
تأملات في الصلة بالله
نادر عبد الأمير
لا جدال في أن الإيمان بالله يتطلب أساسا بناء صلة قوية به تعالى، لأن الإيمان سيصبح دون معنى أو جدوى بمعزل عن هذه الصلة. فماذا تعني الصلة بالله؟ تعني الصلة بالله فيما تعنيه القرب منه تعالى وبناء علاقة طبيعية معه، وهي علاقة تنبني بدورها على أسس وأركان هي نفسها أسس وأركان الإيمان. من بين هذه الأسس يمكن أن نذكر أولا اليقين بوجوده وحضوره وعهوده تعالى، ومن ثم ثانيا طاعته والتوكل عليه والخضوع له، وثالثا تعلم الرؤية من خلال زوايا نظره والتفكر في أعمال يديه ومشيئته ومقاصده عز وجل. فحين تصبح صلتك بالله قوية، تتحسن وتتقوى علاقتك بمحيطك سواء تعلق الأمر بأشخاص أو حيوانات أو بيئة أو غيرها، لأنك عند ذلك تصبح جنديا من جنود الله تتصرف وفق مشيئته، وترى الأشياء من خلال زاوية نظره، وتعزف عن القيام بالأشياء التي تغضبه أو تسيء لخليقته.
لكن مثل هذه الصلة لا تأتي هكذا طوعا من دون أي جهد من طرفنا. فالإنسان ضعيف وسريع السقوط في الكثير من الأوقات أما الخطيئة، عندما تمر النفس بلحظات من الضعف الروحي التي تؤدي إلى فتور الإيمان والابتعاد عن الله، أو عندما يسود الجسد ونبدأ في التراجع عن طاعتنا لله والتزاماتنا أمامه، أو عندما تتراجُع الإرادة وتفتر قوة المبادئ ويخفت أو يموت الوازع الخُلقي لأن «فلئِن وَقَعَ أحَدُكُم في الإغواءِ، فذلِكَ بِسَبَبِ ما في نَفسِهِ مِن أهواءٍ، تَقودُهُ فترميهِ في مَهاوي الأخطاءِ. فإذا استَسلَمتَ للإغراءَات، فإنّها ستَحبَلُ وتُنجِبُ الإثمَ، والإثمُ إذا ما كَبُرَ، وَلَّدَ الهَلاكَ!». (يعقوب 1: 14- 15). لذلك فربط الصلة بالله تتطلب جهادا متدرجا للنفس عبر مقاومة ارتكانها لسلطة الجسد، والتسامي بها إلى مقام الروح عبر المداومة على فحص الدوافع وضبط المشاعر والاستقامة والمداومة على الاستغفار والاستعداد المستمر للتوبة «لإنّ الّذينَ يَسيرونَ بأَهواءِ نُفوسِهِم لا يُفَكِّرونَ إلاّ بشُؤونِ النَّفسِ… إنّ الهَلاكَ المَحتومَ مَصيرُ السَّعي وَراءَ شَهَوات النَّفسِ… إنّ الّذينَ يُطيعونَ أنفُسَهُم الأمّارةَ بالسُّوءِ يَعجُزونَ عن إرضاءِ اللهِ… لأنّنا إذا اتَّبَعنا شَهَوات النَّفسِ هَلَكنا. ولكن إذا تَخَلَّصنا مِن شَهَواتِها وسَيِّئاتِها بفَضلِ رُوحِ اللهِ، أصبَحنا مِن الخالدِينَ.» (الرسالة إلى أهل روما 8: 5- 13).
لقد تكلمت عن التدرج في جهاد النفس لربط الصلة مع الله بشكل مستدام، لأننا علينا كبشر وكمؤمنين أيضا أن نعرف أننا مهما فعلنا فلن نصل في قربنا من الله إلى القدر المطلوب أو القدر الذي نريده نحن. والسبب كما أسلفت هو ضعفنا البشري الذي خبره أيضا الأنبياء ورجال الله قبلنا وظلوا يقاومونه. وهذا ليس بالشيء الذي يثنينا عن السمو إلى مراتب الصلة بالله، بل عكس ذلك سيظل حافزنا الدائم لبناء العلاقة الكاملة مع الله التي سوف تتحقق حين نجد أنفسنا معه في المجد. فبولس الرسول نفسه، الذي بنى صلة قوية بالله وبلغ في ذلك مرتبة لم يبلغها إلا نذرة من المؤمنين بعده، ظل طوال حياته يتشوق إلى صلة أكثر قربا وقوة وحميمية بالله حيث يقول عن ذلك: «إِوأنا على يَقينٍ أنّ هذا كُلُّهُ لا يُساوي شَيئًا مُقارنةً بالكَنزِ العَظيمِ، ألا وهو مَعرِفةُ مَولاي عيسى المَسيحِ! وأنا مِن أجلِهِ ألقَيتُ بكُلِّ الأشياءِ، وهي في ناظِريّ مُجَرَّدُ كُناسةٍ، وذلِكَ حَتّى أحظى بِقُربِهِ (سلامُهُ علينا)، فلَستُ مَرضيًا عِند اللهِ على أساسِ انتِمائي إلى أهلِ التَّوراةِ، بل على أساسِ ثِقَتي بِسَيِّدِنا المَسيحِ، لأنّ اللهَ رَضِيَ عنّي بِناءً على يَقيني وثِقَتي في السَّيِّدِ المَسيحِ.» (الرسالة إلى أهل فيلبي 3: 8-9). فمهما بلغت قوة صلتنا بالله وقربنا منه تعالى، فسوف يكون في الإمكان دائما بلوغ درجة اقتراب أكثر وربط صلة أمتن وأقوى، بل حتى في المجد السماوي ستكون لدينا الأبدية بجلالها ولا نهائيتها لكي نتسامى أكثر فأكثر في صلتنا به عز وجل.