عشاق الله

قراءة في كتاب "ما هو سبيل الله"

  قراءة في كتاب- ما هو سبيل الله ؟- لسمير إبراهيم حسن

  سعيد الكحل

شرفني الأستاذ سمير إبراهيم حسن بدعوتي إلى إنجاز قراءة في كتابه حديث الصدور تحت عنوان " ما هو سبيل الله؟" . وأنا ألبي دعوة الأستاذ سمير ، لا أزعم التدقيق في كل تفاصيل الكتاب ، بقدر ما أكتفي بالتركيز على ما يناسب اهتمامي مع بذل قدر من الجهد لتجاوز بعض الصعوبات التي تطرحها عادة الكتابات العلمية المتخصصة في وجه غير المتخصصين. تضاف إلى هذه الصعوبات صعوبة أخرى مرتبطة بالجهاز المفاهيمي الذي يستعمله المؤلف ، خاصة بالنسبة لمن تكون قراءته الأولى لواحد من مؤلفات الأستاذ سمير ، كما هو حالي . الأمر الذي يشق علي فعله وأنا ألملم معاني ودلالات المفاهيم الموظفة في الكتاب . لهذا لا أبرئ قراءتي للكتاب من بعض العثرات التي آمل ألا تشوش على مقاربة مقصد الكتاب ومرمى الكاتب .منذ البداية يستوقف القارئ عنوان الكتاب " ما هو سبيل الله" ، والذي أراد به الكاتب أن يشرك القارئ في قلق السؤال وما يصاحبه من توترات داخلية لم يعهدها القارئ مع كتب عديدة درجت على طمأنة القارئ وإراحته من همّ السؤال ، بحمل عناوين واضحة الدلالة يقينية الإجابة . إذن عنوان بصيغة سؤال مفتوح " ما هو سبيل الله ؟" يختلف نوعيا عن أي عنوان آخر يقدم الجواب الكافي في صيغة " الطريق إلى الله " أو السبيل إلى الله " ، والتي لا تتطلب من القارئ سوى تتبع المسار الذي حدده الكاتب كما يفعل كل سائح مع خريطة موقع أو مرشد سياحي . إن قلق السؤال الذي يثيره عنوان الكتاب يهيئ القارئ إلى مواجهة المفاجآت المحتملة ، ومن ثم يصير القارئ شريكا للكاتب في البحث عن الجواب أو في صياغته . فمنذ اللحظة الأولى حرص المؤلف على وضع القارئ أمام سلسلة من المفارقات التي تميز الإنسان العربي المسلم في فهمه للقرآن الكريم وتعامله مع الحقائق العلمية عن غيره من أهل الديانات السماوية الأخرى . وأولى تلك المفارقات التي يواجهها القارئ هي )عدم اكتراث المسلمين بالإنجاز العلمي الهائل الذي تحقق بدخول المسبار كاسينى في مدار حول كوكب من بعد أن نفذت في السَّمآء 2.2 بليون ميل. وهى التي كانت قد بدأت رحلتها منذ سبع سنوات قبل وصولهاۤ إلى مداره في 30 حزيران من هٰذا العام). ووجه المفارقة صاغه الكاتب في عبارته ( وأكثرنا لا يهتم بخبر كاسينى. ولا بما يصدر عن علمآء التكوين من بيان. وسبب امتناعنا عن الاهتمام بالأمر هو مناهج التعليم على اختلاف درجاته. التي تجعل قلوبنا ترىۤ أن العلم لاۤ أهمية له في حياتنا. وأنَّ الخبز وحده هو الذي يستحقُّ منَّا الاهتمام ) . ولكأن همنا ، كمسلمين ، هما شهوتي البطن والفرج . أما العلم والمعرفة فعققناهما يوم احتكر الفقهاء الدين وحاربوا العلم ( وهم يزدرون بالخطاب العربى:
"يَٰمَعشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِن استَطَعتُم أََن تَنفُذُواْ مِن أَقطَارِ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرضِ فَانفُذُواْ لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلطَٰنٍ" 33 ٱلرَّحمٰن.
"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" 8 تثنية.) . كما ( يرجمون بتهمة الكفر جميع الذين ينشرون بيانات عن تطور الخلق المكوَّن. وهم الذين يعملون على منع العلم من التطور بفعل مواصلة النظر كماۤ أمر اللَّه فى بلاغه العربى:
"قل سيرواْ فى الأرض فانظرواْ كيف بدأ الخلقَ"20 العنكبوت.) . إن الكاتب يضعنا في السياق التاريخي العام لمجتمعاتنا العربية التي صارت رهينة هذا الفكر المشلول المعادي للتطور ، والذي امتد إلى المناهج التعليمية للتحكم من خلال مضامينها في تشكيل ذهنيات الأجيال المتعاقبة لتظل أسيرة العمى الفكري والعداء المعرفي .هؤلاء ( هم الذين يشرِّعون أساليب المكِّ لأموال الناس (إكراه الناس على دفع الضراۤئب). وقد احتكر هؤلآء الدين في بلاد كثيرة ومنها بلادنا. واحتكروا معه حقَّ العيش وحقَّ الحياة. وأقاموا جميع ألوان الحواجز على سبيل اللَّه. وهو الممرّ السَّالك الذي يسير عليه من يريد من الناس ناظرًا باحثًا كيف بدأ الخلق ) . إن المسألة إذن مرتبطة بمصالح معينة لا يمكن تأمينها إلا باحتكار مناهج التعليم . لهذا ، يقول الكاتب ( ولكي يكون احتكار هؤلآء مأمونًا احتكروا وحرسوا مناهج التعليم. وقد أمَّنوا علىۤ أنَّ التعليم يبعد الناس عن سبيل اللَّه ويبعدهم عن حبِّهم العلم وبياناته. وقد استطاعوۤا أن يفصلوا بين بيان العلم والناس في كلِّ مكان. وترى الغبار في المكتبات يعلو كتبها العلمية المعروضة للبيع. ومجلات العلم لا يشتريهاۤ إلا عدد قليل من الناس. أمَّا كتب السَّلف والأبراج والأطعمة الملونة والأزيآء النَّسوية فهي تروج كما يروج الخبز المنخول الذي لا نفع من أكله إلا في زيادة شحوم الجسم وتقصير عمر أَكليه) . وتترتب عن هذه المفارقة مفارقة أخرى تتمثل في أن ( الأعمال التي تنشر الفساد في الأرض وقميصها وتروّج لجعل الناس أنعامًا مُّستهلكة فلا توجد دعوى ولا تشريع لمنعها باسم أخلاق أو باسم دين. فالشكوى في كلِّ مكان يطلقها رجال العلم. وهم جميعهم يعانون من نقص التمويل ونقص مشاركة الناس وتشجيعهم) . وإذا كان المؤلف يعمم هذه المفارقة لتشمل كل بلدان العالم ، فإنها في مجتمعاتنا العربية أشد حدة .


