عشاق الله

المسيحيون العرب في العالم العربي

 

العلاقات الإسلامية المسيحية و التحديات المشتركة:
  المسيحيون العرب في العالم العربي

بقلم: د. برنارد سابيلا*

العرب المسيحيون هم جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي-الثقافي والعرقي والسياسي لوطنهم العربي. وتضع التقديرات أعداد المسيحيين العرب ما بين 9،7 إلى 13،2 مليون نسمة أي ما بين 5،4% إلى 7،4 من مجموع السكان في الدول العربية التي ينتمون إليها .


طبعا فان التقديرات لأعداد المسيحيين تبقى تقديرات ولا يمكن ان تكون النسب والأعداد هي العوامل الملزمة لتقييم العلاقات أو لفهم التاريخ أو واقع العلاقات المجتمعية أو الدينية ولكن من المهم التشديد على إن كنائس الشرق العربي ترى نفسها دوما جزءاً لا يتجزأ من محيطها العربي. ومن المهم أيضا التذكير بان مساهمة الكنائس بمدارسها وبمستشفياتها وبمؤسساتها الخدماتية الأخرى قد أثرت في حياة الملايين من مواطني عالمنا العربي دون التمييز في الدين في أية خاصية أخرى. وقد كانت هذه هي التجربة في الدول العربية. وفي فلسطين أقيمت المدارس التابعة للكنيسة أول ما أقيمت في منتصف القرن التاسع عشر وقد ساهم العرب المسيحيون في الحركة القومية العربية وربما تكون أهمية هذه المساهمة في التذكير بان العرب مسيحيين ومسلمين لهم تاريخ طويل من العمل المشترك من اجل المثل العليا ذاتها، ومن اجل رؤية مشتركة تجمعهم في اليسر والعسر.
 

الرؤية الشمولية:
في بحث اجري على عينة عشوائية من الفلسطينيين في أواسط التسعينيات طلب منهم أن يحددوا موافقتهم أو عدمها مع العبارة التالية: "الدين لله والوطن للجميع" وقد عبر 78% من الفلسطينيين المسلمين عن موافقتهم على هذه العبارة بينما عبرت 94% من المسيحيين عن موافقتهم. ودلالة هذه النسب هي أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين تؤكد على أن الدين لا يقف عثرة أمام شمولية الوطن وكليته. شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين ظهور حركة القومية العربية ومشاركة العرب المسيحيين في انعكاساتها الوطنية ومظاهرها الثقافية. وتكاتف المسيحيون والمسلمون في فلسطين للدفاع عن هويتها العربية. وتذكر السيدة ماتيل مغنم في كتابها: "المرأة العربية" «The Arab Woman» وقوف المرأة المسيحية جنبا لجنب مع المرأة المسلمة في الدفاع عن حقوق العرب في فلسطين وتوثق كذلك للحركة الوطنية الفلسطينية ومشاركة المسيحيين جنبا لجنب مع المسلمين تأكيدا للهوية العربية الفلسطينية. وفي سوريا والأردن ولبنان ومصر والعراق قام المسيحيون العرب بدور مهم في عملية الاستقلال وفي تثبيت الدول الجديدة ومؤسساتها. وبسبب تحصيلهم العلمي كانوا أكثر حضورا في المؤسسات الحكومية وفي غيرها من مجالات الخدمة العامة مما توحي أعدادهم من مجموع السكان. وصف أكاديمي ألماني الفلسطينيين بأنهم "شعب يصلي". ومثل هذا الوصف للبروفسور هانف يمكن أن ينسحب على الشعوب العربية بأغلبيتها. وحتى المسيحيين الفلسطينيين وغيرهم من المسيحيين العرب، وان كانوا اقل مواظبة على الصلاة فإنهم وبحسب المقاييس الغربية أكثر تدينا مما يوجد في الغرب.


