عشاق الله

حوار لاهوتي بين المسيحية والإسلام 1، الثالوث

حوار لاهوتي بين المسيحية والإسلام 1، الثالوث

 

كتب: لطفي حداد

تاريخياً ابتدأ حوار بين المسيحية والإسلام بالنجاشي ملك الحبشة عندما أرسل النبي العربي اثنين وثمانين رجلاً من أتباعه فراراً إلى الله بدينهم، وهناك لقوا الاستقبال الحسن وأخبروا موقف دينهم الجديد من عيسى المسيح: " هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول".
لم يكن الحوار وحسن الجوار بين المسيحيين والمسلمين سائداً عبر القرون الأربعة عشر الماضية بشكل إنساني وحضاري دائماً، بل كثيراً ما كانت الرغبة في إلغاء الآخر هي التي تطغى على المشهد التاريخي..
واليوم نعيش حروباً دينية عالمية، خصوصاً بين الغرب المسيحي القوي والمتفوق والشرق المسلم الضعيف والمتعثر في خطواته. وبشكل دموي تصطدم الأصوليتان، المسيحية ممثلة بالمحافظين الجدد والصهيونية المسيحية، والإسلاموية ممثلة بالتيار العنيف لتنظيم القاعدة . هل يكون القرن الحادي والعشرون قرن صدام الأصوليات ! أم قرن حضارة من الحوار والشركة الإيمانية بين روحانيات منفتحة على الآخر كمختلف لكنْ حامل ٍ لبذور الحقيقة في قلبه!.
مواضيع الحوار شائكة، وسيقفز من الطرفين أشخاص يرفضون الحوار لأنهم يمتلكون المعرفة الكاملة كما يظنون، وإنني أرحب بالجدال الأحسن إذا اعتبرنا أن بعض حوار حسن قد ابتدأ هنا وهناك.
سأطرح موضوع الثالوث المسيحي وهو صعب حتى على المسيحيين لكنني أعتقد أن كلّاً من الديانتين تحمل فكراً مشابهاً بهذا الخصوص وما تختلفان عليه يرفضه الطرفان !
تاريخياً: إن تثليث الآلهة موجود في حضارات كثيرة. فالفراعنة في مصر كانوا يؤمنون بأوزيريس وإيزيس وحورس، وهم الأب والأم والولد. وقد مزج هذا الثالوث بذاته الطبائع الثلاثة المختلفة لهذه الآلهة.
كذلك كانوا يؤمنون بثالوث آخر مكوّن من آمون ، مون ، خونس، وهم أيضاً أب وأم وولد. وثالوث آخر مكون من فتاح ، سخت ، إيموس..
أما الكلدانيون فكان ثالوثهم يشمل آنو، إله السماء، وإنليل ، إله الأرض والهواء ، وايا، إله المياه. وكان عند البابليين ثالوث مكوّن من شمش، سن، وعشتار وهم أب وأم وولد.
وبشكل مشابه عبَدَ السومريون الإله آبو وزوجته وولده. وكذلك اليونان والهنود عبدوا إلهاً ثلاثياً لكل واحد من مكوناته عمل وخصوصية.
لكن هل الثالوث المسيحي يشبه تلك الآلهة ؟ وهل هو ضد التوحيد الإسلامي ؟ وإذا كان كذلك لماذا يعترف المسلمون بالأديان التوحيدية الإبراهيمية.
من الآيات القرآنية بخصوص الثالوث :
" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" ( المائدة: 73)
"وقالوا اتخذ الرحمان ولداً" ( مريم:88)
"لا تقولوا ثلاثة ٌ انتهوا خيراً لكم" ( النساء: 171)واللاهوتيون المسيحيون يوافقون على هذه الآيات، لأن الثالوث المسيحي لا يشمل مريم العذراء بالتأكيد، وهو سرّ إلهي يُرمز إليه بالأقانيم لكنه خارج التعابير الإنسانية، وهو يعاش في سماء القلب أكثر من فلسفة لاهوتية ما تزال في طور النمو والإعلان. إذاً ما يرفضه المسلمون يرفضه المسيحيون.
هناك مفاهيم هامة قبل أن نبدأ أي حوار: أولاً أن نعرف أن الإنجيل بالنسبة للمسيحيين لا يوازي القرآن بالنسبة للمسلمين، فالقرآن هو تنـزيل إلهي كما يؤمن المسلمون وليس وحياً كالإنجيل، الذي هو خبرة الجماعة الأولى المحيطة بعيسى الناصري. وهكذا توازي عذرية ُ مريم أم عيسى التي أحصنت فرجها وأفرغت قلبها لاستقبال الكلمة الإلهية ليصير جسداً، أقول توازي أميـّة َ الرسول محمد الذي كان قلبه وعاءً روحياً لقبول التنـزيل أي القرآن أو الكلمة الإلهية. "فالمسيح هو قرآننا" كما يقول المطران اللبناني جورج خضر، بمعنى أن الله عن طريق روحه القدوس يلد الكلمة الإلهية قرآناً كما يؤمن المسلمون ، ومسيحاً حسب إيمان المسيحيين.
