عشاق الله

المسيح صلة الوصل مع ميراث أبينا إبراهيم

إعداد: نادر عبد الأمير

توطئة

أطاع النبي إبراهيم الله مرات عديدة خلال مسيرته مع الله، لكن لم يتعرض لامتحان أصعب من ذلك المذكور في سفر التكوين 22. لقد أمره الله قائلا: "خذ إبنك وحيدك، الذي تحبه، إسحق، وإذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة" (تكوين 22: 2). كان هذا أمرا مذهلا، لأن إسحق كان هو ابن الوعد. فكيف استجاب إبراهيم؟ كانت طاعته طاعة فورية؛ إذ باكراً في صباح اليوم التالي، بدأ رحلته مع خادميه وحمار وإبنه إسحق وحمل معه خشباً للمحرقة. إن طاعة إبراهيم لأمر الله غريبة دون جدال، تمجد الله تمجيدا من خلالها. وهي أيضا مثال لنا عن كيفية تمجيد الله.

حين نطيع الله كما أطاعه إبراهيم، واثقين من أن خطة الله هي أفضل الخطط الممكنة، فإننا نمجد صفاته العظيمة. فطاعة إبراهيم لأمر الله الذي بدا صعبا جدا قد رفّع محبة الله السامية، وأظهر أن الله يمكن الوثوق به، وبصلاحه، كما أعطانا مثالاً نحتذي به. كما أن إيمان إبراهيم جعله بطلا من أبطال الإيمان الذين ذكرتهم الرسالة إلى العبرانيين 11.

يستخدم الله إيمان إبراهيم مثالا لكل الذين جاءوا بعده على أنه الطريق الوحيد للخلاص. يقول تكوين 15: 6 "فآمن بالرب فحسب له براً". إن هذه الحقيقة بالذات هي أساس الإيمان المسيحي كما هو مكتوب في رسالة رومية 4: 3 ويعقوب 2: 23. فالبر الذي حسب لإبراهيم هو نفس البر الذي يحسب لنا حين نقبل بالإيمان الذبيحة التي قدمها الله لخلاصنا – والتي تتمثل في سيدنا عيسى المسيح. "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (رسالة كورنثوس الثانية 5: 21).

قصة ابراهيم في العهد القديم هي الأساس للعهد الجديد

إن قصة إبراهيم في العهد القديم هي الأساس التعليمي للعهد الجديد عن الفداء والذبيحة التي قدمها سيدنا عيسى المسيح على الصليب من أجل خلاص العالم. وبعد مئات السنين من ذلك قال سيدنا عيسى المسيح: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يوحنا 8: 56). لم يرَ إبراهيم المسيح فقط بالرجاء، كما لم يرَه بالإِيمان فقط، لكن إنما رآه في الجسد، عندما قطع معه العهد، وأيضا رآه عندما جاء إلى بيته ضيفاً ومعه اثنان من الملائكة، ورآه رمزاً يوم نية ذبح إسحق، في الكبش الذي افتداه. هكذا رأى إبراهيم المسيح، وفرح وتهلل، لأنه رأى فيه خلاص البشرية وخلاص نفسه، ففرح بالخلاص وتهلل بالفداء من خلال التضحية والكفارة. غضب اليهود من المسيح عندما قال إنه موجود قبل وجود إبراهيم، لإنه بذلك يعني أنه أزلي. فرفعوا الحجارة ليرجموه.. يا للتناقض..إنهم يقولون أنهم أولاد إبراهيم لكنهم لا يؤمنون كما آمن إبراهيم، فإبراهيم آمن وخلص، وكل الذين "قبلوا المسيح أعطاهم اللّه سلطاناً أن يصيروا أولاد اللّه، أي المؤمنون باسمه" (يوحنا 1:12) يتحدث الرسول بولس في الإصحاح الرابع من رسالته إلى كنيسة روما عن إبراهيم، فيقول إنه قد تبرر بإيمانه (رومية 4:1 - 3). والتبرير هنا هو البراءة من الخطية ومن أجرة الخطية. تبرر إبراهيم من الخطية ومن أجرتها بواسطة الإِيمان. وجد التبرير بالإِيمان بالقلب وليس بعمل الجسد. لأنه إنْ كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله الفخر، وكل من يتبرر بالأعمال يقدر أن يفتخر لأنه نال الخلاص بقوته وصلاحه وتقواه، مع أن الرب يقول: "لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ"(رومية 3:12). لكن إبراهيم نال البراءة بالإِيمان وحده فقط. آمن إبراهيم باللّه فحُسب له إيمانه براً. حسب اللّه إبراهيم باراً، واعتبره باراً، وعامله معاملة الأبرار، كل ذلك لأنه وضع ثقته في اللّه وآمن. فالخلاص ليس بالأعمال كي لا يفتخر أحد (أفسس 2:9) يمضي بولس ويقول إن إبراهيم كان ابن مئة سنة عندما ولد إسحق. كل الظروف كانت تظهر أن ولادة إسحق مستحيلة. كانت سارة عجوزاً في التسعين، وكان هو رجلا في المئة. وكان رحم سارة طبعا عاجزاً عن حمل الحياة، حتى قالت هي: "أَبَعْد فنائي يكون لي بنين؟". لكن إبراهيم على خلاف البشر آمن على رجاء الوعد الإِلهي أن يصير أباً لأمم كثيرة. وصدَّق كلمة اللّه، وتيقَّن أن ما وعد اللّه به هو قادر على أن يفعله أيضاً (رومية 4:21). لهذا أقام اللّه حياة من ميت. ومن رحم سارة وُلد إسحق. نحن نؤمن أن اللّه أقام يسوع المسيح من الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وقام من الأموات لأجل تبريرنا (رومية 4:25). وكل من يؤمن بقيامة المسيح يحسب له اللّه إيمانه براً، كما حسب إيمان إبراهيم له براً. يتحدث بولس أيضا في الإِنجيل في رسالته إلى أهل غلاطية (3:6 - 14) عن كون المؤمنين أولاد إبراهيم. المؤمنون هم نسل إبراهيم الروحي، وهم ينالون البركة التي نالها إبراهيم حسب الوعد الإِلهي لإِبراهيم: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض، وأيضاً إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض. إذاً الذين هم من الإِيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن«. لقد قال السيد المسيح: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَات" (متى 8:11). وكل من يقبل المسيح المخلص يصبح ابناً لإِبراهيم المؤمن، وينال التبرير الذي ناله إبراهيم، لأن البار بالإِيمان سيحيا.