فعلى امتداد الوطن العربي ، بطاقاته ومقدراته ، لا يتجاوز عدد الإصدارات 19 ألف عنوان في السنة ، بما فيها الكتب المدرسية التي تشكل النسبة العظمى من تلك الإصدارات . وتظهر حقيقة هذا الرقم إذا استحضرنا بعض المعطيات لتسهيل المقارنة . وسيكون مهما للغاية استحضار مثال إسرائيل لطبيعة العلاقة مع هذا الكيان الدخيل على الجسم العربي . فرغم محدودية الموارد البشرية لهذا الكيان ( 7 ملايين نسمة ) ، ورغم انعدام مصادره في الطاقة والثروة الطبيعية ، إذ يعتبر الماء أخطر مشكل يواجهه هذا الكيان ، فإن إسرائيل تنتج ما يقارب مجموع الكتب التي ينتجها العالم العربي . بحيث يصل معدل الإصدارات 17 ألف عنوان سنويا . هنا يظهر الفارق بين سياسة إسرائيل التي تعتمد الثقافة رأسمالا وسلاحا وواجهة للصراع ضد " الخطر" العربي ، وبين السياسة الرسمية للدول العربية التي تتجاهل العامل الثقافي وأهميته في تحقيق التنمية والتفوق على الخصم الحضاري . ذلك أن الدول العربية لا تعتمد سياسة استثمار الموارد البشرية وتنميتها . فالعنصر البشري لا يمثل أدنى قيمة في مخططات هذه الدول . وتدل على ذلك مستويات الفقر والتهميش والأمية والأمراض التي تضع دولنا في مؤخرة الترتيب العالمي . في الوقت الذي تتعرض فيه الأموال العمومية لكل أشكال النهب والتبذير دون أن تهتدي حكومات الدول ، النفطية خاصة ، إلى توظيف الفائض على الأقل في دعم الثقافة . وهذا حال العربية السعودية مثلا ، التي لا يزيد عدد سكانها عن 24 مليون نسمة بمن فيهم الخمسة ملايين من المهاجرين . لم تعمل هذه الدولة على توظيف جزء من عائدات النفط في تنمية العنصر البشري . إذ لا زالت الدولة تعتمد على اليد العاملة الأجنبية في إدارة اقتصادها . لقد استوقفتني كثيرا الأرقام التي ذكرها روبير بايير في مؤلفه " ذهب أسود وبيت أبيض" الذي عملت جريدة " الأحداث المغربية" على نشر مضامينه . ومن شأن هذه الأرقام والحقائق أن تشعر القارئ بمرارة الانتماء إلى هذا الواقع الآسن .

ومن بين ما ذكره الكتاب أن ربع سكان السعودية وما يفوق ثلث سكانها النشطين هم من الأجانب يعملون في المجمعات البترولية ، وفي برمجة الحواسيب وتسيير مصافي البترول ، بحيث يشغل الأجانب 70 في المائة من المناصب المتوفرة . علما أن نسبة البطالة في السعودية وصلت إلى 26 في المائة . وهي نسبة جد كارثية . ورغم ما كانت تحققه الدولة من فائض مالي ضخم قبل حرب عاصفة الصحراء ، إذ ذكر روبير بايير أن الفائض بلغ في بداية الثمانينات 120 مليار دولار ، إلا أنها لم تفلح في القضاء على الأمية التي ما يزال المجتمع السعودي يعاني منها . كما لم تفلح الدولة في نشر العلم والمعرفة في معظم التخصصات إن لم يكن كلها . لقد أفلحت السعودية للأسف الشديد في أن تتحول إلى منتج للتطرف الديني ومروج له بلا منازع . وكيف لا وثلثا الحاصلين على شهادة الدكتوراه متخصصون في الدراسات الإسلامية بتأطير وإشراف حملة الفكر الوهابي ومؤدلجوه . أما حاملو الدكتوراه في المعلوميات والهندسة ، فوجودهم جد نادر . وهذا ما جعل روبير بايير يلخص المسار التعليمي الذي تنهجه السعودية بقوله ( إن الشباب السعودي يكَون من أجل إدماجه في عالم لن يوجد إلا إذا نجح الجهاديون الوهابيون وحلفاؤهم الإخوان المسلمون في العودة بالبلاد إلى بعض القرون الخوالي . فبينما العالم يسير نحو الانفتاح أكثر فأكثر ، لا يتمكن السعوديون من حل شفرات الأحداث إلا من خلال كوة ضوء ضيقة ، في حال لم تقفل هذه الكوة كليا ) .

ذلك هو واقع دولة تملك أكبر احتياطي عالمي في مجال النفط والغاز الطبيعي . كل ثروتها لم تستثمر في بناء الإنسان ، بقدر ما كانت مصدر خنق حرياته وسد آفاق تطلعه وأبعاد انفتاحه على الإنجازات الحضارية والقيم الكونية . حتى أصبح شراء الأسلحة هو الشغل الشاغل للدولة ، إذ تمثل النفقات العسكرية للسعودية ، حسب الأرقام الرسمية ، 13 في المائة من الناتج الخام . علما أن السعودية ليست دولة مواجهة ولا في حالة حرب . خلافا لذلك ، ورغم الوضعية التي توجد عليها إسرائيل ، وحالة الحرب الدائمة التي تشنها ضد دول المنطقة ، فإن النفقات العسكرية لا تزيد عن 9 في المائة من الميزانية العامة لدولة إسرائيل ذات الموارد المحدودة . وما ينطبق على دولة السعودية يسري على كل البلدان العربية التي تحتل ميزانية الثقافة آخر القائمة . الأمر الذي ينعكس مباشرة على المستوى الحضاري والثقافي للإنسان العربي .

وتُظهر المعايير الدولية المسافة العميقة التي تفصل مجتمعاتنا عن الانخراط في ثقافة عصرها . ذلك أن هذه المعايير تقتضي أن تتوفر مكتبة عامة بالمواصفات المعروفة عالميا لكل ستة آلاف نسمة . وبناء عليه سيكون من المفروض في مصر مثلا التي تعد " أم الدنيا" ، أن تتوفر على ما لا يقل عن عشرين ألف مكتبة . في حين أنها ـ مصر ـ تتوفر بالكاد على خمسين مكتبة وفق المعايير الدولية . أكيد أن أمر البؤس الثقافي الذي تعم بلواه عالمنا العربي ، يعود أساسا إلى طبيعة السياسات الحكومية المتبعة ، والتي تستبعد من دائرة اهتمامها نشر الثقافة ودعم بنياتها . وهذا ما أكده السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية في الجلسة الأولى للمؤتمر الثاني لمؤسسة الفكر العربي ، المنعقد بلبنان في الأسبوع الأول من دجنبر 2003 ، لما أحاط الحاضرين علما بالاتفاق مع معهد فرانكفورت ليكون الكتاب العربي ضيفا على المعهد ، مما يفتح المجال لعرض الإنتاج الثقافي العربي طيلة السنة ، والتعريف بالثقافة العربية . ولإنجاز هذا النشاط الثقافي على الجامعة العربية أن توفر مبلغ ثلاثة ملايين دولار . ولما عرض المشروع على الدول العربية وافقت عليه ولم تلتزم بتسديد حصصها سوى أربعة دول . وبسبب هذا البخل الثقافي ، تفتقر دولنا إلى المراكز ومعاهد الدراسات المتخصصة ، رغم الحاجة الملحة إليها ، ورغم الإمكانيات المادية المتوفرة . إذ لا تمثل المراكز الموجودة في الدول العربية مجتمعة سوى نسبة الخمس ( 5/1 ) مما تتوفر عليه إسرائيل .


