفسه عليها قسرا او عنوة.
وقد اسس مبادئ دعوية قائمة على الاقتناع والمجادلة بالتي هي احسن، وبتأسيس قاعدة رفض الاكراه في الدين والعقيدة "وإنا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين". (سورة سبأ 24). الحاجة الى الحوار في مجتمعات اليوم لقد بات الحوار اليوم اكثر اتساعا ومدى بفعل حركة التواصل واختراق الحدود والفواصل الزمنية والمكانية، حيث اصبحنا نعيش ضمن ما يسمى "القرية الكونية"، وهذا ما يسعفنا بنشر قيمنا وافكارنا وفي الكشف عن انسانية الحضارة الاسلامية وعالميتها. وعالم اليوم بفعل التحولات العميقة التي يمر بها، يعد ارضا خصبة لتقبل الآراء الانسانية، على ان تشفع ببرامج وخطط واضحة الابعاد.
وفكرة العالمية، التي بشر بها الاسلام ودعا اليها، هي اقرب الى عقول الناس ونفوسهم على مستوى العالم، لأنها تبحث عن معنى الحياة والقيم السامية متجاوزة القيم المادية التي سيطرت على مجتمعات عدة في عصرنا الحاضر. فالعالمية الاسلامية نزعة انسانية وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات والتعارف والتساند بين الامم والشعوب والدول، ترى العالم منتدى حضارات يجمعها المشترك الانساني العام. وعالمية الحضارة الاسلامية جاءت كثمرة من ثمرات عالمية الرسالة، التي شاء الله ان يختم بها شرائعه الى الانسان، وتحدث القرآن عن هذه العالمية بقوله تعالى "وما ارسلناك الا رحمة للعالمين" (الانبياء 107).
والعالمية في المنظور الاسلامي تعني العدالة والتسامح وحب الانسان، وهي ضرورة انسانية لأنها تجسد وحدة النوع البشري وترفعه عما سواه وتنسجم مع الفطرة البشرية، وهي تتجسد في الحوار الذي اوله التعارف حيث قال الله تعالى في محكم كتابه "يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم" (الحجرات 13).
لقد ابتدأت الآية الكريمة بتوجيه الخطاب الى الناس عامة، قاصدة الحوار الذي اوله التعارف والتعاون والعمل المثمر البناء، الذي يوثق عرى التعاون بين سائر الشعوب على اختلاف الوانهم ولغاتهم واديانهم وبيئاتهم، فلا يحول الاختلاف والتنوع دون التعارف في سبيل الخير الانساني العام، واذا كان هذا واجبا بين المسلمين وغير المسلمين فهو بين المسلمين اوجب.
فالصلة بين العنصر الاعتقادي في الاسلام والاتجاه الانساني قوية الوثوق. ان المجتمع الاسلامي تسوده فكرة الجماعة خلافا للمجتمعات الاخرى التي تتغذى على فكرة الصراع. وفكرة الجماعة امر طبيعي في مجتمع اسلامي تسوده القيم الدينية والاخلاقية، كما ورد في حديث الرسول (ص) "يد الله مع الجماعة"، والآية الكريمة تؤسس لعلاقات بين الامم والحضارات على قاعدة التعارف "لتعارفوا" وليست على اساس النزاع والصدام والالغاء.
ان وجود الافراد في كل زمان ومكان يحتاج الى وسيلة تفاهم وتعاون وتكامل ويأتي الحوار ليكون الوسيط في ذلك. فالحوار نشأ مع الانسان ومع الاجتماع المشترك، وهو تالياً تلك العملية التبادلية التي يضمنها الفكر والمعرفة، معرفة الذات ومعرفة الآخر. ان الثقافة الاصيلة والعريقة لا يمكن ان تركن للانغلاق والجمود، وتتوقف عن الحركة والنمو، فروح الثقافة الانسانية تكمن في الحوار المتبادل الفعال الحر.
"ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" (سورة آل عمران 159).
ان احترام الخصوصية الثقافية لكل امة يجب ان يكون اساس الحضارة المعاصرة، ولا يمنعنا اي حاجز من الاستمرار في حركة التواصل الحضاري مع الآخر. وباعتبارنا امة شاهدة فإن حالة الشهود هذه تفرض علينا حضورا دائما في هذا العالم "وجعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة 134).
فهذا الدور وهذه الشهادة يتطلبان من الامة ان تؤديهما، وان تنضوي لعملية التوجيه التي تتطلب حضورا دائما، وذلك وفق نموذجنا الاسلامي العالمي الخاص بنا، وهذا يكون ببلورة مشروعنا الثقافي الحضاري للامة الاسلامية في صورة فاعلة ودائمة، دافعنا في ذلك عالمية الاسلام وفطرة التوحيد لعالم يخضع لرب واحد تحكمه القيم الانسانية والعالمية.
الحاجة الى الحوار في ظل المتغيرات الدولية تأكيدا لضرورة ان يؤدي الاسلام الدور المنوط به من خلال المشاركة الفاعلة في صنع ملامح القرن الجديد والالفية الجديدة من عمر البشرية، فإن العالم الاسلامي معني بشكل مباشر بالحوار الحضاري بين الامم والشعوب، وانجاحه في ظل المتغيرات الدولية التي طرأت على العالم كله وستطرأ حيث اننا نشهد ازديادا ملحوظا في اللهجة العدائية التي يتحدث بها الغرب عن الاسلام، وقد اصبحت شعارات من نوع الخطر الاسلامي والارهاب الاسلامي شعارات دارجة في الاعلام الغربي.
ومن هنا يأتي الحوار بمضمونه الانساني العادل ركيزة اساسية داخل المنظومة الفكرية والعقائدية والحضارية والاسلامية. والعالم الاسلامي مدعو لتعميق هذا الحوار في الواقع الانساني المعاصر لنفي تهمة الارهاب عن الاسلام وعلينا ان نقوم بفصل موضوعي بين الاسلام وبعض الدعوات غير الامينة لقيم الاسلام ومبادئه والتي تعتبر وفق المقاييس الشرعية خروجا صريحا عن قيم الدين وتعاليمه.
لذلك ليس من المنطقي جعل ممارسات بعض المسلمين وتجاربهم هي الاطار المرجعي لفهم قيم الاسلام وتعاليمه المتعددة. وبعيدا عن الدوافع والمنطلقات السياسية البحتة التي تفسد مسيرة الحوار، يجب التركيز على ذات الحوار بين الثقافات التي تقوم على مفاهيم ثقافية وتربوية واجتماعية تثمّن اخلاقيات الحوار بين البشر والتعايش بينهم وتقبل الاختلاف والتعددية في المجتمع وتقدر قيمة الانسان والحياة الانسانية. وهذا ما يستدعي التعمق المعرفي في اصول الثقافات الانسانية، وفهم بيئتها الاصلية من مصادرها المباشرة وتاريخها والظروف التي رافقت نشوءها واستمرارها وفق منهجية ودراسة موضوعية.
فالمطلوب ان نؤسس لعدالة ثقافية في عملية الحوار، لأن العدالة دعوة اخلاقية تتجه الى تهذيب النفوس ونقاء القلب والسريرة، وهي خطة عمل متكاملة تستوعب جميع جوانب الحياة. ففي علاقة الانسان مع نفسه يجب ان يكون عادلا. كما ان علاقة الانسان بنظيره الانسان بحاجة الى العدالة القائمة على المشترك الانساني واخلاقية التسامح وحسن النية وفق كلمة الامام علي (ع) "الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق".
(*) مؤتمر مجمع البحوث الاسلامية الثاني عشر انعقد في القاهرة - الازهر الشريف بين 16 و18/4/2002 تحت عنوان "هذا هو الاسلام"