عشاق الله

رمز الصليب

  رمز الصليب (رؤية صوفية)

حضرة عنايت خان*

ترجمة إبراهيم إستنبولي

ييعتقد الكثيرون أن هذا الرمز ظهر للوجود لأول مرة في زمن السيد المسيح، وأنه، بدون شك، انتشر أكثر بكثير بعد مجيء المسيح إلى العالم. لكن الحقيقة هي، أن هذا الرمز – قديم جداً، وقد استخدمه الروحانيون في أوقات مختلفة وفي كل العصور. وللصليب معانٍ صوفية كثيرة.


الصليب مؤلف من خط عمودي وآخر أفقي . كل ما هو كائن إنما ينشأ من هذين الخطين ويمتد أفقياً وعمودياً، وهذا ما نشاهده في الوريقة التي تنمو في الطول والعرض. لذلك إن الصليب في معناه الأول هو تعبير عن الظهور، هو أيضاً يعني السفر إلى المثال الروحي، وليس هناك ما يعكس هذا السفر أفضل من الصليب. (...)


هناك سر عظيم آخر للصليب، نادراً ما يكون مفهوماً. في كل مكان خارجنا يوجد فضاء – هكذا فضاء، يمكنه أن يسع، أن يحتوي في ذاته. لكن وفي داخلنا يوجد فضاء يمتد في اتجاه آخر.
إلى جانب تلك المعاني الرمزية، إن الصليب – هو علامة طبيعية، كان الإنسان قد أنشأها منذ القدم، إنطلاقاً إما من قدراته الفنية أو من العقلية. هذه هي طبيعة النور – ينشر أشعته، خاصة إذا كان هذا النور مطلق الكمال. لو نظرنا إلى الشمس – خصوصاً وهي تغيب – فسوف نرى خيوطاً تظهر في السماء وعلى الأرض: في البداية هو مجرد خط مستقيم واحد، لكن إذا دققنا النظر، فسوف نجد كيف أنه من هذا الخط الأول العمودي ينشأ خط أفقي. إذا راقبنا النور بدقة، فسوف نعي، أن هذه هي خاصية النور – إنتاج خطين، أفقي وعمودي؛ وطالما هذه هي طبيعة النور الخارجي – إنتاج الصليب، فهذه بالتأكيد هي أيضاً خاصية النور الداخلي. النور الخارجي هو عبارة عن انعكاس للنور الداخلي، وخاصية النور الداخلي هذه بالتحديد تتظاهر في النور الخارجي. من كل ذلك يمكن استخلاص، أن النور الداخلي لا يتظاهر في النور الخارجي وحسب، بل وأن النور الخارجي هو عبارة عن تجسيد للنور الداخلي.


كما يمكننا أن نلاحظ، ونحن نراقب الأشكال الطبيعية – شكل الشجرة، النبات، الزهرة، أشكال الحيوانات والطيور و أخيراً، الشكل الأكثر تطوراً والأحسن تنظيماً - الإنسان، أن كلها تعكس رمز الصليب. نوعاً من الصليب يمكن أن نراه إذا دققنا في بناء الرأس البشري. صليب آخر يوجد في الهيئة البشرية ككل. بالتحديد، إن الخط الأفقي والخط العمودي هما اللذان يفترضان رمز الصليب دوماً، وليس هناك من شكل لا يحتوي ولو ضمناً خطوطاً أفقية وعمودية؛ وهذان الجانبان أو الاتجاهان المختلفان بالضبط هما اللذان يشكلان الصليب. هذا يسمح لنا افتراض أن لغز الشكل يخفي وراءه الصليب.


و الآن سننتقل إلى واحد من الألغاز الأولى التي ذكرناها أعلاه، بالتحديد، حول كيف أن رحلة الإنسان على درب الكمال الروحي يمكن أن يرمز لها بالصليب: أولاً، الإيغو البشرية، " الأنا " البشرية تقف كالعدو بالنسبة لـه وتعيق حركته. بعض المشاعر كالكبرياء، الغرور، الأنانية، الغيرة، الحسد والاحتقار – كلها مشاعر تؤذي الآخرين وتهدم حياة صاحبها نفسه لتملأها بتلك المعاناة، التي تنشأ من رحم ذلك الإحساس الأناني الشخصي: أيغوEgo الإنسان. كلما كان الفرد أنانياً، كلما كان أكثر رضى عن نفسه، كلما كانت حياته أكثر تعاسة بين الناس وبذلك هو يجعل تعيسة حياة الآخرين. هذه الايغو، أو النفس، عبارة عن تطور طبيعي للحياة البشرية أو لقلب الإنسان: كلما عرف الإنسان الدنيا أكثر، كلما أصبح أكثر أنانية؛ كلما هو فهم واكتسب خبرة عن الحياة، كلما صار جشعه أكبر.


