عشاق الله

المسلمون وإشكاليات الإصلاح ، التجديد ، الحداثة 2

  المسلمون وإشكاليات الإصلاح ، التجديد ، الحداثة 2

سعيد الكحل

الإصلاح شعار حق يراد به باطل : إن الإشكالية الحقيقية التي تواجه المسلمين ولا يواجهونها ، هي عجزهم عن التحرر من سلطة الماضي ، الذي لا يزال يحكمنا من خلال ما أنتجه الأسلاف من مفاهيم وما نحتوه من معاني صارت عابرة للأزمنة ومتعالية على التاريخ . ومن ضمنها مفهوما الإصلاح والتجديد . إذ ظل المجال المراد إخضاعه لعملتي الإصلاح والتجديد محصورا في المجال الديني دون غيره من المجالات : ( إطار الدولة وهياكلها ، التشريعات والقوانين ، الممارسة السياسية ومجالاتها ، الأطر الاجتماعية لإنتاج المعرفة ..) . وبذلك ساد الاعتقاد أن الناس بحاجة إلى التجديد فقط في أمر الدين ، لما يعتري ممارساتهم ومعتقداتهم من انحراف وأضاليل . لهذا ظلت المجتمعات الإسلامية تعيش ركودا مطبقا ، وتخشى خوض مغامرة الإصلاح أو التغيير دون أن يقود إليها "مصلح" أو "مجدد" ؛ فاعتراها الخمول والتحجر ، لدرجة أنها أصبحت أشد عنادا ومقاومة لكل إصلاح أو تغيير ، وأيسر انقيادا وتبعية لمن يرمي بها في غياهب البداوة والتطرف . وإذا كان الإسلام ، في أول عهده ، دين الانفتاح على ثقافات الشعوب ، والدعوة إلى طلب الحكمة في أي مكان ،فإن عهود الجمود أنتجت مواقفا وأفهاما تحصنت بالدين وجعلت من تعاليمه مسوغا لمناهضة كل محاولات الإصلاح التي أرادها بعض أعلام الأمة أو بعض فئاتها . ويأتي على رأس الأسباب التي تفرز الجمود وتناهض التجديد ، أنظمة الحكم التي لا ترى غير الاستبداد أسلوبا للحكم والسيطرة على مصير الشعوب . لذلك فهي تنشر أسباب الاستبداد ومظاهره في كل مناحي المجتمع : السياسية ، الثقافية ، التعليمية ، الإعلامية ، التشريعية وغيرها . وإذا كان قاسم أمين قد اتخذ للإصلاح مدخلا اجتماعيا ـ ثقافيا ، فإن الكواكبي جعل من أنظمة الحكم مدخلا لكل عملية تغيير . ذلك أن ( الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشارع . ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس ، إنما غاية مناهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته ، وأنصار لدولته ، وشرهون لأكل الفتات من ذبيحة الأمة .. فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتجمدين العاملين له والمحافظين عليه ،واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان ، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة ، وهو أن يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا ) . وللأسف الشديد لازالت هذه الطباع فاعلة في فروع دولنا وأنظمتنا السياسية والاجتماعية . ففي برنامج "حوار مفتوح" الذي بثته قناة "الجزيرة" يوم السبت فاتح يناير 2005 ، ذكر الأستاذ برهان غليون أن مسئولا كبيرا في سوريا أكد له أن الدولة بحاجة إلى "الولاء" وليس إلى الكفاءة . لهذا يعمل الحاكم المستبد ، كما قال الكواكبي ، على ( أن تكون رعيته كالغنم دوراً وطاعة .. وكالكلاب تذللا وتملقا ) . لأنه ( يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم . ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته ) . ومن ثم ، كما يقول محمود عوض ( إن الكواكبي يعلم أن علاج الاستبداد هو الحرية .. إنه يكتب عن الحرية وسط قوم غابت عنهم الحرية زمنا طويلا . لقد غابت عنهم لضعفهم ، وغابت عنهم لإهمالهم . إن الحقوق والحريات يمكن فقدها بالإهمال .. مثلما يمكن فقدها بالهزيمة . إن الحرية كالقوة ، كالذراع ، كالعضلات أستعملها أو أخسرها .. إن فقدان الحرية لا يُعدُّ خسارة في نظر قوم لم يعرفوا الحرية أبدا .. نحن هؤلاء القوم )( ص 73 أفكار ضد الرصاص ) . إنها قاعدة عامة تنطبق