مجد ارتفاع سيدنا عيسى ومجيئه الثاني
نادر عبد الأمير
لا يختلف المسلمون والمسيحيون بخصوص السيد المسيح في الكثير من الأمور الأساسية التي تعكس مجده العظيم، منها ولادته من مريم العذراء البتول، وكونه كلمة الله، ورسالته، ومعجزاته، وارتفاعه إلى السماء، ثم مجيئه الثاني أو ما يسميه الإخوة المسلمون نزوله في آخر الزمان. وقد سبق أن خضنا وخاض آخرون قبلنا في الكثير من تلك الأمور. إلا أنهم لم يتكلموا كثيرا عن مجد المسيح في مسألتي ارتفاعه ومجيئه الثاني. لذلك سنحاول في هذا الموسم مقاربة مجده من خلال هذين الحدثين الجليلين.
يحدثنا إنجيل مرقس باقتضاب عن أن السيد المسيح «إلى السَّماءِ، لِتَكونَ لهُ مَكانةٌ رَفيعةٌ عِندَ رَبِّهِ، بأن جَلَسَ عَن يَمينِهِ عَزَّ وَجَلَّ» (مرقس 16: 19)، وعبارة جلوس المسيح عن يمين الله تعالى بعد ارتفاعه تنم عن المكانة المجيدة التي يحتلها السيد المسيح بين الأنبياء وسائر المخلوقات. كما تذكرنا العبارة كثيرا بالآية 45 من سورة آل عمران في القرآن الكريم: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ». يفسر الطبري هذه الآية استنادا إلى قول أبي جعفر من أن كلمة «وجيها» تعني ذا وَجْهٍ ومنـزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس «وجيه» و«إن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً» إلى آخر التفسير. وطبعا يمين الله هو المكان الأمثل للإكرام والجاه الحقيقي والقوة والمجد. يفصل لوقا في حادثة الارتفاع بالقول أن السيد المسيح بعد خطابه الأخير لحوارييه ارتفع «وبَعدَ حَديثِهِ هذا لحَواريِّيهِ، ارتَفَعَ إلى السّماءِ وهُم يَنظُرونَ إليهِ، حتّى حَجَبَتهُ سَحابةٌ. وبَينَما هُم شاخِصونَ بأبصارِهِم إلى السَّماءِ، ظَهَرَ لهُم فَجأةً مَلاكانِ على هَيئةِ بَشَرٍ في ثيابٍ بَيضاءَ وقالا لهُم: ‹أيُّها الجَليليّونَ، لِمَ تَقِفونَ هكذا وأبصارُكُم شاخِصةٌ إلى السَّماء؟ إنّ عيسى (سلامُهُ علينا) الّذي تَمّ رَفعُهُ مِن بَينِكُم سيَعودُ بالطَّريقةِ نَفسِها الّتي شاهَدتُموهُ فيها يَرتَفِعُ إلى السّماء›.» (أعمال الرسل 1: 9-11). ونرى أن الآية تضم بشرى نزول المسيح من جديد مسربلا بمجد شبيه بمجد ارتفاعه. وهو ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية.
يتفق المسلمون والمسيحيون أن السيد المسيح سيجيء من جديد ليدين العالم أجمع أو بعبارة أخرى ديانا للعالمين كما نقرأ في الكثير من الأحاديث الإسلامية التي تؤكد أن المسيح سيجيء في آخر الزمان حكما عدلا مقسطا، حيث سيتجلى أمام الناس محاطاً بملائكة الرحمان وسيجلس على عرش مجده مثلما هو مفصل في إنجيل متى: «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ. فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي.عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ قِائِلًا: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (متى 25: 31- 46)
يمكن القول أن المجيء الثاني للسيد المسيح يمثل رجاء عظيما لكل المؤمنين أن الله له اليد العليا والكلمة الأخيرة والسلطة المطلقة على كل شيء، وأنه تعالى القوي العدل المهيمن الصادق وعده المحقق كل وعوده ونبوءاته. ففي مجيئه الأول، كان السيد المسيح خادما متألما ذا عزم، ولكنه في مجيئه الثاني سيكون الملك المنتصر الديان. كما أنه في مجيئه الأول عاش أكثر الظروف بساطة واتضاعا أًحيانا كثيرة، لكنه في مجيئه الثاني ستكون معه الملائكة وجند السماء له المجد.