عشاق الله

تأملات في الحرية

الحرية هي تحرر الإنسان وانطلاقه من كل القيود التي تحاول كبح طاقاته الجسدية والفكرية والروحية، سواء كانت تلك القيود مادية أو معنوية، واقعية أو وهمية. إنها نقيض العبودية في جميع تجلياتها، سواء الفردية كعبودية الفرد للفرد، أو الجماعية كعبودية الجماعة لفرد ما أو لجماعة أخرى، وغيرها. والحرية هي قدرة الإنسان على الاختيار أو التقرير بدون إكراه أو ضغط مهما كان. وهي أنواع كثيرة متعددة يصعب حصرها. ولكننا في هذا المقال الصغير سوف نحاول أن نتكلم عن ثلاثة مفاهيم للحرية: الحرية من وجهة نظر فلسفية، والحرية السياسية، ثم الحرية الروحية.

نرى أن مفهوم الحرية من الناحية الفلسفية هو مفهوم ملتبس غير قابل لأي تعريف نهائي، سوى أن أهمية البحث الفلسفي في الحرية تكمن في عمق الأسئلة التي يطرحها على الإنسان في فهمه لمعنى الحرية وممارسته لها، وأيضا في تبديد كل الأوهام والمغالطات الممكنة والأخطار التي تحف بهذا المفهوم. أي السؤال: معنى، كيف، متى، أين..تكون  أو لا تكون حرا. فالفيلسوف النمساوي سبينوزا يفاجئ القارئ بقوله أن الناس يعتقدون فقط أنهم أحرار، وأن اعتقادهم ناتج عن جهلهم بالعلل التي تدفعهم إلى أفعال يظنون أنها حرة، ويضرب مثلا بالطفل الذي يهرب خائفا، ويظن أنه حر في الهروب بينما تحركه علة الخوف، أو السكران الذي يظن أن طليق في تصرفاته بينما تحركه علة السكر الخ. وفي الطرف الآخر نجد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي يربط حرية الفرد ليس فقط بفعل الاختيار أي الحرية في أن تختار ما تريد، لكن أيضا بفعل الإنجاز، أي ممارسة الفرد حريته في إنجاز أو صنع وجوده أو بعبارة أخرى القدرة على الفعل.
من الناحية السياسية يمكن الاقتصار على مقاربة مفهوم الحرية بالاعتماد على إعلان حقوق الإنسان الصادر سنة (1789) والذي بعَرّف الحريات السياسية بكونها "الحقوق المُعترف بها للفرد بحيث أنّ هذه الحقوق تحدّ من سلطة الحكومة. وهي مثل حرية الوعي، الحرية الفردية، حرية الاجتماع والتحزب، وجود دستور، الحق في حكم ذاتي، ممارسة المُمثلين المنتخبين للسلطة ". وبمعنى عام: " تكمن الحرية في القدرة على القيام بكل ما لا يضر الآخر... تكمن الحرية في أنها لا تتقيد إلا بالقانون". وعليه يمكن القول أن من أخطر ما يمكن أن يصيب كيان الفرد والأمة في مقتل هو مصادرة إرادة الناس وكبت حريتهم المشروعة. ذلك أن الفرد المكبوت الحرية هو شخص مشلول لا إرادة ولا حياة حقيقية له، وما أزمات ومحن الشعوب العربية اليوم وتخلفها وترهلها إلا نتيجة حتمية لمصادرة حرية الإنسان العربي وسلب إرادته وكبت مشاعره وإرهاب فكره.
أما من الناحية الروحية فيمكن القول أن الأمر يختلف من ناحية الجوهر لا المظهر، أي أن مظهر الإنسان الحر واحد، لكن جوهر حريته وقيمتها وعمقها يختلف بحسب مصدرها. فكل مفاهيم الحرية سواء السياسية أو الاجتماعية أو الدينية أو غيرها تؤكد على أهمية العامل الخارجي، المجتمع، السياسة، السلطة، الخ أي العامل الموضوعي. أما الحرية الروحية فتركز على العامل الداخلي أو الذاتي أي الروح، بحيث تمتد إلى جذور عبودية الإنسان لاقتلاعها، ولا تتوقف عند العوامل السياسية والاجتماعية والدينية المباشرة. كما تركز الحرية الروحية على أن الخطيئة والعبودية للخطيئة هي أصل الظلم، والقهر، والاستغلال، وكل أشكال الشرور التي تعاني منها البشرية. فلا السياسة، ولا علم الاجتماع، ولا الفلسفة، ولا علوم النفس وغيرها تكفي لشفاء الأفراد والأمم وشعورها بالحرية ما لم تتم معالجة أصل الداء الذي هو الخطيئة. نرى ذلك واضحا في حوار سيدنا عيسى المسيح مع اليهود حيث يقول لهم: "إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم." لكنهم أجابوه معتزين بالعوامل الخارجية أي نسبهم الحر: "إننا ذرية ابراهيم ولم نستعبد لأحد قط.كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارا." فأجابهم سيدنا عيسى قائلا: "الحق الحق أقول لكم، إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية. والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد. أما الابن فيبقى إلى الابد." (يوحنا 31:8-36). نرى كيف يقسم سيدنا عيسى الناس قسمين: من جهة أبناء الله الحقيقيون بالروح لا بالجسد، وهم الأحرار بمعرفتهم للحق، ومن جهة أخرى العبيد الرازحون تحت عبودية الخطيئة وسلطة الجسد. هكذا يمكن القول أن لا مستقبل للحرية البشرية ما لم تأخذ بالاعتبار البعد الروحاني الذي عن طريقه ينتصر الإنسان على أهواء الجسد التي تأسره وتستعبده، وتجعله يأسر ويستعبد غيره. فبهذا البعد الروحاني العظيم المُتأتِّي من روح الرب دشن سيدنا عيسى رسالته التحريرية عندما دخل المجمع يوم السبت و دُفِع إليه سفر أشعياء فقرأ على الحاضرين نبوة الحرية التى قالها ( أشعياء 61 : 1 ) عن السيد المسيح:
"روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين .... أرسلنى لأشفى منكسرى القلوب .... لأنادى للمأسورين بالإطلاق ..... و للعمى بالبصر ..... و أرسل المنسحقين فى الحرية ....  و أكرز بسنة الله "
نادر عبد الأمير