من هنا يخلص الكاتب إلى أن أولى خطوات الانحراف عن طريق الله هي فصل الدين عن العلم وإسناد فهم كلام الله إلى رجال الدين دون غيرهم من المتخصصين في العلوم الحقة . في حين ، يؤكد الكاتب ( وقد توصل نظري من بعد جهد في دليل بعض كلمات كتاب الدِّين إلى العلم أنَّ رجال الدِّين الحقِّ هم علمآء في الحقِّ. من مثل المفكر وعالم الفيزيآء لورنس كراوس وغيره من علمآء الفيزيآء والفروع الأخرى من فروع النظر والبحث. فهؤلآء جعلهم نظرهم وبحوثهم يطمئنون إلى قولهم أنَّ جزء المآء الۤمۤـ "لا ريب فيه". كما جعلهم "ينفقون ممَّا يرزقون" على بحوثهم ويطلبون من رجال الدولة أن ينفقوا على تلك البحوث. وأن لا يناصرون أولئك الذين يزعمون أخلاقًا ودينًا وما هم برجال دين).لذا ، فالسبيل إلى الله يدركه هؤلاء المتخصصون الذين ينسجمون مع الخطاب الإلهي ويستجيبون لأمره "قل سيرواْ في الأرض فانظرواْ كيف بدأ الخلق"20 العنكبوت. وبذلك يغير الكاتب مسار السبيل إلى الله من البحث في الدلالات اللغوية والشعرية لألفاظ القرآن إلى البحث في دلالاتها العلمية المرتبطة بقوانين الكون والطبيعة . فالكاتب لا يخفي انشغاله بالبحث عن دلالات الألفاظ القرآنية خارج السياق التقليدي الذي رسمه الفقهاء ، والذي ظل متأثرا بضيق مداركهم وشح معارفهم . وهذه معضلة لازمت المسلمين منذ ظهور الإسلام ومحاولاتهم إيجاد تفسير للآيات القرآنية التي تتحدث عن ظواهر طبيعية أو عوالم كونية . إذ نجدهم وقد استعانوا بالموروث الثقافي القديم السائد في البيئة العربية . الأمر الذي جعل تفسيراتهم لا تختلف عن تفسيرات العوام من الناس . وهذا ملا لاحظه ابن خلدون على كتب هؤلاء المفسرين من كونها ( تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود ، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية ، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى . وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ) . لهذا جاءت تفسيراتهم تعكس مستوى ما يملكونه من معارف التي هي معارف عامية . وظلت ، للأسف ، تلك التأويلات " العامية" تحْكُم أفهام الناس وتوجهها ، ومتى ظهرت تفسيرات جديدة تخالف ما تشبع به الناس إلا واعترتهم مشاعر الرفض . إنهم يريدون وقف حركة الفكر وتجميدها عند ما أنتجه الأولون . لعل هذا ما قصده الكاتب بقوله ( وما وجدته وأنآ أبحث في دليل كلمات القرءان أنَّ إهمال النظر في دليل كلمات كتاب الدِّين كان قد قطع هذه الكلمات عن التطور الجارى في النظر والبحث العلميين. وأوقف دليل كلماته عند إدراك السلف. وهذا الاهمال جعل الناس يصدقون زعم رجال الكهنوت أنَّهم رجال الدِّين. وهو الذي دفع بالذين يعلمون إلى المطالبة بفصل المجتمع وعلومه عن الدِّين ) .

إن خطورة هذا الانحباس المعرفي ستشمل أساسا المؤسسات التعليمية التي تتولى إعادة إنتاج نفس الفهم الذي صاغه السلف . وبذلك تزداد سلطة السلف على الخلف وتتقوى أغلاله التي تحجر على العقول . فالكاتب جعل من أولوياته تكسير تلك الأغلال وتحرير العقول التي شكلتها البرامج التعليمية . يقول الكاتب( وجدت أنَّ مؤسسات التعليم قد أهملت مسألة التطور فىۤ إدراك دليل كلمات كتاب الدِّين. وبقىَ إدراك دليل الكلمات في مناهجها يتبع إدراك شاعر استعمل الكلمات في شعره كماۤ أدرك دليلهاۤ. أو مفكر رأى قلبه من دليل الكلمة بما يملك من علم. وبذلك صار فهم كلمة الدِّين عند الذين احتكروا القول باسمه يتبع ما رآه شاعر أو مفكر ميِّت. فلا يجوز لأحد تجاوزه إلىۤ إدراكٍ أكثر عمقًا بفعل تطور وسآئل إدراكه. وقُيِّد كتابُ اللَّه بماۤ أدركه ذٰلك الشَّاعر أو المفكر الميِّتين. وقد تجاوزهماۤ إدراك جميع الناس الأحيآء بفعل تطور اكتسابهم العلمي). إن الرفض الذي أبداه الفقهاء من نظرية التطور هو نفسه الرفض الذي يواجهون به التطبيقات العلمية في مجال الهندسة الوراثية والاستنساخ لأغراض علمية . ومن تتبع حلقة يوم 27 مايو 2005 من برنامج " أكثر من رأي" على قناة "الجزيرة" سيدرك عمق الفجوة التي تفصل الذهنية الفقهية عن الذهنية العلمية المخبرية . إن أولى خطوات التحرر التي رسمها الكاتب تنطلق من تجاوز عقلية القطيع ، لأن الحقيقة لا تتم البرهنة عليها بعدد الأتباع ، بل بما نملكه من أدلة علمية . ومن ثم ، فالاستجابة لأمر الله ، يقول الكاتب ، لا تحدث ( باتباع ما يسمىۤ أخلاقًا ودينًا صنعته أكثرية جاهلة تزعم الدفاع عن اختصاص اللَّه وتوقف في سبيله. بل يحتاج إلى من يعلمون ما هو سبيل اللَّه وما هي حاجة السلوك عليه. فالأمر لا يتبع استفتآءً بحثًا عن أكثرية. وقد بين البلاغ العربي أنَّ اتّباع الأكثرية يسوق إلى الضّلال عن السبيل:
"وإن تُطع أكثر مَن في الأرض يُضلُّوك عن سبيل اللَّه إن يتبعون إلا الظَّنَّ وإن هم إلا يخرصون"116 ٱلأنعام.)