 

تقابلات بين حدث ذبيحة إسحاق وكفارة السيد المسيح:

  • "خذ إبنك وحيدك إسحق" (الآية 2)؛ "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد..."(يوحنا 3: 16).
  • "إذهب إلى أرض المريا. وهناك قدمه..." (الآية 2)؛ من المعروف أن هذا هو المكان الذي بنيت فيه مدينة أورشليم بعد سنوات عديدة، حيث تم صلب المسيح خارج أسوار تلك المدينة (عبرانيين 13: 12).
  • "قدمه هناك كمحرقة" (الآية 2)؛ "المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب" (كورنثوس الأولى 15: 3).
  • "أخذ إبراهيم خشباً للمحرقة ووضعه على إبنه إسحق" (الآية 6)؛ يسوع، "حمل صليبه..." (يوحنا 19: 17).
  • "ولكن أين الحمل للمحرقة؟" (الآية 7)؛ قال يوحنا: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم!" (يوحنا 1: 29).
  • إسحق، الإبن، كان مطيعاً لأبيه بأن صار الذبيحة (الآية 9)؛ صلى يسوع: "يا أبتاه، إن أردت، أن تجيز عني هذه الكأس. لكن لتكن لا إرادتي، بل إرادتك" (متى 26: 39).
  • القيامة – إسحق (بشكل مجازي) ويسوع فعلياً: "بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب. قدم الذي قبل المواعيد، وحيده الذي قيل له، إنه بإسحق يدعى لك نسل. إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً الذين منهم أيضاً أخذه في مثال" (عبرانيين 11: 17-19). يسوع "دفن، وقام في اليوم الثالث حسب الكتب" (كورنثوس الأولى 15: 4).

 