ليس صحيحاً، أن الإنسان يجلب معه أفعاله عند ولادته. هو يأتي إلى هذا العالم بريئاً، مع ابتسامة الرضيع، صديقاً لكل من يكون بقربه، مستعداً لإلقاء نظرة محبة على كل شخص، بغض النظر عما إذا كان غنياً أو فقيراً، صديقاً أو عدواً، يسحره الجمال في كل أشكاله. بالضبط، هذه الصفات في الطفل هي التي تجذب إليه كل قلب. هذا يدلّ على أن تلك النفس، التي تأتي مع هكذا قلب نقي، مع هكذا تعابير بريئة، مع حركات محض جميلة، هي التي تُطِّور في طبعها، مع تقدم الإنسان في هذا العالم، كل ما هو قاتل وضار بالنسبة لها، أي النفس، وبالنسبة للمحيطين بها. حصراً في هذه الدنيا، خلال عملية النضج، الإنسان يكوِّن " النفس " – نفسه. لكن في أعماق القلب تبقى تلك الفضيلة، التي هي فضيلة ربانية، ذلك الصلاح، الذي يرثه الإنسان عن الأب السماوي.


الميل نحو الفرح، إلى الهدوء والسكينة والسلم يستمر لديه، وهذا يشير إلى أن للإنسان وجهان أو طبيعتان: طبيعة واحدة مخفية في أعماق قلبه، وطبيعة أخرى تنشأ وتتطور بعد قدومه إلى هذا العالم. بعد ذلك، ينشأ صراع، كفاح بين هاتين الطبيعتين، حين تشعر الطبيعة الجوانية العميقة بالحنين إلى شيء ما. هي تتوقع الخير والطيبة من الآخرين، عليها أن تعيش بسلام وهدوء في هذه الحياة، وعندما لا تتمكن من الحصول على كل هذا، ينشأ الانحلال الداخلي.


الإنسان يصنع خلل الهارمونيا خاصته في نفسه ومن ثم يعامل الآخرين بنفس الطريقة؛ لذلك هو يصبح غير راض لا عن حياته الخاصة، ولا عن المحيطين به، لأنه يشعر في قرارة نفسه بعدم الرضى عنهم، مع أن السبب يكمن فيه هو ذاته. ما يعطيه الإنسان هو يتلقاه دون أن يدرك ذلك. إنه دائماً يعتقد، أن على كل شخص أن يعطيه ما يشتهي هو في أعماق كيانه: الحب، الطيبة، العدل، الانسجام والسلم، لكن حين الأمر يتعلق بالعطاء، فهو لا يعطي، لأنه يعيش حياة أخرى، هو أبدعها بنفسه. هذه يبين أن في كل شخص ينشأ جوهر، وهذا الجوهر هو النفس، عملياً هذا هو ذات المفهوم عن الشيطان، الذي نصادفه في جميع الكتب السماوية وفي العادات الدينية.


لقد قسم البشر العالم في أكثر الأحيان بين عنصرين روحانيين: القسم الأصغر من البشرية للإله، والقسم الأعظم من البشرية – للشيطان، مفترضين أن مملكة روح الشيطان أكبر وأوسع من مملكة الإله. لكن إذا أدركنا معنى كلمة " شيطان "، سيصبح واضحاً، أنه عبارة عن روح الضلال، الذي تجمّع وتراكم في الإنسان منذ لحظة قدومه إلى الأرض ؛ إنه النفس ، التي تتصرف كما الشيطان، فتحرفه عن دربه وتغلق قلبه عن نور الحقيقة والحق. بمجرد أن يحصل انقلاب في حياة الإنسان، بمجرد يبدأ هو التطلع أعمق إلى الحياة، بعد أن يتعرف إلى الخير، ليس متلقيا لـه وحسب، بل ومانحاً لـه، بمجرد أن يعلم أن يفرح ليس فقط لمشاعر المحيطين تجاهه، بل ولمشاعره تجاههم، عندئذ يحلّ الوقت كي يتمكن من رؤية روح الشيطان منفصلاً ومبتعداً عن كيانه الحقيقي البدئي، يقف في طريقه، دوماً في صراع مع قوته الخلْقية، مع حريته وميوله؛ وعندها يرى أن بإمكانه أحياناً أن يفعل ما يرغب به، وأحياناً يمتلكه الروح ذاك ولا يسمح لـه بفعل ما يشاء. في بعض الأحيان هو يكتشف نفسه ضعيفاً في هذا الصراع ، وأحيانا يكون قوياً. في المحصلة يستنتج ، أنه حين يجد نفسه قوياً في هذه المعركة، يكون شاكراً وراضياً، وحين يجد نفسه ضعيفاً في الصراع، يتوب ويخجل ويتمنى تغيير ذاته.