إن الكاتب يثير مسألة في غاية الأهمية ، وهي أن ( الذين احتكروا القول باسم الدِّين فقد جعلوا كتاب اللَّه يوافق إدراكًا مَّقطوعًا ومتخلفًا عن تطور إدراكنا. ومنعوا ويمنعون النظر فيه كما يمنعون صناعة التطور فىۤ إدراكه. وبهٰذا المنع يجرى الفصل بين الدِّين والعلم بقوة جهل وجنون الكهنوت ). ومن ثم تزداد مسئولية العلماء تعقيدا : من جهة : الربط بين الدين والعلم ، ومن أخرى تحرير الدين من احتكار رجال الدين . حقيقي أنها مغامرة قد تزيد علاقة الدين بالعلم تعقيدا ، لأنها سترهن أحدهما بالآخر . إما أن الدين يتحول إلى مجال يستمد منه العلم مشروعية أبحاثه ، ومن ثم يزكي حقائقه . وفي هذه الحالة سيضع العلم مصيره بيد الدين ورجاله ، لأنه سينفعل بهم أكثر مما سيفعلون . وقد يتحول الأمر إلى صراع بين الطرفين على المجال الديني بالخصوص . أي من يملك سلطة الحديث باسم الدين ؟ وإما أن يتحول العلم إلى مجال ينهل منه الدين ورجاله المصداقية المطلوبة لإثبات بعثة الرسالة السماوية ، كما يفعل اليوم مروجو مفهوم "الإعجاز العلمي" . لهذا يبقى المخرج الأسلم ، خلافا لما ذهب إليه الكاتب ، هو ضمان استقلالية العلم منهجا وموضوعا عن الدين ، مما سيساعد على تجدد القراءات للنصوص الدينية وتطور أفهام الناس لها ، من جهة ، ومن أخرى يزيل العراقيل في وجه البحث العلمي . حينها يكون الفقهاء مضطرين للانفتاح على نتائج العلوم وحقائقها .


إذن من نافلة القول التذكير بأن كتاب " ما هو السبيل إلى الله ؟" قراءة جديدة للمتن القرآني تتخذ لها من ألفاظه منطلقا لبناء معاني أشمل لاستيعاب حركة التطور التي يعرفها التاريخ والمجتمع والعلم . لتظل غاية المؤلف تحرير الدين من احتكار الفقهاء ، وتحرير الخلف من سلطة السلف .على اعتبار أن سبيل الله لا يمر عبر أفهام تحنطت وعقول تكلست بفعل تجمدها عند لحظة زمنية غابرة ، ولم تعد تقوى على مجاراة فعل التطور . لهذا ، يقرر الكاتب ( فسبيل اللَّه لا يدرك من دون علم في دليل الكلمة التي تبين الحقَّ في التكوين. ولهذا يبدأ كتابنا بدليل كلمة مكّة وكلمة المدينة ).إن هاتين الكلمتين اتخذهما المؤلف مفاتيح لمقاربته الجديدة للنص الديني ، إذ نقرأ له ( إنَّ كلمة دين (كما رأينا في كتابنا "أنبآء القرءان") تستمدُّ دليلها من دليل الفعل "دَيَنَ" الذي يشترط وجود ديَّان ومدين. وقلنا فيه أنَّ الدِّين هوۤ أشراط الديَّان على المَدين. وهى التي كشف العلم الناظر عنها وسمَّـٰٰها substantive law بلسانه الباحث. ونرى فىۤ أشراط العيش المديني في دولة المدينة ما هو مثل اجتماعي عليها يظهره ميثاق العيش في المدينة. وهو ما يعرف اليوم باسم دستور. وهو الذي يبين أنَّ أشراط العيش المديني يقوم على الميثاق بتطوع وخيرة الناس ويفتح أمامهم سبيل اللَّه. فاسم ٱلمدينة من أصل ٱلفعل دَيَنَ ومن فروع ٱلاسم هو ٱلدِّين. وٱسم ٱلمدينة لا يُطلق على مكانٍ لَّا يعيش ٱلناس فيه أحرارًا وفق ميثاق تُعدَّد أشراط ٱلدَّين فيه على ٱلجميع). إن تركيز الكاتب على الإمساك بدلالات الألفاظ القرآنية في حركيتها وتطورها إنما مرده إلى المماثلة بينه وبين النظر في أسرار الكون . يقول الكاتب ( ولقد ظهر لىۤ أنَّ تطور إدراك وفهم ٱلدليل للكلمات هو عمل يماثل عمل ٱلنظر في كيف بدأ ٱلخلق. بل هو عمل أساس. لأنه يبني ٱلأسس ٱلتي تجعل بيان ٱللَّه وسيلة تصديق لعمل جميع ٱلناظرين ). ولبيان أهمية الدلالة العلمية والتاريخية لألفاظ القرآن في رسم السبيل إلى الله ، وضع الكاتب مقارنة بين معنى " المدينة" ومعنى "مكة" . إذ نقرأ له ( وفى كتابي هذا جآء فقهي لٱسم مكَّة ووجدت أنَّ دليله من دليل ٱلفعل مكَّ ٱلذي يبيِّن قوَّة فراغٍ شديد ٱلسَّحب. ورأيت أنَّ هذه ٱلقوَّة هي من ٱلقوى ٱلأساس في ٱلتكوين ٱلفيزيآئى vacuum energy.


