عشاق الله

في معنى التدبر

نادر عبد الأمير

في معنى التدبرالتدبر يعني في اللغة التأمل والتفكر، ونقول تدبر في الأمر أو تدبر الأمرِ بمعنى تأمَّله وتفكّر فيه على مَهَلٍ، ونظر في عاقبته، وهو بالنسبة للفلاسفة والمتصوفة استغراق الذّهن في التَّفكير في موضوع ما إلى حدٍّ يجعله يغفل عن الأشياء الأخرى.

وللتدبر أو التأمل أشكال كثيرة نجد بعضا من أهمها في الديانات والفلسفات والروحانيات الشرقية القديمة، في الهند والصين خصوصا، لكنها كلها تقريبا تتفق على أن التأمل هو إفراغ العقل من كل فكرة حتى نتمكن من رؤية الأشياء على حقيقتها. كذلك يرفع الكتاب المقدس أيضا كثيرا من شأن التدبر أو التأمل لكنه يختلف عن الديانات والروحانيات الشرقية القديمة في كونه لا يدعونا إلى ترديد «مانترات» أي عبارات أو صيغ معينة لإفراغ العقل من كل فكرة، بل يدعونا إلى التفكير في مواضيع ذات مغزى سام وعميق كالذات الإلهية،‏ وصفات الخالق، ومسألة الخليقة والأكوان مصداقا لما جاء في كتاب المزامير: «تأملت في كل عملك،‏ بصنائع يديك شغلت نفسي راغبا».‏ (مزمور 5: 143) وأيضا:‏ «اذكرك على مضجعي،‏ في هزع الليل اتأمل فيك» (مزموز 6: 63)

 

يمكننا تقسيم التدبر إلى أقسام، أهمها

  • التدبر العقلي، وهو تعميق النظر في الأشياء التي حولنا ومحاولة التفكر في ماهيتها، وهو تدبر يمنح عقلنا عمقا ويبعدنا عن السطحية في التفكير والتصرف، ويرفعنا إلى مقام الحكماء.
  • التدبر الروحي، وهو يتجاوز مستوى التدبر العقلي إلى مستوى التفاعل بين العقل والروح ثم السمو بهذه الأخيرة إلى مستوى التفاعل مع روح الله الساكن فينا حيث يرفعنا الروح القدس درجات عالية ويدخلنا أفاقا لم تخطر لنا من قبل ويلهمنا أفكارا روحية سامية، ومن بوابة هذا الشكل من التدبر يمكننا الدخول إلى مقام الشكر والحمد والتسبيح «أحمد الرب بكل قلبي أحدث بجميع عجائبك.» (مزمور 9: 1).
  • التدبر العملي، وهو التطبيق العملي لوصايا الله في كتابه، ومن هذا التطبيق اليومي تأتي الخبرة الروحية التي يراكمها المؤمن عبر تدبره لعباداته وممارساته الإيمانية ورحلته مع الله «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» (مزمور 34: 8)، التدبر العملي بعبارة أخرى هو عيش كتاب الله بشكل حي ويومي.

 

خطوات عملية لممارسة التدبر

(التدبر) أغوسطينوس قولته الشهيرة «ما من شيء أكثر فائدة من التدبر كل يوم فيما تحمله السيد المسيح من أجلنا» لا بد أن نضع نصب أعيننا دائما أن سيدنا عيسى المسيح هو القدوة والمثال في مسألة التدبر. فقد كان يقضى وقتا طويلا في الخلوة والصلاة والتدبر معتزلا في البرية بعيدا عن ضوضاء العالم: «أمّا عيسى (سلامُهُ علينا) فكانَ يُؤثِرُ الاختِلاءَ لرَبِّهِ في البَراري للصَّلاةِ والدُّعاءِ.» (لوقا 5: 16). من هنا نؤكد على مسألة الخلوة كإحدى الخطوات العملية الهامة في ممارسة التدبر، بالإضافة إلى خطوات عملية أخرى علمنا إياها السيد المسيح مثل تأمل الطبيعة والكون «وتأمّلوا الزَّنابِقَ كَيفَ تَنمو -هي الّتي لا تَحمِلُ هَمَّ صِناعةِ كِسائِها- فإنّ النَّبيَّ سُليمانَ وهو في قِمّةِ مَجدِهِ وسُلطانِهِ، لم يَرتَدِ مِثلَ كِسائِها بَهاءً!» (لوقا 12: 27)، وأيضا «ألا تَرونَ الغِربانَ؟ إنّها لا تَحتاجُ إلى أن تَزرَعَ أو تَحصُدَ وهي لا تُخَزِّنُ مَؤونَتَها، لأنّ اللهَ يَرزُقُها طَعامًا يَكفيها. وأنتُم بلا شَكٍّ عِندَ اللهِ أرفَعُ ومِن هذِهِ الطُّيورِ أولى!» (لوقا 12: 24). علاوة على ذلك، تبقى حياة السيد المسيح هي أعظم مجال للتأمل والتدبر، مولده، صومه، آياته، تعاليمه، تضحيته بجسده لكي نحيا، موته، وقيامته من الأموات. لهذا السبب قال أغوسطينوس قولته الشهيرة «ما من شيء أكثر فائدة من التدبر كل يوم فيما تحمله السيد المسيح من أجلنا»