ملكي صادق كرمز للسيد المسيح

حين تحدث الرسول بولس مع المسيحيين من أصل عبراني في الرسالة للعبرانيين، فإن ذلك لم يكن ليواسيهم فيما فقدوه من امتيازات بقبولهم الإيمان المسيحي، ولكن ليعلن لهم ما تمتعوا به هو شيء عظيم جدا، مقارنًا بين السيد المسيح في شخصه وخدمته بالملائكة وخدمتهم للآباء القدامى. لقد أراد أن يقارن بينه وبين إبراهيم رجل الإيمان وأب الآباء، مقتطفًا جزءًا غامضًا تمامًا وهو لقاؤه بملكي صادق وخضوعه له وتقديم العشور له. فإذا كان إبراهيم قد حمل في صُلبه كل أمة اليهود بما فيها سبط لاوي الذي منه تخرج هرون والكهنة، فإنه قد تصاغر جدًا أمام ملكي صادق، الذي كان رمزًا عظيما للسيد المسيح. فقد وردت قصة ملكي صادق في سفر التكوين (ص ١٤) الملك والكاهن، الذي استقبله إبراهيم بعد انتصاره على الملوك في كدرلعومر وإنقاذ لوط ابن أخته، حيث قدم إبراهيم العشور لملكي صادق الذي قدم ذبيحة غريبة من الخبز والخمر. هذه القصة لا تزال لغزًا لدى اليهود ولا يعرفون له تفسيرًا، إذ كيف يقدم أب الآباء إبراهيم الذي من صلبه كهنوت لاوي العشور لرجلٍ غريبٍ؟ وما سر ظهور هذا الملك والكاهن في الكتاب المقدس واختفائه فجأة دون أن يعرف أحد أباه أو أمه أو نسبه؟ لماذا لم يقدم ذبيحة دموية كما كانت العادة في ذلك الزمان؟ أسئلة لم يجد لها اليهود إجابة، لكن الرسول يكشف سرها بإعلانه أن ملكي صادق هو رمز للسيد المسيح وقد فاق شخص إبراهيم الحامل للكهنوت في صلبه. كان رمز السيد المسيح أسمى حتى من إبراهيم الذي نال المواعيد. فتقديم العشور له يعني أن أبانا إبراهيم يطلب بركته، أو بمعنى آخر ملكي صادق يبارك إبراهيم الذي له المواعيد. مدهش حقا أن إبراهيم الذي يتقبل العشور في شخص من هو من صلبه - لاوي - يدفع العشور لملكي صادق الغريب. وكأن الكهنوت اللاوي نفسه الذي يتقبل العشور والتقدمات قد انحنى في شخص إبراهيم لمن هو رمز لشخص السيد المسيح، رئيس الكهنة السماوي الأعظم. لذلك فأوجه الرمز التي حملها ملكي صادق هي كالتالي:

  1. من جهة الاسم يسمى "ملكي صادق" التي تعني لغويًا "ملك البرّ"، إشارة إلى سيدنا عيسى المسيح الذي يملك في القلوب ببرّه؛ يتربع في النفس فيخفيها فيه لتظهر في عيني الآب حاملة برّه. بعبارة أخرى حين يملك السيد المسيح على الإنسان روحيًا تختفي جميع ضعفاته ونقائصه، ويتجلى السيد المسيح ببرّه وبهائه! حيث يقول الرسول بولس: "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" رومية 3: 24
  2. من جهة العمل فهو "ملك ساليم" أي ملك السلام، والسيد المسيح قد ملك في كنيسته واهبًا للمؤمنين سلامًا مع الآب وسلامًا مع إخوتهم وسلامًا مع أنفسهم. تصالح البشر مع السماء، وتصالحوا مع بعضهم البعض، بل وتمت المصالحة داخل الإنسان نفسه: بين النفس والجسد حيث صار جميع ما في الإنسان روحيًا، وسالكا بروحٍ واحد. إن السيد المسيح هو حقا ملك ساليم الحقيقي، يمتد سلامه إلى كل مستوى. ألم يختم السيد المسيح حديثه الوداعي مع تلاميذه قبل القبض عليه ليعلن أن غاية كلامه هو تمتعهم بالسلام فيه: "قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام. في العالم سيكون ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا 16: 33). ويعلق القديس أغسطينوس على هذا الكلام الإلهي قائلا: "لقد قدم هذا كغاية لحديثه حتى يجدوا فيه السلام، وذلك كما أننا نحن أيضًا مسيحيون بهذا الهدف... فهذا السلام هو غاية كل نية وكل تقوى، نمارسه في الوقت الحاضر. فمن أجل السلام في السيد المسيح ننعم بسرائره، ونتثقف بأعماله وكلماته، ونتقبل غيرة الروح، ومن أجله نؤمن به ونترجاه..."
  3. قد رأينا في مقدمة الإصحاح الأول أن انشقاقًا حدث في العهد القديم بين النبوة والكهنوت، أو بمعنى أدق بين الأنبياء والكهنة، إذ لم يستطع هؤلاء الأخيرون قبول كلمة الحق، مكتفين بممارسة الطقوس التعبدية في شكليتها بلا روح، لكن جاء السيد الحق ذاته والكاهن الأعظم، حاملا النبوة في كمال فائق وفريد مع الكهنوت السماوي، مصالحًا المعرفة مع العبادة والحقيقة مع الطقوس! هنا أيضًا يجمع السيد بين كونه ملكا وكونه كاهنا، فهو ملك البرّ والسلام في نفس الوقت الكاهن الأبدي على رتبة ملكي صادق ، فهو الملك والكاهن في نفس الوقت، وعمله كملك لا يمكن فصله عن عمله الكهنوتي. ففيما هو يملك على القلب خلال ذبيحته الفريدة، يقدم هذه الذبيحة كرئيس الكهنة السماوي.
  4. لم يذكر الكتاب شيئًا عن أب ملكي صادق أو أمه أو نسبه. وكأنه يحمل رمزًا لمن هو بلا بداية ولا نهاية. فالسيد المسيح سرمدي بحق ليس من صلب بشر.
  5. ذبيحة ملكي صادق من خبز وخمر لا معنى لها إلا عبر كونها رمزًا لذبيحة جسد السيد المسيح ودمه، حيث قام السيد نفسه بتحويل الخبز والخمر. يقول القديس چيروم مخاطبًا السيد المسيح: "أنت كاهن ليس بتقديم ذبائح يهودية بل بالأحرى على طقس ملكي صادق. فكما أن ملكي صادق، ملك ساليم، قدم خبزًا وخمرًا قدمت أنت هكذا جسدك ودمك، الخبز الحقيقي والخمر الحقيقي. هذا هو ملكي صادق الذي لنا، والذي وهبنا الذبيحة الإلهية. إنه هو الذي قال: "من يأكل جسدي ويشرب دمي" (يوحنا 6: 55)"