بالضبط في هذه المرحلة تبدأ حقبة جديدة من حياة الإنسان، بدءاً من تلك اللحظة ينشأ الصراع بينه وبين الروح، الذي يمثّل الإيغوEgo عنده . إنه صراع بالتحديد، هو نوعاً ما عائق في طريق طبعه الفطري، ميله الفطري نحو فعل الخير وتوقه إلى العدل؛ وهو يصطدم دوماً بهذه الروح، لأن ذلك كان قد خُلِق في قلبه الخاص وصار جزءاً من كيانه. أنه كيان متكامل ومادي، وهو واقعي إلى الدرجة، التي يشعر معها الإنسان بذاته، أحياناً ربما أكثر واقعية، وبشيء ما في داخله، في أعماق كيانه، ما هو مخفي بدقة وراء هذا الكيان. وهذا الصراع الدائم ما بين " أناه " الحقيقية، الأولية وبين هذه " الأنا "، التي تعيق التطور الروحي للإنسان – هذا الصراع يصور على شكل صليب.


هذا الصليب يحمله الإنسان على طريق سيره نحو الكمال. المشاعر الملتهبة والخشنة، محبة الراحة والشعور بالرضى من الغضب والانفعال – هذا ما يجب أن يتغلب عليه بالدرجة الأولى، وعندما ينتصر على ذلك، فإن ما سيصطدم به لاحقاً سوف يبدو عدواً لـه في عقله، غير مُدرك بدرجة أكبر: الحساسية تجاه ما يقوله الآخرون حوله، تجاه رأي الآخرين عنه. هو يحاول معرفة رأي كل شخص عنه، أو – ماذا يقول كل واحد ضده، أو – فيما إذا كانت سمعته أو اعتباره قد تعرضتا للإجحاف والنقصان. هنا من جديد ذات العدو – النَفْس، يتخذ موقفاً آخر، وتنشأ عملية صلب على الصليب، طالما يدور صراع مع هذه النفس، إلى حين ينضج الفهم بأنه لا مكان لأي " أنا " أثناء تأمل الله.


و هذا هو الصلب الحقيقي بعينه؛ لكن مع هذا يضاف آخر، يساعده دائماً ويجب على كل نفس أن تختبره، لأن كمال وتحرر كل نفس يتوقف عليه. إنه صلب ذلك الجزء من الكائن البشري، الذي أنشأه الإنسان في ذاته والذي لا يشكل " أناه " الحقيقية، بالرغم من أنه خلال عملية التطور دائماً يبدو كما لو أن الإنسان يصلب نفسه.


يكمن لغز الصلب في الإنتفاء – في إنتفاء ليس " أنا " الحقيقية، بل الكاذبة، التصور الكاذب عن الذات، الذي طالما علّل الإنسان نفسه به في قلبه والذي سمح له أن يعذِّبه على مدى حياته كلها. لا نشاهد نحن مثل ذلك بين أصدقائنا ومعارفنا؟ أولئك، الذين يعجبوننا، وأولئك، الذين نحبهم وبمن نحن معجبون، هم دوماً يمتلكون صفة واحدة وحيدة يمكن أن تدهشنا: الفردية. القضية لا تكمن فقط في أنه يجذبنا نكران الذات لديهم، بل في أن ما ينفّرنا في حياة المحيطين بنا – ليس سوى النفس المنفوخة المتضخمة أو، بكلمة أخرى، كثافة وثقالة تلك الروح التي صنعناها بأنفسنا، أو الايغو Ego.


قلة هم مَن فهموا موعظة المسيح، حين قال: " هنيئاً للمساكين في الروح " (لوقا 6: 20 - 23. المترجم). المقصود هنا ليس الفقراء بالروح الإلهية، بل الفقراء بتلك الروح التي صنعناها بأنفسنا، وأولئك، الذين هم فقراء بهذه الروح " المحلية " – هم أغنياء بالروح الربانية. لذلك يمكن اعتبار النفس روح الجسد، لكن كلمة أيغو Ego مناسبة أكثر.


