عشاق الله

تأملات في ماهية الحياة

يتم تعريف الحياة بيولوجيا على أنها طاقة خفية تتجلى في عدد غير محدود من الأشكال والبنى، وتضمن النمو العضوي للكائنات الحية المختلفة، أما الموت فيتم تعريفه بيولوجيا أيضا على أنه الانسحاب الخفي لتلك الطاقة، مفسحا المجال للتحلل العضوي والاضمحلال والتلاشي والذوبان. وقد احتار العلماء من مختلف تخصصاتهم في كنه وخفاء وغموض تلك الطاقة عندما نظروا إليها من زاوية بشرية وطلبوا تفسيرا علميا ماديا لها. إلا أن أكثر التفاسير إقناعا تبقى هي تلك التي أتت بها الكتب السماوية، حيث نقرأ في سفر التكوين أن الله تعالى خلق آدم" ونفخ في انفه نسمة حياة " (سفر التكوين 2: 7 ). وهو المعنى الذي يقتبسه القرآن أيضا في سورة الحجر آية 29 "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي". ومفاد ذلك هو أن جذوة الأبدية المقتبسة من الذات الإلهية موجودة في داخل الإنسان.

  لذلك كثيرا ما ننظر إلى حياتنا اليومية ونستنكر أن يكون الهدف من وجودنا هو فقط هذا الوجود البيولوجي المحض: أكل، شرب، تمتع بملذات الحياة، تناسل، الخ... ونشعر في أعماق أعماقنا أن الهدف من وجودنا أسمى من ذلك بكثير. ربما لهذا السبب ذهبت كثير من الفلسفات والعقائد في بحثها عن الهدف الأسمى للحياة إلى النقيض من ذلك حيث نادت بالزهد في نعم الحياة المادية بل والعزوف عن الأكل والشرب إلا ما هو ضروري في حده الأدنى لبقاء الجسم حيا. لكن هل الحل حقا هو الذهاب من النقيض إلى النقيض؟ ألا يوجد طريق آخر يمارس فيه الإنسان وجوده واختياراته بشكل أكثر معقولية وانسجاما مع طبيعته البشرية. يخبرنا الكتاب أن الله أخذ "آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (سفر التكوين 3: 16-17) لم يوص الله آدم أن يزهد في متع جنة عدن بل أن يجربها جميعا إلا شجرة واحدة يوم يأكل منها تنقلب حياته إلى موت. إلا أن آدم عصى الله وأكل من الشجرة المحرمة فانتفت عنه صفة الحياة ولو أنه ظل يتنفس وينمو عضويا إلى حين.

يمكننا من خلال ذلك القول أن الحياة في الكتاب المقدس ليست هي الحياة بمعناها البيولوجي الصرف بل حياة الروح التي افتقدت مع هبوط آدم إلى الأرض، وأن حياة الجسد الملوث بالخطيئة ليست سوى موت مؤكد. لذلك ركز الإنجيل على مفهوم خطة الله لخلاص بني البشر من خلال موت السيد المسيح "كلمة الله" إنقاذا لهم من الاستمرار في العبودية للموت والخطيئة. كانت تلك مبادرة المحبة والخلاص من الله تعالى الذي جاء يبحث عن الإنسان ليعيده إلى حظيرته، كما يبحث الراعي الصالح عن الخروف الضال.
 
فمجيء المسيح كان لهذه الغاية " جئت لتكون لهم حياة " ، وهو نفسه قال: " لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي كذلك الابن أيضا يحيي من يشاء " ( يوحنا 5: 21 )، وقال أيضا قبيل  إقامته لعازر من بين الأموات "انا هو القيامة والحياة" ( يوحنا 11: 25 ) بل ذهب إلى القول بأنه معطي الحياة الأبدية: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وانا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها احد من يدي أنا والآب واحد " ( يوحنا 10 : 27 – 28) .
 
يتضح من هنا أن مفهوم الحياة الأبدية ينقسم إلى معنيين: 1- الحياة بعد الموت أو القيامة في اليوم الأخير، 2- الحياة الأبدية هنا والآن بواسطة الإيمان بالسيد المسيح، ويفوز المؤمن بهذه الحياة دونما انتظار للموت الجسدي الذي لا يعود ذات أهمية بالنسبة له.
 
من هنا تظهر حقيقة المسيح في أنه حياة محيية في كل زمان ومكان، وأن الذي يؤمن بالمسيح ( معطي الحياة ) لا يعود ينتظر القيامة واليوم الأخير حتى يعيش الحياة الأبدية. فالسيد المسيح يُعرّف الحياة الحقيقية وهو يكلم الله على أنها " أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي والذي أرسلته يسوع المسيح" ( يوحنا 17 : 3 ) .
 
وهذا يعني أن " الحياة الأبدية "الآتية" تبدأ  بالنسبة لأتباع المسيح في الحياة الدنيا هنا والآن. وهي ليست حياة جامدة، بل هي حركة ديناميكية جوهرها العلاقة المسترجعة مع الإله الحي: "في البدء كان الكلمة وكان الكلمة  عند الله وكان الكلمة الله . فيه كانت الحياة ... " ( يوحنا 1: 1 ) وهي حياة تسبغ على صاحبها الوداعة والاستقامة والصبر والاحتمال والطهر والعفاف وغير ذلك من الصفات الربانية، وذلك بالضبط ما عبر عنه الرسول بولس حين قال: " فكما لبسنا صورة الإنسان الأرضي، يجب أن نلبس أيضا صورة الإنسان السماوي" سيدنا عيسى المسيح ( 1 كورنثوس 15: 49)