عشاق الله

تأملات في الحق والحرية

نادر عبد الأمير

من الأقوال المشهورة لسيدنا عيسى المسيح قوله: "أنا هو نورُ العالَمِ، مَن يَتبَعُني فلا يَمشِي في الظُّلُماتِ، لأنِّي سأُنعِمُ عليهِ بنورِ الحَياةِ" (يوحنا 8: 12-16). وقد أشار سيدنا عيسى بكلماته هذه أن الإنسان سائر في ظلمة روحية دامسة وأنه محتاج جدا إلى النور الموجود فيه أي في السيد المسيح. لكن رجال الدين المتشددين أي الفريسيين لم يقتنعوا بكلامه الصريح هذا وأجابوه قائلين: "إنّكَ تَشهَدُ لِنَفسِكَ وتِلكَ شَهادةٌ لا تَصُحُّ" (يوحنا 8: 13). (يسوع المسيح) فأجابَهُم (سلا مُهُ علينا): "مَعَ أنِّي أشهَدُ لنَفسي، فشَهادَتي حَقٌّ، لأنّي أعلَمُ مِن أَينَ جِئتُ وإلى أينَ أذهَبُ، أمّا أنتُم فتَجهَلونَ ذلِكَ. ١٤ وأحكامُكُم عليَّ مَحدودةٌ بمَقاييسِ البَشَرِ. لَيسَ لي أن أحكُمَ على أحَدٍ، ١٥ وإذا حَكَمتُ فحُكمي صَحيحٌ لأنِّي لا أحكُمُ وَحدي، بل أحكُمُ أنا والوَليُّ الَّذي أرسَلَني. ١٦ وقد جاءَ عِندَكُم في التّوراةِ أنّ الشَّهادةَ لا تَصُحُّ إلاّ بشاهِدَينِ، ١٧ وها إنّ الوَليَّ الّذي أرسَلَني يَشهَدُ لي، كَما أشهَدُ لِنَفسي". ١٨ فقالوا لهُ: "وأينَ وَليُّكَ؟" فأجابَهُم (سلامُهُ علينا): "أنتُم إيّايَ تَجهَلونَ، لذلِكَ تَجهَلونَ وَلِيِّي أيضًا. ولو أنّكُم عَرَفتُم حَقيقَتي لعَرَفتُم مَن هُوَ وَلِيِّي". (يوحنا 8: 14-19)

كان هذا الكلام شديد اللهجة. وكان معاصرو السيد المسيح بحاجة إلى سماعه لأنهم طالما خدعوا أنفسهم متوهمين أنهم بخير من الناحية الروحية لمجرّد انحدارهم من صلب إبراهيم وإسحق. لكن حرارة وصدق هذه التعاليم التي نطق بها سيدنا عيسى جعلت العديدين يؤمنون بها. لذلك قال سيدنا عيسى أيضا للذين آمنوا به قولته المشهورة الأخرى: "أنتُم حَقًّا أتباعي إن تَمَسَّكتُم بتَعاليمي، وستَعرِفونَ الحَقَّ، والحقُّ يُحرِّرُكُم." (يوحنا 8: 31-32) وكان من المنتظر أن جميع الذين سمعوا هذه الكلمات سيرحبون بها لكونها مبنية على الحق، ولأنها أشارت إلى أهم موضوع في العالم ألا وهو الحرية من سلطان الشيطان وعبودية الخطيئة الكامنة في الطبيعة البشرية. لكن للأسف كان العديد ممن كانوا قد آمنوا بالمسيح إنما آمنوا به بشكل سطحي. فانتهوا إلى رفض تعليمه هذا عن الحرّية قائلين: "إنّنا أحفادُ النَّبيِّ إبراهيمَ، فكَيفَ تَقولُ إنّنا سنُصبِحُ أحرارًا ولم نَكُن في يومٍ مِنَ الأيّامِ عَبيدًا لأحَدٍ؟!" (يوحنا 8: 33)

يبدو أن بني إسرائيل حين قالوا أنهم لم يستعبدوا قط قد نسوا أن آباءهم استعبدهم فرعون والآشوريون والبابليون وغيرهم وأنهم كانوا في تلك الأيام يرزحون تحت نير الاستعمار الروماني. مع ذلك لم يكن المسيح يتكلم عن الاستعباد بمفهومه السياسي أو الجغرافي بل كان يتكلم عن نوع من الاستعمار والاستعباد أشد من العبودية التي رزح تحتها بنو اسرائيل في الماضي. لذلك استطرد قائلاً لهم:

"االحقَّ أقُولُ لكُم: الإنسانُ عَبدٌ للخَطيئةِ الّتي يَرتكِبُها، وكَما يَبقى ابنُ السّيّدِ في دارِ أبيهِ، في حينِ لا يَحقُّ للعَبدِ أن يَبقى في هذِهِ الدّارِ، كذلِكَ أنتُم، يا عَبيدَ الخَطايا والمَعاصي، لَيسَ لكُم بَقاءٌ في الدّارِ الأبَديّةِ. أمّا أنا، فأحظى بمَقامِ ابنِ البَيتِ، وأملِكُ حقَّ التَّصَرُّفِ بتِلكَ الدّارِ الأبَديّةِ، وإن حَرَّرتُكُم أنا بسُلطاني، تَكونونَ في الحَقيقةِ أحرارًا." (يوحنا 8: 34-38)

لم يكتف السيد المسيح هنا بالحديث عن الداء بل أعطى الدواء الفعال قائلاً: " وإن حَرَّرتُكُم أنا بسُلطاني، تَكونونَ في الحَقيقةِ أحرارًا." (يوحنا 8: 36) لأن ما من حرية إلا في المسيح وبالمسيح. هذه هي الحرية الحقيقية التي يختبرها جميع من آمنوا حقا بسيدنا عيسى المسيح وثبتوا في كلامه الصريح الصادق. إنه التحرّر من سلطان الخطيئة الكامنة في نفس كل انسان. فهل نحن في هذا العصر المادي الرازح تحت نير كل أنواع البلايا والخطايا مستعدون أيضا لاختبار الحرية الحقيقية التي تكلّم عنها سيدنا عيسى المسيح ؟ إن كل من حرّره السيد المسيح يصبح بحق حرّا طليقا من أهواء العالم المادي ومن النفس الأمارة ويعطي حياته لخدمة الله وإخوته بني البشر ويعمل على نشر أسباب الحرية والصلاح والخير، وهذا عين ما نحن بحاجة ماسة إليه اليوم أفرادا وشعوبا.