على شعوبنا ( فلكي يستمر الاستبداد لا يكفي أن يوجد حاكم مستبد أو حكومة مستبدة . لا بد أيضا من شعب يقبل هذا الاستبداد )( ص 74 ) . بل وينتج ثقافة تشرعن الاستبداد وتؤصله في النفوس . ذلك أن الاستبداد مستويات ، منه السياسي ومنه الاجتماعي والديني . ومن لا يمارس الاستبداد على مستوى السلطة والدولة ، يمارسه على مستوى الأسرة أو الإدارة أو المهنة : في القسم أو الضيعة أو المعمل أو الفتوى ومنبر الجمعة . لهذا لم يعد الإصلاح عدوا للسلطة السياسية فقط ، بل صار عدوا لذهنية الاستبداد التي تشربتها الأجيال ، وصارت تنضح بها وتتمثلها في كل أنشطتها . ويهمنا ، هنا ، التذكير ببعض المواقف المحافظة ، على اختلاف مشاربها ، التي ترهن واقع المجتمعات ومستقبلها بفهم معين للدين . ومن ثم توسع قاعدتها الاجتماعية المناهضة لمشاريع الإصلاح ودعواته . فهي تجعل من الدين السلاح الفتاك ضد الخصوم ، فترفض ، بالتالي ، كل المكتسبات التي حققتها البشرية في مجالات عديدة ، منها :
= ـ حقوق الإنسان والحريات العامة ، حيث تُتهم المنظمات الحقوقية بالعمالة للغرب ، وتُتهم هذه الحقوق بكونها تُحل ما حرم الله وتتعارض مع أحكام الشريعة خاصة المتعلقة بالردة ، الكفر ، السرقة ، الزنا . فكما حاربت الحكومات المستبدة حقوق الإنسان باسم الدين أو باسم الصراع مع العدو ، أيا كان هذا العدو ، على اعتبار أن تلك الحقوق والحريات ستضعف الوحدة الوطنية ، فإن التيارات المحافظة تحارب هذه الحقوق وترفضها بدعوى مصادمتها لأحكام الشريعة . من ذلك مثلا ما قاله الشيخ عبد السلام ياسين ( القانون المسوِّي تسوية ديمقراطية في الحقوق والواجبات لا يمكن أن يكون إلا لاييكيا ، بمعنى لادينيا )(ص113 الشورى .) . فالشيخ يرفض هذه الحقوق كمضمون وكمفهوم ( كلمة " حقوق الإنسان" هي اللواء الخفاق في سماء الديمقراطية ، هي دين الديمقراطية وكنيستها . حقوق الإنسان شعار مجيد ترفعه الديمقراطية )(ص 107 الشورى .) . فهو يعلل رفضه بالتالي : ( وُلدت حقوق الإنسان ، المتعارف عليها دوليا ، على فراش شقيقتها الديمقراطية واللاييكية واللادينية )(ص111 الشورى). .) . ومن ثم يقرر ( فمهما كان الشكل الديمقراطي ذكيا فالمضمون الكفريُّ اللاييكي هو عين الغباء)(ص60 الشورى والديمقراطية ) . ويضيف الشيخ سببا آخر للرفض : ( حقوق الإنسان ، كما هو متعارف عليها دوليا مبنية على معاهدات لم يحضر إبرامها المسلمون ، لم يحضر إبرامها في سان فرانسيسكو إلا الأمم المنتصرة في الحرب العالمية الثانية . لم يبرمها المستضعفون في الأرض ، وأنى لها ! لذلك فهي منذ ذيباجتها تقسم الأمم إلى سيدة ومسودة . ولم يحضرها المومنون بالله ورسوله حاملو رسالة الإسلام ، ولم يوقعوها لدى ميلادها )(ص 122الشورى) . وبالتالي فإن هذه الحقوق ( وضعها وفرضها وفكَّرها لاييكيون أقحاح ، فإن المتعارف عليه في القانون الدولي أن الإنسان كائن حر من كل فكرة أو دين أو مبدإٍ (ص 123 الشورى.). بينما الشيخ يقرر أن الدين ليس ( قضية شخصية يتسامح بصددها المسلم مع الكافر ، والتائب مع المرتد )(ص 141الشورى) . أما حزب العدالة والتنمية فلا يزال يدافع عن الاستبداد ويشرعنه من أوجه عديدة أهمها :
أ ـ اتهام المطالبين بالحرية والديمقراطية والمناهضين للحكم المطلق بـ"المارقين" و"الخارجين" عن السلطان الواجب قتلهم شرعا ، كما جاء في فتوى الزمزميفي حق الشهيد المهدي بنبركة ، والتي نشرتها جريدة "التجديد" ومنها قوله ( فكيف يكون شهيدا من كان قتله مشروعا بصرف النظر عمن قتله . وذلك لكونه خارجا على الأمة وثائرا على السلطان وفارا من القضاء ومارقا من الدين وواحدة من هذه الجرائم توجب قتله ، فكيف وقد اجتمعت كلها فيه . فإنه لو أمكن قتله ثلاث مرات لكان ذلك واجبا في شرع الله ) .