أعتقد أننا هنا نلتقي ونفهم بعضنا أكثر، ونقبل سرّ دخول الروح في الزمن، والأبدية في المادة، أي القرآن العربي من أم الكتاب المحفوظ لدى الله، وعيسى الناصري المتجسد كإعلان بشري للكلمة الأزلية.
المشكلة هنا أن كثيراً من المسلمين والمسيحيين يرفضون أي إعلان إلهي خارج عقيدتهم، رغم أن نصوصًا كثيرة في كل من الديانتين تشير إلى أن بذور الحقيقة موجودة بشكل سرّاني في قلوب البشر مهما ابتعدوا عن نور المسيح والقرآن.
المفهوم الآخر المهم عندما نتحاور هو أن نعرف الظروف التاريخية للوحي والتنـزيل. مثلاً لم تنـزل سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد) رداً على عقيدة الثالوث المسيحي وإنما على أحد المشركين العرب. وكذلك اتجهت دعوة المسيح من محيطه الضيق إلى كل الذين يعبدون الله بالروح والحق مع الزمن، أي مع نضوج الفكر الروحي والرسالي لعيسى الناصري.
أيضاً إن اختبار اللامحسوس كعلاقة صوفية بالمطلق تتجلى ببساطة لدى أتباع الديانتين باستقبال الكلمة الإلهية في القلب العذريّ والأمّي من خلال الحواس التي تقترب من الله في القرآن، ومن الله في المسيح في سر الشكر.
إن الليتورجية السرّانية في قراءة القرآن وحفظه ، حتى يصير بعضاً من الذات الواعية وغير الواعية توازي بشكل عميق احتفال الشكر المسيحي في القداس، ومحاولة استيعاب المطلق المتمثل سرياً وطقسياً في جسد المسيح ودمه. وهكذا تنفتح السماء للقلب المستعد ،كأرض عطشى، للكلمة المتدفقة ينبوع حياة تتخطى الزمن والمادة.إن الحضور الليتورجي الربّاني في شكلي القرآن والمسيح هو رؤيا اسكاتولوجية ، واستباق الخيرات الروحية، وطقس تطهيري يومي زمني استعدادي للمجد الإلهي اللامحسوس الأزلي. فالموت عن الذات وإفراغ الذات لقبول الحضور الإلهي هو اختبار الاسكاتولوجيا، أي الآخرة أو يوم الدين أو التجلي النهائي للحقّ، في الآن الزائل والمحدود والضعيف والناقص. وهكذا يدخل المسيحي في سرّ الثالوث فائق الفهم والإدراك عن طريق قبول المسيح الكلمة في القلب العذريّ والمنذور لله المحبة، ويدخل المسلم في سرّ الله الرحمن الرحيم عن طريق القرآن، كلمة الله المنـزّلة على القلب الأمّي المنفتح المصلي في غار حراء الزمان والمكان.
وإذا كان المسيحيون يؤمنون أن الحربة التي اخترقت جنب الابن قد وصلت عمق الثالوث، أي أن المسيح الكلمة المتجسد في عيسى الناصري قد أدخل آلام البشرية في صميم الله ، وإذا كان لويس ماسينيون يرى في الإسلام تلك الحربة فإنني هنا أرى بعداً عمودياً للعلاقة المسيحية الإسلامية تدخلها في مشيئة الله الأزلية. أي تعددية التجلي الإلهي للكلمة معلنة في القرآن والمسيح، وفي الوقت نفسه عودة الكل إلى عمق المحبة والرحمة.
في النهاية أرجو الانتباه إلى عدم الوقوع في التوفيقية، فهذه النظرة ليست غنوصية، إنما تحترم خصوصية كل إيمان وجمال الخبرة الروحية لكل جماعة. كما أنها ليست تقريبية بمعنى أن كل المفاهيم متشابهة. إنما هي محاولة في فهم الآخر والانفتاح عليه دون فقدان الهوية والذوبان في بوتقته.


مراجع هذا البحث:
آراء المفكرين محمود أيوب، جورج خضر، باولو دي لويلو، جان كوربون