دوماً يوجد اتجاهان: واحد – نحو الإخلاص والصدق، آخر – نحو النفاق والكذب. هما يعملان معاً بصورة دائمة. الكذب والصدق موجودين دائماً جنباً إلى جنب في الحياة وفي الطبيعة. هناك، حيث يوجد ذهب حقيقي، يوجد ذهب مغشوش أيضاً، حيث يوجد الماس طبيعي، يوجد الماس مزيف، إلى جانب الناس المخلصون، يوجد آخرون منافقون: وهكذا في كل جانب من الحياة – في الحقل الروحي، في مجال اكتساب المعرفة، في الفن وفي العلم – يمكن أن نصادف الإخلاص والرياء على حد سواء. والطريقة الوحيدة لمعرفة التطور الروحي الحقيقي – هو معرفة درجة التفاني، لأنه مهما حاول الإنسان إدعاء الروحانية ومهما حاول الظهور بمظهر الفضيل أو المتدين أو التقي، فإنه لن يستطيع إخفاء جوهره الحقيقي. بما أن الايغوEgo تسعى دوماً للهروب إلى الخارج، فهي ستخرج من تحت سيطرته، وإذا كان هو منافقاً، فهو لن يتمكن من إخفاء ذلك. كما هو الألماس المزيف – مهما لمع، فهو سيبدو باهتاً بالمقارنة مع الأصلي، وإذا ما اختبر وامتحن سيتبين أنه تقليد، كذلك هو التقدم الروحي الأصلي يجب أن تثبته شخصية النفس. فالشخصية بالضبط هي التي تبرهن فيما إذا كان الشخص قد لامس ذلك الحقل الواسع، حيث لا وجود للـ " أنا ".

المسرحية الدينية الأخرى لرمز الصليب يمكن أن نتتبعها من خلال حياة الرسل، الأنبياء والقديسين. قبل كل شيء، لن يدخل أحد إلى مملكة الرب ما لم يصلب. الشاعر الفارسي العظيم عراقي( ) Iraki يروي لنا كيف هو جاء إلى بوابات المعشوق وقرع الباب فأجابه صوت: " في هذا المسكن لا يوجد مكان لواحد آخر. عُدْ من حيث أتيت "، - وعاد إلى حيث كان. ثم، بعد وقت طويل وبعد عبور عملية حمل الصليب، وبعد الصلب، جاء من جديد، تغمره روح نكران الذات في هذه المرة، قرع الباب، فجاء الجواب: " مَن أنت؟ " – فقال هو: "أنت الواحد الأحد، لأنه لا أحد سواك". فقال الرب: " ادخل هذا البيت، لأنه الآن هو ملكك ".

نكران الذات هذا بالضبط، عندما لا تعود إلى الظهور حتى مجرد أفكار عن " الأنا "، عندما تموت " الأنا "، هذا هو إدراك الإله. يمكن إيجاد هذه الروح لدرجة معينة في العاشق وفي المعشوق ببساطة، حين يحب شخص ما شخصاً آخر بكل جوارحه. عند مَن يقول: " أنا أحبك لكن إلى حد معين ، أحبك ، لكن أمنحك ستة بنسات و ابقي لنفسي ستة بنسات، أحبك، لكن ابقي مسافة معينة، أنا لن اقترب أكثر أبداً، نحن – كائنان مستقلان " – الحب عند مثل هذا يختلط مع " أناه ". طالما هذا قائم، فإن الحب لن يؤدي مهمته بشكل كامل. ينهي الحب وظيفته عندما يفرد جناحيه ويحجب " الأنا " الخاصة بالشخص عن عينيه. هذه لحظة تحقيق العشق. نفس الشيء يحدث خلال حياة القديسين، الذين يحبون الرب، ليس فقط بالتصاريح أو بالإعلان عن ذلك، بل إلى درجة أنهم ينسون أنفسهم. هذه الحالة من إدراك الكائن يمكن تسميتها بالصليب. لكن، إن مثل تلك النفوس تتخذ لها فيما بعد صليباً في كل مكان؛ كل خطوة تقوم بها هي عبارة عن صليب، تمثّل عملية صلب. مع أنها، النفوس، تعيش بشكل عام في عالم مليء بالكذب، عالم مليء بالخداع، بالغدر والخيانة، بالأنانية، فإن كل خطوة تقوم بها، كل تصرفاتها، كل ما تقوله أو تفكر به، يبرهن على أن عيونها وقلوبها مفتوحة لما هو مختلف عما يتطلع إليه العالم. إنه صراع دائم. العيش بسلام، العيش بين الناس والنظر باستمرار إلى المسكن، الذي هو غير ذلك. حتى لو حاولوا الحديث عن ذلك فإنهم لا يستطيعوا. فالكلمات لا تكفي للتعبير عن الحقيقة؛ واللسان غير مهيأ نهائياً لكي يقدم توصيفاً صحيحاً عن الحقيقة. كما جاء في الفيدا - العالم هو المايا( ) Maya. والمايا تعني شيئاً ما غير واقعي. بالنسبة لتلك النفوس العالم يصبح متخيلاً إلى حدٍّ بعيد، وبمجرد تبدأ هي برؤية الواقع، وحين هي تقارن العالم مع هذا الواقع، فإنه يبدو أكثر غرابة بكثير. لا يوجد كائن عادي واحد قادر على أن يتصور إلى أية درجة يتعرى جوهر هذا العالم في عيون تلك النفوس.