وبسبب إهمال ٱلعلم بٱلدليل وتطور ٱلإدراك له فإنَّ فعل مَكَّ وٱسم مكَّة ٱلعربيين غير معروفين في علم ٱلفيزيآء. ولا يستعملان في كلماته ٱلتي تدل على هذه ٱلقوَّة. ولا تستعملهما ٱللغة ٱلفصحى في ترجماتها بسبب إهمالها لمسألة ٱلتطور في إدراك ٱلدليل. بل بسبب ٱمتناع أصحابها عن قبول مسألة تطور ٱلإدراك لدليل ٱلكلمة عن ٱلإدراك ٱلموروث. كما نرىۤ أنَّ دليل ٱسم مكَّة لا يقصر على ٱلفيزيآء فى ٱلتكوين. بل يمتد إلى عيش ٱلناس في مجتمعات. فٱلذين يعيشون في مكَّة يعيشون في مكان تَسيد فيه قوّة ساحبة لِّإرادة ٱلناس وأموالهم ومسئولية كلّ مِّنهم. وسبيل ٱللَّه مغلق في وجه أكثرهم) . من هنا يضع الكاتب المقارنة التالية واقع "المدينة" وواقع "مكة" التاريخي والاجتماعي كالتالي (ونجد فى معاجم ٱللغة ٱسم مكوس (من فروع ٱسم مكَّة) وهو ٱسم لأفعال سحب ٱلأموال من جيوب ٱلناس (ٱلضرآئب). وبٱلمكوس يُكره ٱلناس على دفع ٱلمال للسلطة ٱلمكية من دون تطوع. فٱلمجتمع ٱلمكّىّ مجتمع طاغوت يقوم علىۤ إكراه ٱلناس فى دفع ٱلمكوس (ٱلضرآئب). وهٰذا يجعل ٱلناس يخاتلون فى حساباتهم ليتهربوا مما يُكرهون عليه.
أمَّا مجتمع ٱلمدينة فيستمد ٱسمه من ٱسم ٱلدِّين. وتقوم ٱلسلطة فيه على ٱلميثاق ٱلذى يبيِّن أنَّ مال خزينته يأتى من ٱلصَّدقات ٱلتى يدفعها ٱلناس تصديقًا لِّإيمانهم بعيشهم وٱستمراره من دون مكٍّ. وهم يدفعون تطوعًا مِّن دون إكراه. وهو ما نجده فى ٱلأمر ٱلعربى:
"خُذ من þأموالهم صَدَقَةً تُّطهِّرُهُم وتزكِّيهِم بها وصلِّ عليهم إنَّ صلوٰتَكَ سكن " 103 ٱلتوبة.) . إن الكاتب ، في معالجته لدلالة لفظ "† عليم†لَّهم وٱللَّهُ سميع مكة" يقرر واقعا لم يستطع فقهاؤنا التحرر منه ، لأن ( ما سُطِّر فى ٱلمعاجم من إدراك لِّدليل ٱلكلمة لا يمثل إلا طورًا مِّن أطوار إدراك ٱلإنسان لدليل ٱلكلمة في ٱلمحسوس. وما نجده في ٱلمعجم ٱلوسيط من قول في دليل كلمة مكَّة نرى فيه قول من لَّا يدرىۤ إلا بما هو ظاهر لِّبصر عينه:
"مكَّ ٱلعظم مكًّا: مصَّ جميع ما فيه. وٱمتكَّ ٱلفصيل ما فى ضرع أمّه: ٱستقصاه بٱلمصِّ".
فصاحب ٱلمعجم لم يرَ أنَّ ٱلفعل مكَّ يتخطى هٰذا ٱلدليل ٱلمباشر. ولم يكن يدرىۤ أنَّه من أفعال ٱلفيزيآء. وسوآء أكان فعل ٱلمكّ في ٱلضَّرع أم في ٱلسَّمآء فٱلكلمة تدلنا على قوَّة سحب شديدة لِّما في ٱلضَّرع ولما في ٱلسَّمآء ).وبهذا يظهر الفرق بين مدلول "مكة" ومدلول " مدينة" ( فٱسم مدينة يدلنا على مكان عيشٍ لِّلنَّاس وفق أشراط ميثاق بينهم (دستور). لاۤ إكراه فيه عليهم لا فىۤ أفكارهم ولا فىۤ أموالهم. وسبيل ٱللَّه فيه مفتوح للجميع. من شآء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شآء منهم أن يكفر فليكفر فلاۤ إكراه فى ٱلدِّين ).واضح إذن أن الاكتفاء بالدلالة المعجمية التي حصرتها المعاجم القديمة ، والتقوقع داخلها ، لا يقود حتما إلى استيعاب حركية الفكر والواقع وتطور العلم والمجتمع . بل يصير عقبة في وجه الفهم السليم لكلام الله ، ومن ثم عدّه الكاتب " تحريف" الكلم عن مواضعه ( لقد طغت أفعال ٱلظَّنِّ وٱلتخريص على صناعة دليل ٱلكلام. وفتحت ٱلأبواب أمام أفعال لم تتوقف عند تجميد ٱلدليل عند إدراك شاعر أو مفكر ميِّت. بل ٱمتدت تلك ٱلأفعال إلى تحريف ٱلكلم عن مواضعه. ٱلأمر ٱلذى يحرف ويصعِّب ٱلإدراك ويعطِّل ٱلنَّفع من مخزون ٱلكلام. ويمنع ٱلفهم وٱلعلم في ٱلحقّ.


وبتحريف ٱلكلم عن مواضعه يصير بيان ٱللَّه في صفٍّ وبيان ٱلعلم في صفٍّ أخر. وبذلك يستطيع ٱلكافرون كَفرَ سبيل ٱللَّه على ٱلكثير من ٱلناس ). ويقدم الكاتب مثالا على هذا التحريف من خلال لفظتي " قرأ" و " تلَوَ" كالتالي ( فكلمة قرأ حرف ٱلتخريصُ وٱلظَّنُّ دليلََها عن موضعه وجعله بدليل كلمة تَلَوَ ٱلموضوعة لتدلنا على تتبع ٱلكلمات ٱلمتتالية في ٱلسَّطر ببصر ٱلعين. وٱلكلمات ٱلتي تتالى بٱلصوت وتسمعها ٱلأذن. وكذٰلك ٱلكلمات ٱلمتتالية في ٱلأشيآء ٱلغيبية سوآء أكان في ٱلفيزيآء ٱلجزئية أم في ٱلبيولوجيا ٱلجزئية. فٱلكلام أىًّ كانت هيئته يأتي متتاليًا في ٱلسَّطر. وبٱلفعل تلوَ يجرى تتبعه. ثم يأتي فعل ٱلنظر فيما يرمز إليه. وٱلعلم بما يدل عليه). في حين يستنتج الكاتب ( أنَّ ٱلفعل تلوَ لا يدلنا علىۤ أن ٱلمتابع يفهم ويعلم  ءَكان ٱلكلام بلسانه أم بلسانٍ أخر. ونرىۤ أنَّ†بٱلكلام ٱلمخطوط أو ٱلمسموع. سوآء ٱلذي يتلو ٱلكلام إذا جهد نفسه وتابع عمله ونظره فيه. وٱستعان بوسآئل تقوِّىۤ إدراكه ونظره وفكره. يوصل من بعد جهده إلى ٱستنباطِ دليلٍ لكلِّ كلمة فى ٱلسَّطر. ثمَّ يعمل من بعد ذٰلك على بنآء قولٍ مُّستنبطٍ. يبيِّن فيه بلسانه ماۤ أدركه من ذٰلك ٱلكلام. وهو بهٰذه ٱلأعمال يكون قد جعل ٱلكلام قُرءًا بيِّنًا بلسانه. وبعمله هٰذا يكون قد قرأ ٱلكلام وبيَّن دليله عند طور من أطوار ٱلعلم فيه ) . إذن لفظ " قرأ" متحرك يسعى لإدراك المعنى وإظهاره ، سواء تعلق الأمر بكلمات كتاب القرآن أو قوانين كتاب الطبيعة الذي قال عنه الكاتب بلسان غاليلو: "إن كتاب الطبيعة لا يمكن فهمه ما لم يتعلم المرء أولا كيف يفقه اللغة التي كتب بها, وينطق الحروف التي ألفت منها. فهو مكتوب بلغة الرياضيات ومكوناته هي المثلثات والدوائر وغيرها من الأشكاال الهندسية التي من دونها لا يمكن لبشر أن يفهم منها كلمة واحدة, بل إنه يظل يتخبط في متاهة مظلمة"). إن الكاتب يتعامل مع آيات القرآن وألفظه كما يتعامل الفيزيائي مع الظواهر الطبيعية ، فهو يُخضع الألفاظ للقراءة العلمية الدقيقة . أي يجعل من القرآن كما لو أنه " مكتوب بلغة الرياضيات" . ومن ثم تكون للعقل العلمي الصرف وحده صلاحية إدراك معاني القرآن وإظهارها . وها نحن أمام القراءة العلمية التي تنضاف إلى قراءات أخرى شيعية وصوفية وأيديولوجية الخ . إن هذه القراءة العلمية للقرآن جعلت الكاتب يقف عند التحريف الذي طاول الألفاظ فغير مدلولها ، ومنها كلمة "صلاة" . يقول الكاتب ( وقد وردت في ٱلقرءان كلمة يضم دليلها دليل ٱلأفعال (قدر وعلم وشهد وسمع وبصر وأحاط ورقب وحسب). وهٰذه ٱلكلمة هي "صَلَّى". فٱلَّذي يصلِّى يقدر ويعلم ويشهد ويحيط ويرقب ويحسب فلا يغفل. ولا يسهو. ولا يفتر سمعه وبصره. عن ٱلَّذى يرقبه. ولا يتجاوز حدود ٱلَّذي يصلِّى عليه ليعتدى عليه. فهو يتربص أفعاله وأعماله وأقواله من دون تدخل فيها. ويترك له ٱلخيرة فيما يفعل ويعمل ويقول.


