عشاق الله

القوة جميعا لله

نادر عبد الأمير

لقد وضح عبر التاريخ وتعاقب الدول والعصور أن القوّة البشرية التي كثيرا ما نتباهى ونغتر بها، كقوى الجسد والعقل البشريين، والقوى العسكرية، والقوى الصناعية، والعمران، وغير ذلك من مظاهر القوة ما هي إلا برق خُلّب، هياكل سريعة الانهيار والزوال، تماما كما يزول الإنسان بين عشية وضحاها ويوارى قبره بعد طول عز ومجد. لا نحتاج هنا لضرب أية أمثلة عن ذلك. يكفي ما خطته أقلام المؤرخين عن صعود الدول وهبوطها وارتفاع أسوار المدن وانهيارها وتعاقب السلالات واحدة على أنقاض الأخرى. كما يكفي برهانا على ذلك ما نشاهده اليوم من قدرة فايروس صغير جدا لا يرى بالعين المجردة على تدويخ أعتى أنظمة العالم وتهديدها بالفناء والزوال، ونرى كيف أعلن العالم بأسره حاولة طوارئ غير مسبوقة في تاريخ البشرية خوفا من تغلغل الفايروس وقضائه على الجنس البشري. هذا الخوف من الكوفيد 19 أعاد الإنسان فجأة إلى حجمه الطبيعي كمخلوق ضعيف جدا، كما اعاد إلى الأذهان الإحساس الذي كان يشعر به الإنسان البدائي في مواجهة الحياة أي الإحساس بالضآلة أمام قوى الطبيعة والماوراء.

والكتاب المقدس لا يفتأ يعلمنا الدروس تلو الدروس عن عدم الاغترار بمظاهر القوة البشرية، ومحاولة الاعتماد بشكل مطلق عليها بل والتباهي بها. وما قصة برج بابل في الكتاب المقدس إلا تذكير من الله للإنسان بضعفه وقلة حيلته. فعمق القصة يكمن في رمزيتها الرائعة التي تنسحب على كل الناس فرادى ومجتمعات من حيث أن البرج رمز لإثبات المنعة والقوة وأيضا التباهي بالقدرة على الارتقاء إلى السماء اعتمادا على القوى البشرية، بعبارة أخرى رمز لتناسي الضعف البشري وتحدي الخالق الجدير بكل مجد وقوة. والنتيجة أن الله تعالى تطلع من عليائه هازئا بغرور الإنسان وبضربة واحدة أجهض كبرياءه وفرق شمله على الأرض:

قالوا:‏ «هَيَّا نَبْني لِأنفُسِنا مَدينَة وبُرجًا يَصِلُ رَأسُهُ إلى السَّماء.‏ فيَصيرُ اسْمُنا مَشهورًا ولا نَتَفَرَّقُ في كُلِّ الأرض».‏ فنَزَلَ يَهْوَه لِيَرى المَدينَة والبُرجَ اللَّذَيْنِ كانَ النَّاسُ يَبْنونَهُما.‏ فقالَ يَهْوَه:‏ «إنَّهُم شَعبٌ واحِدٌ يَتَكَلَّمُ لُغَة واحِدَة،‏ وما يَفعَلونَهُ لَيسَ إلَّا البِدايَة.‏ فالآن لن يَصعُبَ علَيهِم أيُّ شَيءٍ يَنْوونَ أن يَفعَلوه.‏ فلْنَنزِلْ ونَجعَلْهُم يَتَكَلَّمونَ لُغاتٍ مُختَلِفَة كَي لا يَفهَمَ أيٌّ مِنهُم لُغَةَ الآخَر».‏ وهكَذا فَرَّقَهُم يَهْوَه مِن هُناك في كُلِّ الأرض،‏ فتَوَقَّفوا عن بِناءِ المَدينَة.‏ لِذلِك سُمِّيَت «بَابِل»، لِأنَّ يَهْوَه هُناك جَعَلَ كُلَّ سُكَّانِ الأرضِ يَتَكَلَّمونَ لُغاتٍ مُختَلِفَة،‏ وفَرَّقَهُم يَهْوَه مِن هُناك في كُلِّ الأرض.‏ (سفر التكوين 11: 1-9)

كما أن لنا في سيدنا عيسى المسيح عبرة عظيمة عن محاولة الشيطان إغواء الإنسان بالاعتماد على القوة البشرية والتباهي بها. فقد حاول بأساليب عديدة أن يحول نظر سيدنا عيسى عن رسالته التي جاء بها للعالم، وذلك بلفت نظره لبريق السلطة السياسية ممثلة في ممالك العالم التي وهبها له ليغريه بها، لكن مسعاه فشل كما نقرأ في إنجيل متى:

ثُمّ اقتادَ إبليسُ عيسى (سلامُهُ علينا) إلى قِمّةِ جَبَلٍ عالٍ وأراهُ كُلَّ مَمالكِ الدُّنيا وبَهاءَها، وقالَ لهُ: "سيَكونُ ذلكَ رَهنَ يَديكَ شَرطَ أن تَركَعَ وتَسجُدَ لي". فقالَ لهُ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا): "إليكَ عنّي أيُّها الشَّيطانُ، لقد جاءَ في التّوراةِ: "اُسجُد للهِ رَبِّكَ، وكُن لهُ وَحدَهُ مِن العابِدينَ". وعِندئذٍ ابتَعَدَ عَنهُ إبليسُ وحَلَّت الملائكةُ مَحلَّهُ وقامَت على خِدمتِهِ. (متى 4: 6-11)

والعبرة هنا أن القوة جميعا لله. فمتى وضعنا الله بقوة مشيئته وجلاله أمام أعيننا كلما خطر في ذهننا أو لاح لنا مظهر من مظاهر القوة البشرية وذكرنا عظمته تعالى عوض الانجراف وراء تمجيد ما هو زائل فسيمنحنا تعالى بركاته وقوته التي هي القوة الحقيقية. إن قوتنا في الله تعالى من خلال سيدنا عيسى المسيح الذي تحدى قوة العالم وقوة الموت. ومن الله تعالى وبواسطة مسيحه الذي اشترانا بدمه نستمد العون والثبات في لحظات الضعف والخوف والظلم والمرض. وخير ختام هو قول صاحب المزمور "يَتَّكِلُ هَؤُلاَءِ عَلَى مَرْكَبَاتِ الْحَرْبِ، وَأُولَئِكَ عَلَى الْخَيْلِ. أَمَّا نَحْنُ فَنَتَّكِلُ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ إِلَهِنَا. هُمْ خَرُّوا وَسَقَطُوا، أَمَّا نَحْنُ فَنَهَضْنَا وَانْتَصَبْنَا. خَلِّصْ يَارَبُّ! لِيَسْتَجِبِ الْمَلِكُ حِينَ نَدْعُوهُ." (20: 7- 9)