عشاق الله

الدين و الفن

 

الدين و الفن

(من الاحتجاجات على شيفرة دافنتشي إلى فتاوى التكفير في مصر)

دلور ميقري

أن تتآلف قلوب المؤمنين ، المنتمين إلى عقيدتيْن سماويتيْن ، في خفقة مشتركة ، فهو على تواضع علمنا أمرٌ صحيّ وجدير بالثناء . إنّ الأنباء الأخيرة ، الآتية من الهند ، تفيدُ بغضبة عارمة لنصاراها ومسلميها إحتجاجاً على عرض فيلم " شيفرة دافنشي " ، المأخوذ عن رواية بالإسم نفسه للمؤلف دان براون . لا بل أنّ الحمية أخذتْ بإخواننا المسلمين غيرة ً على ما أسماه زعماؤهم هناك : " إهانة الفيلم لنبيّنا عيسى عليه السلام " ، حدّ أنهم إقترحوا على أندادهم من الرؤساء المسيحيين ، القيامَ بحملة موحّدة لمنع عرض ذاك الفيلم المعني ، الموسوم بالتجديف على نبيّ الله . الهند ، تلك الفسيفساء العجيبة من المعتقدات واللغات والثقافات ، لم تشهدَ بمناسبة رسوم الكاريكاتور ، الدانمركية ، ردة فعل متطرفة ، كما كانه شأن العديد من الدول الاخرى ، الآسيوية . وعندي ، أنّ سبب ذلك قد يكون مرده إلى حكمة أولئك الزعماء المسلمين أنفسهم ، ومعرفتهم بطبيعة فسيفساء بلدهم غير المحتملة ردة فعل عنيفة ، قد تؤدي للمزيد من التشنج بين معتنقي العقيدتين السماويتين وفي مجتمع تهيمن عليه عقيدة الأغلبية الهندوسية .

وفي هذا المقام ، نعود بذاكرتنا إلى أواخر ثمانينات القرن المنصرم ، حينما أوقدتْ فتوى الخميني ، بخصوص رواية " آيات شيطانية " ، أوارَ فتنة كبرى على مستوى معمورتنا ؛ طال لهبها الهندَ بشكل خاص ، لإنحدار كاتب الرواية ، ( سلمان رشدي ) ، منها . وبغض النظر عن أصوات أصولية ، هنا وهناك ، شاءتْ تحميل النصرانية " وزرَ " شطحات ذلك الكاتب بحكم إقامته وجنسيته البريطانية ؛ إلا أنّ ردة فعل المؤمنين ، غالباً ، إقتصرتْ على التنديد به وكتابه . وهو التنديد الذي شاركهم فيه وقتئذٍ ، العديدُ من الشخصيات الأوروبية والأمريكية ، الشهيرة ؛ من سياسية ولاهوتية وإجتماعية . مبادرة تلك الشخصيات ، بذلك الموقف المتضامن مع ما أسمي " مشاعر المسلمين المتأذية بشدة " ، لم يكن بالضرورة إقتناعاً من أغلبها بتخطيل الكاتب المعني ، أو على الأقل تأييد كبت حرية الإبداع الفني عبْرَ " تابو " المحرمات الدينية . فمهما بلغت العقلية الغربية من محافظة ورجعية ، إلا أنها لا يمكن الإرتداد إلى تأييد ممارسات بالية ، غير متحضرة ، تعود لأزمان القرون الوسطى ؛ كما هو حال العقلية الإسلامية ، عموماً ، المشتركة راهناً في مسألة الإنتصار لكبت الحريات الشخصية ، سياسية كانت أم فكرية . ربما تنحو العقلية الغربية ، الليبرالية ، في موضوع غاية في الحساسية دينياً ( كرواية رشدي أو الكاريكاتور الدانمركي ) ، إلى محاولة الظهور بموقف حياديّ ، أكثر منه تضامنيّ مع هذا الأديب أو ذاك الفنان . وهوَ موقف / أو لاموقف ، يعتقد صاحبه ، بدوره ، أنه مساهمة إيجابية منه في تبديد سحب الإحتقان في مجتمع غربيّ ، مأهول بتجمعات المهاجرين القادمين من الدول الإسلامية .