وهو فعل يشبهه ما تفعله مايكروسوفت فى مراقبة أفعال مناهجها على جميع ٱلكومبيوترات في ٱلأرض من دون ٱلتدخل فىۤ أعمال وخصوصية ٱلعامل على ٱلمنهاج. . وكلمة "صَلوٰة" مصدرها هٰذا ٱلأصل. وهى ٱسم وسيلة ٱلفعل "صَلَّى". وأنَّ ٱلَّذي يقوم بٱلفعل "صلَّى" يكون قدير عليم شَّهيد سميع بصير رقيب حسيب. وهو لا يغفل ولا يتدخل ولا يعتدى على حدود وأفعال وأعمال ٱلذى يصلِّى عليه ). بناء على هذا المعنى يكون ( ٱلإنسان ٱلَّذي يصلّى. هو ٱلإنسان ٱلَّذي يرقب نفسه فلا يغفل عن فعل أو عمل أو قول لَّها. ولا يترك نفسه توقع في مخالفة ٱلبلاغ ٱلعربي. فيوقف على حدوده. ولا يتعدى حدود ٱللَّه. وأولها سبيله ٱلذي لاۤ إغلاق له ولاۤ إكراه فيه. ويعلم أنّ ٱللَّه يُصلِّى عليه. يشهد ويبصر ويسمع ويرقب أعماله وأفعاله وأقواله من دون تدخل فيها:
"هُوَ ٱلَّذى يُصلِّّى عليكم وملـٰۤئِكَتُهُ لِيُخرِجَكُم من ٱلظُّلُمٰتِ إلى ٱلنُّورِ وكانَ بٱلمؤمنينَ رَحيمًا"43 ٱلأحزاب.)
فعلا أن هذا المدلول ينسجم مع قوله تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) . إلا أن حصر دلالة الصلاة في الرقابة والمنع دون غيرها من المعاني ، التي من ضمنها التعبد الروحي والجسدي عبر حركات الركوع والسجود لله ، لا يستقيم مع الأمر الإلهي ( فصل لربك وانحر ) ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) ، ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) ، ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ، ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين )المائدة:6 . وتبعا لإقصار الكاتب دلالة لفظ الصلاة على الرقابة ، فإنه أعطى معنى آخر لقوله تعالى"وإذا كُنتَ فيهم فأَقمتَ لهمُ  مِّنهم مَّعَكَ وَليَأخُذُواْ أسلحَتَهُم فإذا سجدواْþٱلصَّلوٰة فَلتَقُم طآئفة  أُخرَىٰ لَم يُصَلُّواْ†فَليَكُونُواْ مِن ورآئِكم وَلتَأتِ طَآئِفَة فَليُصَلُّواْ مَعَكَ وَليَأخُذُواْ حِذرَهُم وَأسلحَتَهُم وَدَّ ٱلَّذين كّفرواْ لو تغفلون عن أسلحتكم وأّمتعتكم فيميلونَ عليكم مَّيلةً وٰحدةً ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى مِّن مَّطرٍ أَو كنتم مَّرضىٰۤ أن تضعواْ أسلحتَكم وَخُذُواْ حِذرَكُم إنَّ ٱللَّهَ أعَدَّ للكٰفرينَ عَذَبًا مَّهينًا" 102 ٱلنِّسآء.
إذ يقول الكاتب في تأويل هذه الآية ( وما نستنبطه من هٰذا ٱلبلاغ يتعلق بمسألة ٱلرَّصد للعدوِّ في أماكن ٱلقتال. فمراقبة ٱلعدوِّ لا تعتمد على ٱلفرد أو بعض ٱلأفراد في مثل هٰذا ٱلحال. بل تتطلب عددًا يكفى للدخول في ٱلقتال. من دون ٱنتظار ٱكتمال نهوض ٱلجيش جميعه. كماۤ أنَّ ٱلَّذى يقيم ٱلرَّصدَ هو ٱلأعلى رتبة في ٱلجيش. وهو يأمر نصف ٱلجيش ليضع أسلحته ويرتاح. ونصفه ٱلأخر ليبقى مستنفرا بكامل سلاحه. وليرصد حركة ٱلعدوِّ ويظهر له استعداده للقتال. وله أن يأمر ٱلذين يرصدون بوضع ٱلأسلحة جانبًا مَّع بقآء ٱلتيقظ فىۤ أعمال ٱلرَّصد لمدَّة يعود تقديرها له. وبعد ٱنقضآء هٰذه ٱلمدَّة يأمر ٱلذين أخذوا قسطًا مِّنَ ٱلرَّاحة ليقوموا معه بكامل أسلحتهم إلى ٱلرَّصد. ويجلس ٱلذين أقاموا ٱلرَّصد قبلهم.
ونفهم من هٰذا ٱلبلاغ أنَّ ٱلذي يأمر ٱلجيش يبقى على رأس أعمال ٱلرَّصد في ٱلمدَّتين.
هٰذا ما تدل عليه كلمة ٱلصَّلوٰة في هٰذا ٱلبلاغ ولا محل للقول بـ ٱلنُّسك هنا. وفى ٱلأمر ٱلعربى:
"ولا تُصَلِّ علىٰۤ أحدٍ مِّنهم مَّات أبدًا"84 ٱلتوبة.)


