عشاق الله

الصيام والحرية

نادر عبد الأمير

تعني الحريةُ في اللغةِ التخلص مِن العبودية والخضوع والاسترقاق، فأن يكون الإنسان حرا معناه أنه غيرُ مملوكٍ لأحد ولا رهينة لأحد. كما تعني الانعتاق مِن القيودِ وكل أشكال العيش بين جدران أي سجن مادي أو معنوي، أو تحت رحمة بشر آخر أو جهة من الجهات.
ولقد جاءت الديانات فحاولت تحرير الإنسان من قيوده، وإنقاذه مِن سيطرة جبابرة الأرض. وما من أحد من إخواننا المسلمين إلا ويحفظ قول عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص (وفي ذلك قصة لا مجال لذكرها الآن): "متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتْهم أمهاتُهم أحرارًا؟"، قال ذلك قرونا قبل أن تنصُّ الأمم المتحدة على نفس المبدأ في ميثاقها: "الناس يزدادون أحرارًا مُتساوِين، وأيضا الآية القرآنية المعروفة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ (سورة الحجرات: ١٣) وبذلك نفى الإسلام الفروق البشرية الموجبة لخضوع البعض للبعض الآخر وجعل تقوى الله أي الخضوع لله وحده هي السمة المميزة بين البشر.
ولأننا في شهر رمضان الكريم، شهر الصوم والعبادة والتقرب لله لدى إخواننا المسلمين، فيجدر بنا التذكر معهم أن الصوم ليس فقط الإمساك عن الطعام والشرب وشهوات البطن والفرج لمجرد القيام بشعيرة دينية، بل إن الصوم شرع ليتسامى الإنسان بإيمانه على قيود ضرورات العيش التي تستعبده، فلا يعود يشغَلُه طعامٌ ولا شهوةٌ. فالصوم بهذا المعنى تربية للإنسان على التخلص مِن قيود الضرورة التي تأسِرُه، فنحن نرى يوميا حولنا كيف أن الكثير من الناس تأسِرُهم العادات السيئة والشهوات بكافة أشكالها، لا يستطيعون التخلص منها، كمَن يتعاطون المُخَدِّرات والمُسْكِرات، أو الحب الشره للمشروبات والمأكولات، أو غيرها من العادات السيئة والشهوات فتسلبهم عقولهم وإرادتهم وكرامتهم. وبهذا المعنى يكون الصوم تربية على الحرية وإقرارا بأن العبودية لله وحده.

فسيدنا عيسى المسيح قد سبق وأعطانا القدوة المثلى للصوم المقبول

وبالنسبة لنا كمؤمنين بالسيد المسيح، فنحن أيضا إذا صمنا فإننا نصوم على مثال صوم المسيح الذي صامه، فسيدنا عيسى المسيح قد سبق وأعطانا القدوة المثلى للصوم المقبول الذي اقترن في حياة  سيد المجد بالنصر على الجسد وتحقيق الحرية الحقيقية. ففي إنجيل متى تعرفنا على قصة صومه المتواصل أربعين يوما دون أكل وشرب، وفي تمامها عندما أحس بالجوع تقدم منه إبليس الذي يمثل شهوات الجسد وقال له:«أنتَ الابنُ الرُّوحيُّ للهِ، قُل لهذِهِ الحِجارةَ فتَصيرَ خُبزًا تَرُدَّ بِهِ الجوعَ عنكَ». فأجابَهُ (سلامُهُ علينا) قائلاً: «جاءَ في التَّوراةِ: «لَيسَ بالخُبزِ وَحدَهُ يَحيا الإنسانُ، بل بطاعتِهِ لكُلِّ أمرٍ جاءَ مِن عِندِهِ تَعالى»».(متى ٤: ٤،٣).قال ذلك لأنه يعرف أن المعصية تسيطر من خلال شهوات الجسد الطبيعية والضرورية للحياة اليومية فتنحرف بمجرى الحياة وتفتك بالإنسان. ولهذا أيضا أوصانا بولس الرسول في الرسالة إلى أهل روما قائلا: «ولهذا، لا تَترُكوا الخَطايا تَتَسَلَّطُ عليكُم ولا تَخضَعوا للشَّهَواتِ.» (الرسالة إلى أهل روما ٦: ١٢
من هنا نرى كيف أن الشهوات قابلة لأن تتحول إلى نيران تحرق الإنسان حيث يدخل في صراع يومي لإشباع شهواته من أكل وشرب وجنس وراحة وتكاسل... الخ. ويصبح الجسد طاغية جبارا يستعبد الإنسان ويستغل كل إمكانياته وطاقاته لتحقيق رغائبه. وهنا أيضا يأتي الصوم ليضع الجسد في موقعه الحقيقي ويجعله من خلال سيطرة الروح القدس خادمًا لخلاص الإنسان، لا العكس. وليس أبلغ من نصيحة الرسول بولس كذلك في هذا المجال لأهل روما «إخوَتي في اللهِ، بِناءً على ما ذَكَرتُ لكُم عن رَحمةِ اللهِ لنا، أَتَوَسَّلُ إليكُم أن تُقَدِّموا ذَواتِكُم لَهُ. وإنّ هذا التَّقديمَ قُربانٌ حَيٌّ طاهِرٌ تَنالونَ بِهِ مَرضاتَهُ تَعالى، فيَكونُ هذا عِبادةً حَقًّا لهُ. واحذَروا أن تُقَلِّدوا ما اعتادَ عليهِ أهلُ الدُّنيا، واقبلوا أن يُطَهِّرَ اللهُ ما تُفَكِّرِونَ فيهِ، فتَتَمَكَّنوا مِن مَعرِفَةِ ما يُرضي اللهَ، مَعرِفةِ الأَعمالِ الصّالِحةِ الكامِلةِ.» (الرسالة إلى أهل روما  ١٢: ٢،١)
فنحن بهذا كأتباع للسيد المسيح، وبالصوم والعبادة والصلاة مع الانقطاع لفترة عن الطعام والشرب والشهوات نضع أجسادنا خداما للروح وسبيلا للحرية الحقيقية والخلاص.