إن التدين في الشرق الأوسط يعكس حقيقة أن الدين هو عنصر تنظيمي ومهم لحياة الجماعات والعائلات والأفراد. ويجب علينا اخذ هذه الحقيقة في الحسبان حين نتكلم عن الرؤية الشمولية للمجتمع. إن تجربة الديانتين الإسلامية والمسيحية القابلة للشمولية المجتمعية تؤكد عليها مجموعة من العوامل التاريخية والعلاقات الممتازة التي تميّز بها اللقاء الإسلامي المسيحي في شرقنا العربي. فلا عجب إذن أن يلتقي الإسلام والمسيحية في الكيان العربي الواحد. وفي كتابه المسيحية والعرب يذكر نقولا زيادة البدايات العربية للمسيحية والصلاة التي ربطت المسيحيين العرب بإخوتهم المسلمين العرب و المساهمات الأدبية والمهنية للمسيحيين العرب في الحضارة الإسلامية عن طريق التأليف، والإدارة، والترجمة وفي مجالات أخرى خلال فترات تاريخية مختلفة شهدت تعاقب السلالات ونظم الحكم. ويتبع أن التزام العربي المسيحي بالحضارة العربية الإسلامية كما يعبر عنه نقولا زيادة هو التزام يؤكد على اللحمة والعيش المشترك خلال تاريخ طويل. يقول زيادة: " أنا وجريس وطنوس وشنودة ورثة حضارة واحدة عربية إسلامية. عملنا في وقت من الأوقات في بناء صرحها. ونحن أبناء ارض نمت هذه الحضارة فيها. ونحن عرب بقدر ما هو كل مقيم في ارض العرب عربي... نعم هذه حضارتنا التي بدأ العمل فيها قبل نحو ستة آلاف سنة على اقل تعديل". الشمولية على خلفية التاريخ والتراث المشترك، هي إذن أمر طبيعي يتوجب علينا جميعا الالتزام به. ولاشك بانه وجدت حقب تاريخية تميزت بتفسيرات ضيقة وضعت العلاقة المسيحية-الإسلامية في إطار التراث العربي الإسلامي المشترك موضع تساؤل. ولكن غالبا ما كان مصدر هذه التساؤلات التشكيكية من خارج المحيط العربي الإسلامي.


إن أهمية ودلالة الشمولية في العلاقات المسيحية الإسلامية تكمن في تحدّيين اثنين يواجهان المجتمع العربي الإسلامي اليوم. أما التحدي الأول فهو تحدي النهوض بمجتمعاتنا العربية ومساهمة حوار الحياة بين المسلم والمسيحي في هذا الأمر الحيوي بينما يكمن التحدي الثاني في مواجهة البيئة المعادية للعرب وللإسلام في بعض الأوساط الغربية وبخاصة عقب أحداث 11 أيلول.

تحدي النهوض بالمجتمع والرؤية الشمولية القائمة على حوار الحياة..
لا يمكن لمجتمعاتنا أن تواجه تحدي النهوض والتنمية دون تبني الرؤية الشمولية. وواقع أن المرء يلتزم بدينه ويعمل بمبادئه مرشدا وهاديا لا يتعارض وحقيقة أننا جميعا نعيش في المجتمع نفسه ونتطلع لرفاهيته ونتفكر بمستقبله لنا ولأطفالنا وللأجيال الصاعدة. وهذا الأمر دافع لنا جميعا لتضافر الجهود وتواصلها لما فيه خير المجتمع ككل. ولتبني الرؤية الشمولية علينا أن نفهم احدنا الأخر وبالطبع فان فهم احدنا للأخر لن يؤدي لإضعاف التزامنا بديننا ولكنه حتما سيساعد في تخطي الجهل عن المسيحية عند المسلمين وبالمثل في تخطي الجهل عن الإسلام عند المسيحيين وبخاصة أولئك الذين يتواجدون في أوروبا والعالم الغربي. إن الحياة اليومية بمشاغلها وعلاقاتها المتشابكة تشير إلى حوار حياة بين المسلمين والمسيحيين. ونشاهد هذا الحوار في المدارس وأماكن العمل والوزارات والشركات التجارية والجامعات وفي غيرها من مناحي الحياة. وفي مثل هذا الحوار الحياتي فان الالتزام بتعاليم ديننا والاعتزاز به يولد الاحترام للأخر والثقة به. إن الطائفية التي تؤدي للانغلاق الفكري على الأخر تؤدي بنا أيضا للعزوف عن مواجهة مشاكل وتحديات المجتمع بشكل مباشر. ويجب أن يكون هناك تأكيد متبادل بعدم إطلاق الأحكام على أعنتها ونحن نحاول أن نفهم احدنا الأخر ونعمل جنبا لجنب لمصلحة المجتمع والخير العام. علينا أن نحصي كل مصادرنا، البشرية وغيرها، ونحن نجهد سوية لتوفير الحياة بكرامة للأجيال القادمة. ولا يمكن تحقيق هذا دون انفتاح احدنا على الأخر ودون الإرادة المشتركة لاستمرارية حوار الحياة بيننا.