أولئك الناس، الذين هم جيدون في الدنيا، لكن لم يبلغوا الكمال الروحاني، الذين هم حساسون، رقيقون، طيبون، يشاهدون كيف يتعامل معهم العالم، كيف لا يفهمونهم، كيف أن الانانيين يبتلعون كل شيء، كيف أن كريم النفس مضطر لأن يعطي أكثر وأكثر، كيف أن مَن يخدم عليه أن يخدم فترة أطول وأطول، ومع ذلك فإن العالم غير راض. كم هي الحياة منغصة ومزعجة لمثل هؤلاء الناس ! وتفكروا في أولئك، الذين بلغوا هذا المستوى من الوعي، حيث تنشأ هوة واسعة بين الواقعي وغير الواقعي، والذين تصبح لغتهم – حين يبلغون ذلك المستوى من الإدراك - غير مفهومة، مما يضطرهم إلى الكلام بلغة غير لغتهم الخاصة، فينطقون ما هو مختلف عما هم يدركون . هذا أكثر من صليب . ليس السيد المسيح وحده مَن اضطر إلى حمل الصليب؛ كل معلِّم كان مصيره نقل الرسالة - يمتلك صليبه الخاص.


لكن، عندئذ قد يطرح سؤال، لماذا جميع الرسل، الذين جاءوا خلال جميع القرون وكان مصيرهم أن يحملوا الصليب، لماذا لم يخرجوا إلى الغابات، إلى الكهوف، إلى الجبال، لماذا ظلّوا بين الناس؟ لقد انشأ جلال الدين الرومي صورة رائعة عن ذلك. هو يقصّ، لماذا يخترق لحن الناي القصبية قلوبنا بمثل هذا العمق. هذا، كما يقول هو، لأن الناي بداية تقتطع عن جذعها الغالي، ثم تصنع الثقوب في قلبها، بحيث أن القلب يتقطع، فتبدأ هي بالبكاء. نفس الشيء يحدث مع روح الرسول، مع روح المعلم: بفضل حمل الصليب والصبر على حمله، فإن " أناه " تصبح، كما القصبة، فارغة. هذا يمنح الملحن فرصة أن يعزف لحنه؛ عندما " الأنا " تصبح لا شيء، فإن الملحن يستخدمها لكي يعزف مقطوعته. لو أنه بقي شيء آخر في الداخل، لما كان الملحن استطاع استخدامها.


الرب يتحدث إلى الكل، ليس فقط إلى الرسل والمعلمين. هو يتحدث إلى آذان كل قلب، لكن ليس كل قلب يسمعه. صوته أقوى من الرعد، ونوره اسطع من الشمس – فقط إذا كنت تستطيع سماعه، إذا كنتَ تستطيع رؤيته. لكي يتمكن الإنسان من السمع والرؤية، عليه أن يزيل ذلك الجدار، ذلك الحاجز، الذي أقامه من " الأنا " خاصته. عندئذ يتحول هو إلى ناي، حيث يستطيع الموسيقار الإلهي أن يعزف عليها موسيقى أورفيوس( )، القادرة على سحر حتى قلب الحجر؛ عندئذ يصعد الإنسان عن الصليب إلى الحياة الابدية.

*متصوف هندي كبير. عمل كثيرا على التعريف بالصوفية و نشرها في الغرب.