ب ـ التحريض ضد المطالبين بالكشف عن حقيقة سنوات الرصاص التي ذهب ضحيتها فئة من خيرة الشباب المطالب بالعدل والحرية ، بتهمة التآمر على الملكية وعلى استقرار المغرب ، إذ نقرأ في افتتاحية جريدة " العصر" عدد 166 بتاريخ 13 /19 يوليوز 2001 ما يلي ( والآن يبدو أن هناك من لا يروقهم استمرار التعايش السياسي في المغرب والذي يعتبر أساس جو الاستقرار والأمان لذلك تتحرك خيوط المؤامرة من هنا وهناك لبث البلبلة وإشاعة القلاقل والشك في المستقبل السياسي للمغرب .. فمؤخرا تمت إثارة قضية المهدي بن بركة من جديد حيث ادعى أحد رجال المخابرات المغربية ( المقصود به أحمد البخاري ) أن جثته قد تم تذويبها في حوض حامضي في دار المقري بالرباط . واستغلت بعض الهيئات المتربصة هذه الشهادة لتمارس المزايدات والابتزاز رغم أن صاحب هذه الشهادة ليس إلا رجلا ثانويا في الاستخبارات .. كما لا يُستبعد أن يكون هذا الرجل مدفوعا من جهات لها مصلحة في إثارة هذه القضية من جديد ) . ونفس الموقف سيعبر عنه الدكتور الخطيب في اجتماع المجلس الوطني للحركة الوطنية الشعبية بفاس ، وأعاد تأكيده في استجواب نشرته أسبوعية "الأيام" في عددها 164 بتاريخ 29 دجنبر 2004 . إذ وصف ضحايا سنوات الرصاص بـ"الصعاليك" وحملهم مسئولية الأحداث التي شهدها المغرب . مما يعني أن ما قامت به الدولة من قمع وتقتيل ، كان "مشروعا" وقانونيا . كما صاغ الحزب موقفه من قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على الأسس التالية :
ـ ( إن تلك الحقوق والحريات منضبطة في تصورنا بقيمنا الدينية والأخلاقية ومن ثم لا نقبل أن تكون المرجعية المادية أو الاجتماعية اللادينية أساسا نحتكم إليه في ممارستنا في مجال حقوق الإنسان) . وهذا معناه رفض الإقرار بكونية حقوق الإنسان ، ومن ثم الدعوة إلى خرقها وتجاوزها. وفي نفس الوقت إلزام الملك ، باعتباره أمير المؤمنين ، برفض كل الحقوق والحريات ذات البعد الكوني والمستندة إلى المرجعية الدولية والفكر الإنساني ، مما يعني شرعنة الاستبداد باسم الدين .
ـ ( إن مرجعيتنا متحكمة في المرجعيات والمواثيق الدولية عند تعارض هذه الأخيرة مع أحكام شريعتنا وقيم ديننا) . وبناء على هذه الأسس التي تأخذ مدلولها ضمن التأويل السياسي للنصوص الدينية ، سيتصدى الحزب لكل الممارسات والمطالب التي تصدر عن الخصوم السياسيين بدعوى تعارضها مع الشريعة الإسلامية .
= حقوق النساء حيث اتَّهِم المطالبين بتغيير مدونة الأحوال الشخصية وسن قوانين لصالح المرأة ، بتخريب الأسرة ومحاربة الدين . إذ جاء في المطوية التي وزعها حزب العدالة والتنمية على التلميذات والتي عنونها ب : " حقيقة المطالب العلمانية بصدد تعديل مدونة الأحوال الشخصية" ، ما يلي ( تتصاعد هذه الأيام وثيرة التحركات والضغوطات التي يمارسها بعض الجهات على أصحاب القرار بصدد مطالب علمانية ترمي إلى تخريب الأسرة المغربية باسم إنصاف المرأة ). ولهذا طالب الحزب بمناهضة ( هذا التوجه التغريبي المفسد ، وبعدم الخروج عن أحكام الشريعة ) .
وتبعا لهذا الموقف سيتصدى الحزب للأعمال الفنية والأدبية ، معتبرا إياها ، كما جاء في السؤال الشفوي الذي طرحه نوابه بالبرلمان على الحكومة يوم الأربعاء 23 أبريل 2003 ، تدخل ضمن سياق ( هجوم ممنهج ومنسق على أخلاق المغاربة ، واستهداف محكم لهويتهم وثقافتهم ، وهو سعي تقف وراءه جهات مغرضة معروفة ) .
بيِّن إذن أن مطلب الإصلاح والتجديد والتحديث لازال بعيد المنال ، مما يجعل تدخل الدول الأجنبية والمنظمات العالمية أمرا مطلوبا ومُبررا لحمل الأنظمة والشعوب العربية معا على اعتماد الإصلاحات الضرورية . فقد أوردت جريدة "الحياة" في عددها 31 مايو الأخير خبرا عن إصرار الجانب العربي على شطب مقاطع تتعلق بالإصلاح من وثيقة اجتماع الشراكة الاورو ـ متوسطية المنعقد نهاية مايو باللوكسمبورغ . وهذا دليل آخر على استمرار مواقف الممانعة والتصدي لمطالب الإصلاح والتحديث .