كاتب هذه السطور ، المنذورة لذاك الخبر الموصوف ، سيعترفُ لكم ببساطة أنه لم يقرأ بعدُ رواية " شيفرة دافنشي " ، ولم يتسن له أيضاً مشاهدة الفيلم السينمائي المأخوذ عنها : ولكن السؤال الملحّ برأيي ، ما إذا كان الغاضبون على كلا العمليْن ؛ من مسلمين ومسيحيين ، يشاركونني في الإعتراف نفسه ؟ بعيداً عن عياني ، فمن النافل التأكيد هنا على أنّ القراءة الأدبية أو متابعة الأفلام السينمائية ، غير واردة في شيمة إخوتنا المؤمنين ؛ لما فيها من مضيعة للوقت في حياة قصيرة ، مبتسرة ، حافلة بأوقات العبادة والذكر والقيام والسجود ووو .. ، أملاً في حياة اخرى ، أبقى وأجدى . يقيناً ، أنّ هذا الحال ينسحبُ على أفاضل القوم المؤمنين ، من دعاة وعلماء وفقهاء وحجات وآيات : فمَن مِن هؤلاء " قتلَ وقتهُ " مرةً بإنشغالات كهذه ، أدبية أو فنية ؟ لا جدوى ، إذاً ، في حالنا الراهن ، المظلم ، من الركون إلى ناقدٍ متنور ذي خلفية إسلامية _ كسيّد قطب ، مثلاً _ يتواصل مع أعمال إبداعية ، مهما تكن إشكاليتها على صعيد التقاطع مع المحرم الدينيّ ، المزعوم . إن تأكيدنا على المرادفة الأخيرة ، قد لا يخلو كذلك من إشكال . بيدَ أنه من المحال ، وفي أي عصر من العصور ، تلازم الدين والفن دون إشكالية ما . فالأولُ يقينٌ ، فيما الآخرُ غواية ٌ : ولطالما رُميَ الشعراء بمآخذ وجرائر التجديف والشطح والزندقة و .. ، من لدن قضاة محاكم تفتيشنا ، فدفع الواحد منهم حياته ثمناً لأبياتٍ معميّة الكلمات أو طائشة المعاني ؛ نظير الحلاج وإبن المقفع والسهروردي وغيرهم .

الغريب الآن ، في عصرنا العولميّ الأكثر حدائة ، أنّ فعل الشِعر _ تبعاً لخصلته كفن صعب ، مراوغ ، فضلاً عن إنحسار شعبيّته ؛ هكذا فعل ، صار مسكوتاً عنه في تابو التحريم الدينيّ ، لـ " صالح " أفعال الرواية والمسرحية والمقالة والفيلم والرسم الكاريكاتوري .. ؛ وهي الفنون المضروب عليها ، في وقتنا العسِر هذا ، حصارٌ شديد من الأعين المراقبة ، اليقظة ، المتسقطة لشطحة هنا أو تجديف هناك . ففي مصر ، على سبيل التمثيل لا الحصر ، ثمة محامون متفرغون للمهمة تلك ، الموصوفة بالمنافحة عن قيم ديننا الحنيف ، يوافونَ بتقاريرهم المتواترة أئمة التكفير ومشايخ التوتير ، المرتبط أغلبهم ، بدوره ، بشخصيات الأمية السياسية أو رجال فساد الأعمال ، الطموحين لهذا المنصب الوزاري أو ذاك المقعد النيابيّ . فلم تشهد عصور وادي النيل الإسلامية ، جميعاً ، أرقام فادحة في أحكام " قانونية " بالردة والتطليق والحبس ، على الكتاب والفنانين والمفكرين .. ، علاوة على " فتاوى " القتل والإباحة ، كما كانه حال العقدين الأخيرين من أعوام عصر ما بعد الحداثة . حتى أن ّ الحكومة المصرية ، في عصف الأزمات البنيوية والمعيشية والثقافية ووو .. ، لا تجد ما تتباهى به سوى أرقام السياحة الغربية ! إنّ السكوت عن قمع المثقف ، كاتباً كان أو فناناً ، قد أدى إلى نتيجة كارثية ، في أرض الكنانة ؛ ربما من تجلياتها اليوم ، إنفراط عقد المجتمع المتعايشة فيه مكونات دينية مختلفة ، لطالما ساد الوئام بينها حتى في أحلك عهود الإنحطاط التاريخية . خطرٌ كهذا ، يُلقي أيضاً اليوم بظلاله على دول عربية اخرى ، (...)  حيث شواهد وعلامات عديدة ، على صعيد أزمة الحكم والمجتمع ، تنبي بإحتقانات مزمنة ، متفجرة قريباً لا محالة .