تحدي ما بعد 11 أيلول..
يمكننا استخدام تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية وحوار الحياة الشمولي لمواجهة ظاهرة معاداة العرب ومعاداة الإسلام عند البعض في المجتمعات الغربية والتي ظهرت ما بعد 11 أيلول. وبينما يحلو للبعض أن يصفوا المسيحيين العرب كالجسر ما بين العالم العربي والعالم الغربي أفضّل شخصيا أن نتكلم مع الغرب كعرب يشاركون إخوانهم المسلمين نفس أحياء السكن وأماكن العمل والمواطنة. ومن هذا المنطلق فنحن كمسيحيين عرب عشنا تجربة العيش المشترك مع المسلمين نستطيع أن نخاطب الغرب عن هذه التجربة وان نبين سوية مع غيرنا من أبناء الوطن تلك الأبعاد والجوانب عن الإسلام والمسلمين التي يجهلها أو يتجاهلها بعض أهل الغرب. وإذا ما أردنا أن ندافع عن الإرث العربي الإسلامي أمام هجمة البعض في الغرب فعلينا أن نقوم بهذا متحدين متراصين لا فرق بين المسيحي والمسلم. وصحيح أن انفتاحنا كمسيحيين عرب على الغرب كان بفعل الجذور الدينية المشتركة معه التي تسهل المخاطبة والتبادل. ولكن هذا الانفتاح لم يخفف أبدا من اختلافنا مع الغرب، أسوة ببقية العرب والمسلمين، حين يتخذ الغرب مواقف من قضايا العرب وبخاصة قضية فلسطين واليوم قضية العراق تتسم بانعدام الحساسية وانعدام العدالة. وقد تتهمنا بعض الجهات الغربية وبخاصة السلفية المسيحية منها بأننا نتماشى مع الإسلام والمسلمين حفاظا على مصالحنا. ولكنها تتجاهل بان تماثلنا مع الإسلام والمسلمين، ينبع عن إيمان عميق لدينا بان الحضارة العربية الإسلامية هي حضارتنا نعتز بها ونتفاعل معها مع كل ما يتبع هذا التفاعل من أبعاد وجوانب.


وتتحدانا أحداث الحادي عشر من أيلول بان نقف متكاتفين وان ننشر قدر المستطاع تجربة عيشنا المشترك في علاقات جوار طيبة وأخوية في فلسطين والأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر وفي غيرها من الدول العربية. وتقوم الكنائس العربية ورؤسائها وكذلك مؤسسات حوار وأبحاث و الأكاديميون والمثقفون بنشر هذه التجربة الثرية ويقوم مجلس كنائس الشرق الأوسط بالعمل الحثيث بين جماعات وكنائس مختلفة في الغرب وبالاشتراك مع مجلس الكنائس العالمي في تبيان صور التسامح والعيش المشترك بين الإسلام والمسيحية في ربوع شرقنا العزيز. وقد نشطت في المدة الأخيرة وبخاصة بعد أحداث 11 أيلول المؤتمرات واللقاءات بين أتباع الديانات التوحيدية وبين الناس ذوي النوايا الطيبة من كل الخلفيات للتقريب وللتواصل وللحوار. ولكن المسؤولية تقع على أكتافنا لبلورة رسالة يمكن إيصالها لملايين الناس في الغرب وفي العالم ككل. وهناك البعض هنا في عالمنا العربي الإسلامي الذين يدّعون إن الحوار والتبادل بين الأديان وبين المسيحية والإسلام هي محاولة للتبشير وأضعاف الإيمان. وحتما فان هذه النظرة تثير المشاكل وبخاصة لأنها تتنافى وسجل العلاقات المسيحية-الإسلامية الممتازة وبقناعة كل طرف بتعاليم دينه وبمبادئه. وبالإضافة فان التخوف من الحوار ومن الالتقاء يتنافى وحوار الحياة الشمولي والذي جمع المسلم والمسيحي في شرقنا على ممر العصور وبيّن عظمة وسماحة الإسلام. إن عظمة أي دين تكمن في مقدرته على الانفتاح على الآخرين مرتكزا على تعاليمه ومبادئه وإذا كان هذا صحيحا للأديان عامة فكم هو اصح للإسلام وهو خاتم الديانات التوحيدية؟

خاتمـة..
إن صراعي كمسيحي فلسطيني هو صراع غيري من الفلسطينيين والعرب. ولن يخدمني أبدا أن أقف جانبا وأراقب عن بعد أو أن ادعي بأنني لا أستطيع المساهمة بفعل الأرقام والنسب المئوية للمسيحيين من مجموع السكان. وما يقع على إخوتنا المسلمين يقع علي وما يصيبهم يصيبني ومن يحاول التطاول على الإسلام يتطاول علي أنا كذلك بفعل ميراثي الحضاري كعربي ينتمي للحضارة العربية الإسلامية. لذا علينا جميعا أن نؤكد على الاحترام المتبادل ونحن نسعى لمجتمع متعدد ومنفتح بمؤسسات تخدم الجميع بدون استثناء. ولكنه من الضروري أن يكون لدينا رؤية تحول خلفياتنا وتعدديتنا الدينية إلى قوة وتساهم في التأكيد على الأحسن والارقى في حضارتنا العربية الإسلامية. نعم فنحن كعرب مسيحيين جزء لا يتجزأ من الرؤية الشمولية للحضارة العربية الإسلامية كما كنا منذ أكثر من ستة آلاف سنة من التاريخ المشترك في منطقتنا هذه.

* أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيت لحم، مدير دائرة الخدمة للاجئين الفلسطينيين في مجلس كنائس الشرق الأوسط، ويقيم في مدينة القدس.