عشاق الله

التضحية: أعلى مراتب الوعي الإنساني

إذا كان العقل من أبرز وأهم الخصائص التي تميز الإنسان، فهناك أيضا الكثير من القيم الأخرى التي تميزه بصفة استثنائية عن عالم الحيوان. من بين هذه القيم العظيمة، بل وأكثرها فرادة نذكر قيمة التضحية التي تسمو بالوجود الإنساني إلى أعلى مراتب الخصوصية. فالتضحية هي خرق للنظام الغريزي الحيواني في الإنسان، وذلك لكونها تعصف مثلا بالحب الغريزي للحياة لدى الإنسان حين يقرر أن يجود بحياته في سبيل إنسان آخر؛ إنها إذاً سموّ فوق الطبيعة، وانتصار للإنسان على العالم، وللروح على الجسد.

لكن التضحية تتطلب الوعي بقيمة أخرى لا تقل أهمية عنها هي قيمة الفداء. هل يمكن تصور التضحية بدون فداء. هل يمكن تصور التضحية بدون طرف نضحي من أجله، أي نفديه؟ بالطبع لا! فالتضحية والفداء وجهان لعملة ذهبية واحدة. وعليه، يمكن تعريف التضحية على أنها استعداد الفرد لفداء شخص يحبه، أو أية أشياء أخرى مادية و معنوية عزيزة عليه، بحيث قد يصل هذا الاستعداد للفداء درجة الموت في سبيل تحقيق التضحية. كما أن التضحية مهما اختلفت من ثقافة إلى أخرى، فإنها ترتبط على الدوام بتحقيق هدف سام. بل يمكن قياس درجة الوعي الحضاري للشعوب بمدى أهمية قيمة التضحية وحضورها لدى هذه الشعوب.

وقد خاض الكثيرون من علماء الحضارة والنفس في مسألة التضحية ولم يختلف تعريفهم لها كثيرا عما قلناه. فهذا عالم النفس أدلر يقول أن التضحية سلوك يميز أسلوب الحياة التي يعيشها مجتمع ما، حيث يبلغ الفرد فيه أعلى مراتب الوعي بإنسانيته، أي فردا خلاقا يتخطى عقبات الحيات و ظروفها. ويقول رولومي أن التضحية نزوع الشخص لأن يعطي معنى لحياته، حسب المبادئ والقيم التي يعيشها، وذلك لتجاوز كل القيود والمعيقات التي تقف عائقا أمام تحركه.

كما أن الكثير من الأديان تميزت بالحضور القوي للتضحية ضمن شعائرها، خاصة الأديان السماوية التي أضفت قدسية خاصة على التضحية منذ أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل الذي أمره الله تعالى بالتضحية بابنه، ثم بعد أن رأى مقدار طاعته افتدى الابن بكبش لكي يُضحى به بدلا عن الابن، وهي شعيرة لا زال المسلمون يُحْيُونها كل عام إلى يومنا هذا. لكن يمكن القول أن التضحية والفداء بلغا تجلّيهما الأسمى في الإيمان المسيحي الذي ينبني أساسا على الإيمان بموت سيدنا عيسى المسيح على الصليب فداء للبشرية من العذاب الأبدي. لأن القصد الخاص أو الهدف المعين لذلك الموت العظيم الذي لم يسبقه مثيل في التاريخ هو الحصول على الغفران للآخرين من الخطيئة المتجذرة في النفس البشرية منذ عصيانها لله وطردها من جنة الفردوس. وهو ما نطالعه بوضوح شديد في الإنجيل: "لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا." (كانت هذه كلمات السيد المسيح خلال العشاء الأخير ((الإنجيل حسب متى 26: 28) وقال السيد المسيح أيضا "لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليَبذل نفسه فدية عن كثيرين." (الإنجيل حسب مرقس 10: 45) "وأنا أضع نفسي عن الخراف". (الإنجيل حسب يوحنا 10: 15) "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي" (الإنجيل حسب يوحنا 10: 17 و18).

واحتفالا بهذه القيمة الإنسانية العظيمة وتزامناً مع ما تعرفه الساحة العربية على الخصوص من أحداث جسيمة تتطلب من الإنسان العربي استحضار هذه القيمة العالية في كل تحرك شخصي أو جماعي، أو أي قرار من القرارات، لأن الاستعداد للتضحية هو صمام الأمان أمام كل انزلاق نحو الفوضى والأنانية.
نادر عبد الأمير