إننا فعلا أمام قراءة مغايرة لما سبقها . قراءة تعتمد المقاربة العلمية والتقنية في رصد المعاني والانفتاح على مجالات معرفية لم تعهدها القراءات السالفة . مما اعتبرها ـ القراءات السالفة ـ الكاتب تحريفا للكلمة عن موضعها (وما نرـٰه فى شروحات وتفسيرات ٱلسَّلف لكلمة صلَّى هو حرف ٱلكلمة عن موضعها وجعلها بدليل كلمة نَسَكَ. ومثل هٰذا ٱلفعل أضاع ٱلصَّلوٰة) . قد أجدني أختلف مع الكاتب في اعتباره تفسير الصلاة بالنسك " تحريفا" للكلمة ، بينما الأنسب أن تكون للفظة "الصلاة" دلالات متعددة تشمل النسك والدعاء والرقابة وغيرها .
بعد إيراد الكاتب لجملة من تحريف الكلم عن مواضعه ، انتهى إلى تعريف السبيل إلى الله وتحديده لغويا ودينيا . يقول الكاتب ( ٱسم سَّبيل هو للممرّ ٱلسَّالك ٱلذى لا عوق فيه ولا عوج ولا ميل ولا حفر ولا شوك ولا حجب للبصر. فهو  عربىّ مستقيم. وهو صراط ٱلرَّبِّ ٱلذى يطلب ٱلمؤمنون ٱلهداية إليه:†ممرّ
"ربنا ٱهدِنا ٱلصِّرٰط ٱلمستقيم" 6 ٱلفاتحة.
"ٱهدِنا ٱلصِّرٰط ٱلمستقيم" مثل ٱلقول "أَرِنِى كيف تُحِى ٱلموتى". فيه طلب لقدرة علمية ومعرفية فى ٱلمسألة.
وكلمة "صرٰط" دليلها من دليل ٱلفعل "صَرَطَ" ٱلَّذى يضمُّ دليل كلٍّ مِّنَ ٱلأفعال (مرّ وبان وأَمِنَ). فهو ممرّ بيِّن أَمِن.
أمَّا دليل كلمة "مستقيم" فهو من دليل ٱلفعل "قام" ٱلَّذى يدل على ٱلأفعال (عَدَلَ وظَهَرَ وقَرَّ وبَقِىَ وحَدَّ ورَفَعَ وبان وقَدَرَ وحَفَظَ وسَيَدَ وعَمَدَ وعانَ). وكل هذه ٱلأفعال تشترك فى جعل ٱلصراط مستقيمًا لَّا عوج ولا ميل ولا حجب لِّلبصر فيه. وهو منهاج ومسلك قيِّم:
"قُل إنَّى هَدـٰنى رَبِّى إلى صِرٰطٍ مُّستقيمٍ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبرٰهيم حنيفًا وما كان من ٱلمشركين" 161 ٱلأنعام.
"ذلك ٱلدِّينُ ٱلقَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ ٱلنَّاسِ لا يعلمون" 30 ٱلروم.
"وذلك دِينُ ٱلقيِّمةِ" 5ٱلبينة.)