 

التبرير ببر المسيح

"أما البار فبالإيمان يحيا" (رومية 1: 17). لقد أوضح الرسول بولس ما قصده بهذه الآية حين قال: «وأما الآن فقد ظهر برّ الله بدون الناموس مشهوداً له مِن الناموس والأنبياء. بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون» (الرسالة إلى أهل رومية 3: 21 و22)

إن الله سبحانه يُبرّر الإنسان الناقص ببر المسيح، وهذا التبرير ليس له علاقة بما يقوم به الإنسان من أعمال بر. بل إنه هبة مجانية يبررنا بها الله لأنه فقط يحبنا وليس لأي صلاح نعمله. وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس إذ نقرأ في سفر إشعياء 64: 6 «وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدَّة كل أعمال برنا». معنى ذلك أننا مهما فعلنا من أعمال صالحة أو قمنا بأشياء صالحة فهي إذا ما قارناها بقدسية الله ليست سوى نجاسة. ينبغي أن تكون أعمالنا الصالحة هي ثمرة إيماننا بالله عزَّ وجل. فمهما بذلنا من جهد شخصي لكي نرضي الله، لن ننال البر الكامل لأن البر هو هبة مجانية لنا نحصل عليه بمجرد أن نقبل كفـَّارة المسيح من أجلنا.

وما أن يدرك المؤمنون المُصلحون هذه الحقيقة العجيبة حتى يشعروا بالانفراج. لقد قال مارتن لوثر، رائد الإصلاح، مُعقـِّباً على هذا الاختبار: "شعرت وكأنني ولدتُ مِن جديد ودخلتُ الفردوس من أبواب جديدة فـُتحت أمامي". فقد اكتشف هذا الأمر نتيجة لإصغائه لكلام الكتاب المقدس دون أن يسمح لآرائه الشخصية المُسبَقة أن تحول بينه وبين ذلك الفهم والاكتشاف. إن فهمه الجديد لله قاده إلى علاقة جديدة معه، علاقة غير مؤسسة على نوع خاص من الأعمال أو الأسرار، بل مؤسسة بشكل كلي على كفـَّارة المسيح.

ولكن لنا أن نتساءل قائلين: "أليست أفعال الطاعة لمشيئة الله التي تتجلى في حياة المؤمن لها قيمة وثواب طالما أن باعثها هو الله وروحه؟" الحق أن أعمال الصلاح ضرورية في حياة المؤمن ولكنها في حد ذاتها لا تمنحنا التبرير، بل هي كما ذكرنا سابقاً ثمرة البر الذي يهبنا الله إياه بالمسيح. فبمجرَّد قبولنا المسيح، تتغيَّر حياتنا ونبتعد عن فعل الشر والرذيلة ونقوم بأفعال الخير والصلاح من خلال روح الله العامِل فينا. لهذا السبب يتعيَّن علينا ألا نخلط بين أعمال الصلاح وسبب تبريرنا - الموجود فقط في شخص السيد المسيح.