إذن كيف تحقق الهداية ؟ لقد تبين ، من خلال ما تقدم من فقرات الكتاب أن المؤلف يركز أساسا على البُعد المعرفي الذي ينقل الإنسان من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية . إن هذا البعد المعرفي هو الذي يحقق للإنسان حريته التي يرتقي بها أطوارا . يقول الكاتب ( فٱلناس يتدافعون ويتسابقون على طريق ٱلاصطفآء. ولولا دفع ٱللّه لهم هذا لما تخطوا عتبة ٱلوحش ٱلبهيم مهما طال بهم ٱلعيش. ولقد وضع ٱللّه لهذا ٱلتدافع أشراطًا. ومن أدركها تقيد بها. ومن لا يدركها تبقى عليه مبهمة.وفى رأس هذه ٱلأشراط ٱلأمر "لاۤ إكراه فى ٱلدين". فأول أشراط ٱلقدرة على ٱلتنافس عند ٱلفرد هو حريته ) . من هنا يقرر الكاتب أن ( ٱلهداية إلى صراط ٱلرَّب هى ٱكتساب قدرة فى ٱلعلم وٱلمعرفة بسنَّة ٱللَّه فى تكوين ٱلمفاهيم لدى ٱلإنسان. وبهذا ٱلاكتساب يوصل إلى ٱلعلم أنَّ صراط ٱلرَّب هو سبيل ٱللَّه. وبعلمه هذا ينشأ موقفه من ٱلحياة وٱلتكوين ). طبعا الهداية تتنافى مع الإكراه الذي يلغي الحرية والإرادة والمسؤولية . إن ( ٱلهداية لا تحدث من دون متابعة للعلوم ٱلتى تبين سنّة ٱلتكوين وسنَّة ٱلتطور. وهى ٱلتى تجعل مفاهيم ٱلفرد قادرة على تأسيس موقف لَّه فى ٱلحياة بدراية وعلم ومسئولية. وهذا يبينه ٱلأمر ٱلعربى:
"قل سيرواْ فى ٱلأرض فٱنظرواْ كيف بدأ ٱلخلقَ"20 ٱلعنكبوت.
وفى طاعة هذا ٱلأمر يتكوَّن ٱلعلم ويدل علىۤ أنّ ٱلسلوك على ٱلسبيل قآئم.
فسبيل ٱللَّه هو ٱلممرّ إلى ٱلعلم وٱلمعرفة بكيف بدأ ٱلخلق. وهو ٱلسبيل ٱلذى يوصل ٱلسَّآئر عليه إلى معرفة ٱللَّه وٱلعلم بصراط ٱلرَّب ٱلمستقيم) . إن هذه المعرفة لا تتحقق إلا بالعلوم الدقيقة ، مما يجعل الفقيه في حاجة إلى أهل الذكر الحقيقيين الذين هم العلماء القادرون على قراءة كتاب الكون وفهم رموزه .وهنا لا بد من التنويه بقضية أساسية جعلها الكاتب محور كتابه ، وهي التحرر من سلطة " المحرفين" الذين يعوقون سبيل الله بممارسة الإكراه والتحريف للكلم . فالإيمان يشترط الحرية ويصونها . من هنا نفهم تركيز الكاتب على مفهوم " المدينة" الذي يستدعي التحرر من سلطة " مكة" التي كانت تكره الآخرين على الخضوع لمعتقدها الديني وتعتبر الخارج عنه " صابئا" . يقول الكاتب ( ومَن يستطيع من ٱلصَّابئين ٱلهجرة عن ٱلديار يهاجر ويسعى للعيش فى مجتمع لا مكّ فيه. وهو بماۤ أصابه من مَّكٍّ وإكراه يهتدى إلىۤ أنَّ سبيل ٱللَّه يجب أن يبقى سالكًا لِّجميع ٱلناس من دون عوق فيه. فمن شآء منهم أن يهتدى فليهتدى. ومَن شآء منهم أن يكفر فليكفر طاعة لِّلأمر:
"وقُل ٱلحقُّ مِن رَّبِّكم فَمَن شآء فَليُؤمِن ومَن شآءَ فَليكفُر" 29 ٱلكهف. لقد هاجر صابئوا مكَّة إلى يثرب. وفى جوٍّ مِّنَ ٱلتفاهم وٱلثقة أقاموا مع أهل يثرب دولة لها ميثاق يمنع ٱلحجب وٱلعوق فى سبيل ٱللَّه. وهذا ٱلميثاق حمل ٱسم ٱلصحيفة ليكون منشورًا ولا يغيب منه أمر علىۤ أحد مِّن أهل ٱلدولة ٱلجديدة ٱلتى حملت ٱسم ٱلمدينة بسبب هدايتها بميثاق ٱلدِّين "لاۤ إكراه فى ٱلدِّين" ) . إذن يقرر الكاتب أن في ( رأس هذه ٱلأشراط ٱلأمر "لاۤ إكراه فى ٱلدين". فأول أشراط ٱلقدرة على ٱلتنافس عند ٱلفرد هو حريته. وهذا لا يحدث ما لم يُصلِّ عليه ٱلأخرون. فلا يتدخلون فى شأنه. ولا يكرهونه على موقف ولا على فعل أو عمل. ولا يغلقون سبيل ٱللَّه فى وجهه) . إنه هدم لسلطة الكهنوت التي يمارسها الفقهاء ورجال الدين باسم الدين . وهي قضية تزداد خطورتها في عالمنا الإسلامي ، خاصة مع انتشار ما يعرف ب"الإسلام السياسي" على يد الجماعات الإسلامية التي لا ترى بديلا عن استعمال العنف لإكراه الناس على اعتناق فهم خاص للدين ، واتخاذ الدعاة والفقهاء وكلاء عن الله في الأرض . وبذلك يخلص الكاتب إلى التالي (. فقد ظهر لي من أول عمل أنّ سبيل ٱللّه لا يُحقَّق في ٱلحياة ٱلإنسانية ما لم يكن كل فرد يملك خيرته فيما يرى ويقول ويعمل من دون عدوان على غيره من ٱلأفراد ) . ومتى ساد الإكراه فإن الإنسان يفقد إنسانيته لأنه يُمنع من الارتقاء والاصطفاء عبر اكتساب المعرفة . ( وفى بلاد يمنع أهلُها ٱلفردَ من ٱكتساب ٱلعلم وٱلمعرفة يقلُّ فيها عدد ٱلَّذين يتفكرون ويفقهون ويعلمون. ويبرز فيها كهنة جاهلون ينشرون ظنونهم وجهلهم بٱسم ٱلعلم وٱلعلمآء ) . وهذا الانحدار المعرفي يترتب عنه انحدر الإنسان إلى مستوى البهيم ، كما يقول الكاتب( بٱلعلم وبٱلمعرفة يتحول ٱلبشر ٱلبهيم إلىۤ إنسان. ومن دونهما يعود إلىۤ أصله ٱلوحش فلا يدرى ما هو سبيل ٱللَّه ) . طبعا يبدو واضحا اعتماد الكاتب لنظرية التطور التي صاغها داروين ، كما أن الكاتب أعلن تصديقه لعلميتها وتوافقها مع القرآن (وما رأيته في ٱلبلاغ ٱلعربى يبين لي تصديقًا مُّتبادلا بين مفهوم ٱلأصل ٱلمشترك وبين بلاغ ٱللَّه:
"هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَٰحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إلَيها فلمَّا تَغَشَّـٰها حَمَلَتۡ حَملاً  فَلَمَّآ أَثقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُما لَئِنۡ~خَفيفًا فَمَرَّتۡ بِهِ ءَاتيتنا صَـٰلِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكرينَ "189 ٱلأعراف.
فٱلنفس ٱلواحدة هى ٱلأصل ٱلمشترك للمخاطَب وهو ٱلإنسان. وهذا يصدِّق نظرية "دارون" عن ٱلأصل ٱلمشترك. كماۤ أنَّ نظرية "دارون" تصدِّق بلاغ ٱللَّه ٱلعربى ). وبقدر ما انفتح الكاتب على النظريات العلمية الحديثة وتوظيفها في استيعاب مضامين النصوص القرآنية على نحو يخالف ما درج عليه الفقهاء ، بقدر ما أعطى لمفهوم الإيمان دلالة أرحب تسع كل أهل الديانات السماوية . يقول الكاتب( لقد بيَّنَ ٱللَّه لرسوله محمد ماذا يتبع:
"ثمَّ أَوحينآ إليكَ أَنِ ٱتَّبِع ملَّةَ إبرٰهيمَ حنيفًا وما كان مِنَ ٱلمُشرِكينَ" 123 ٱلنَّحل.
وأَمَرَه لإعلان ذلك:
"قُل إنِّى هَدَـٰنى رَبِّى إلى صِرٰطٍ مُّستقيمٍ دينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إبرٰهيمَ حنيفًا وما كان من ٱلمشركين" 161 ٱلأنعام.
فهو ليس صاحب ملَّة بل يتبع صاحب ٱلملَّة إبرٰهيم ٱلَّذى حنف عن دين قومه بفعل ٱلنظر فىۤ ءايات ٱللَّه.

"وما أرسَلنَا من قَبلكَ إلاَّ رِجالاً نوحِىۤ إليهم فَسئَلُوۤاْ أهلَ ٱلذِّكرِ إن كُنتُم لا تَعلمونَ" 43ٱلنحل .
فٱلَّذين يذكرون هم ٱلَّذين يعلمون. وهؤلآء هم أهل ٱلذِّكر) . إن هذا الموقف يتكامل مع نظيره الذي يعتبر مفهوم " الإسلام" يشمل أهل الديانات السماوية ـ اليهود والمسيحيون والمسلمون ـ نسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام الذي هو أبو الأنبياء ومن سماهم " المسلمين" كما تشير الآية القرآنية الكريمة ( ملة إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل )المؤمنون : 78 .ومن شأن هذا الفهم /الموقف أن يقرب بين أهل هذه الديانات ويشيع بينهم القيم المشتركة وبين أتباعها التعارف والتسامح . إننا في العالم الإسلامي بحاجة إلى مثل هذه المقاربات والتفاسير التي تؤسس لقاعدة مشتركة بين جميع المواطنين على اختلاف دياناتهم ، هي قاعدة الانتماء إلى الدين الشامل والوطن الواحد . بحيث لا يبقى من مجال للدعوة إلى تطبيق حكم الردة أو الجزية على المواطنين الذين اختاروا اليهودية أو النصرانية أو نشأوا عليهما .