وهنا مربط الفرس: على الإنسان ألا يعمل كي ينال التبرير، بل عليه أن يؤمن ويثق بالمسيح كي ينال التبرير. إن الخلاص لا يكمن في قيامك بعمل ما بل يكمن فيما عُمِل لك. كما أنه لا علاقة له بما تمارسه أنت، بل بما تؤمن به. إلا أن الإيمان بدون أعمال باطل. إذ يقول الرسول يعقوب «فما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد أن له إيماناً ولكن ليس له أعمال. هل يقدر الإيمان أن يخلصه. إن كان أخ أو أخت عريانين ومُعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة. هكذا الإيمان ايضاً أن لم يكن له أعمال ميتٌ في ذاته» (يعقوب 2: 14-17)

يوضح الرسول بولس مبدأ التبرير بالإيمان في رومية 4 عبر الاستشهاد بمثالين من العهد القديم عن إبراهيم كما أسلفنا. فيقول عن إبراهيم: «فآمن إبراهيم بالله فحُسِبَ له براً» (رومية 4: 3، تكوين 15: 6). إننا نحتاج إلى أن نحصل على التبرير اليومي بالإيمان سواء أخطأنا عمداً وباختيارنا أو عفوياً وسهواً عنا. لهذا السبب صلى النبي إرميا قائلاً: «القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه» (ارمياء 17: 9). فلكي نحصل على التبرير الكامل يتعين أن نلتمس من روح الله القدوس أن يخرج من أعماقنا كل الخطايا حتى العفوية منها التي قد لا نفطن لها حتى يمحوها هي أيضاً. لكن يُحذر يوحنا قائلا: «إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يوحنا 1: 8 و 9)

 

معنى التبرير بالإيمان

التبرير بالإيمان حسب الكتاب المقدس هو برّ المسيح. إنه بر المسيح الكامل الذي يمكننا الحصول عليه من خلال إيماننا بالمسيح. إن العهد القديم يحتوي على الكثير من التفاصيل الخاصة بالطقوس والذبائح. وكان على كل مؤمن أن يُقدِّم ذبيحة فداء عن خطاياه، سواء كانت عمداً أم سهواً. فكانت الخطايا تنتقل رمزياً إلى الذبيحة التي يتم تقديمها أمام الله. وهذه العملية كانت ترمز وتشير إلى الذبيحة الكاملة التي لن تتم إلا بموت السيد المسيح على الصليب. فقد أوضح الأنبياء بأن ذنب المؤمن ينتقل إلى السيد المسيح النقي الطاهر الذي هو بلا عيب. عندئذ يلبس المؤمن ثوب برّ المسيح الكامل أي أن كمال المسيح وطهارته تـُحسب للمؤمن عند وقوفه ليُدان أمام الله. وهذا التبادل الرمزي باللبوس هو ما يُعلـِّمه الكتاب المقدس حول مبدأ التبرير بالإيمان. هذا هو المبدأ في العهد القديم، الذي أعاد شرحه الرسول بولس في العهد الجديد حين قال: «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه» (2 كورنثوس 5: 21). ومع ذلك فالتبرير بالإيمان يتضمن أكثر مِن مُجرَّد نقل الخطايا من المذنبين إلى البرئ. إنه يتضمن إعطاء القوة للتائب على تغيير الاخلاق وضبط السلوك.

 

دور الإنسان في عملية التبرير

دور الإنسان في عملية التبرير هو الإيمان بالسيد المسيح والتوبة عن كل الخطايا والمعاصي التي اقترفها. على كل واحد أن يقول: "يجب علي ألا أتأخر لحظة واحدة عن قبول الخلاص. فالمسيح مات وقام لأجل تبريري، وهو القادر على تخليصي الآن. وأنا أقبل الغفران الذي وعدني به". إن قبولنا للمسيح بديلا كاملا مُرسلا من قِبَل الله، هو أفضل تعبير عن إيماننا. واعترافنا بذنوبنا هو إعلان أن الله عادل وبلا لوم.

نعود نؤكد هنا أن التبرير لا يتم إلا بالإيمان بالمسيح وليس بطاعتنا للشريعة. إن التبرير يمنح المؤمن يقيناً على أنه قد تمَّ قبوله عند الله. إذ لا توجد خطة أخرى غير هذه يمكن للخاطئ أن ينال الحياة الأبدية بها. إن العهدين القديم والجديد يُعلــِّمان الشيء ذاته. فقد دُعي إبراهيم أباً لجميع المؤمنين، يهوداً وأمماً (انظر الرسالة إلى رومية 4)، على أساس التبرير الشامل المُوجَّه لكل الشعوب دونما تمييز.