عشاق الله

رسالة في العطاء والبذل

 

  (كان هناك   دافعان وراء كتابة الشهيد كبريانوس لهذه الرسالة :

1- في عام   252 للميلاد تفشَّى مرض الطاعون من قرطاجنة وظل يُهدِّد المقاطعة الغربية للإمبراطورية الرومانية طوال عشرين عاماً، وقد تجاوب المسيحيون مع هذه الكارثة وهبُّوا لنجدة المنكوبين في أنحاء مدينة قرطاجنة، وقد قام القديس كبريانوس بخدمة خاصة لإغاثة المنكوبين، وقد أظهر بهذا الصنيع رحمة خاصة بالمحتاجين من خلال حث المؤمنين على ضرورة العطاء، ولذلك أشار في كتاباته إلى واجب المسيحيين نحو المحتاجين والاهتمام بمحبة القريب .

2- في عام 253 للميلاد حدثت غزوات البربر الهمجية على مقاطعة نوميدين وتم أسر كثير من المسيحيين، لذلك قام القديس كبريانوس بحملة تبرعات لجمع الأموال حتى يستعيد هؤلاء المأسورين من المسيحيين من أيدي البرابرة نظير مبالغ مالية لافتدائهم، وعلى هذا الأساس كان يُحفِّز الجماعات المسيحية للنهوض بحملة التبرعات. هذه الأسباب كانت هي الدافع للقديس كبريانوس كي ما يكتب هذه الرسالة والتي يحتمل أنها قد ُ كتبت بين عامي 253 - 256 م) .

 

أعمال البر تطفئ نيران الخطية

1. أيها الأخوة الأحباء، إن النعم الإلهية كثيرة وعظيمة، تلك التي من خلالها أدركتنا المراحم الجزيلة والفياضة التي لله الآب والمسيح لأجل خلاصنا، ومازالت تدركنا أيضاً. فقد أرسل الآب ابنه لأجل خلاصنا ليحفظنا ويحيينا لكي ما يخلصنا، والابن أيضاً أراد أن يُرسَل، وأن يسمى "ابن الإنسان" لكي ما نصير نحن أولاداً لله، هذا الذي اتضع ليرفع الساقطين، وجُرح ليداوي جراحاتنا، و َ خدم لكي ما يحرر الذين خدمهم، واجتاز الموت ليمنح المائتين عدم الموت. ولكن بجانب ذلك، ُترى ما هو مقدار تلك العناية الإلهية العظيمة وما هو مدى هذا الجود الإلهي، إذ قد مُنحنا خطة للخلاص، واُتخذ تدبير لحفظ الإنسان الذي َ خُلص! لأنه بمجيء الرب وشفائه لجراحات آدم التي كان قد حملها، وأيضاً بإبرائه من سُم الحية القديمة، أوصاه بألا يعود يخطئ لئلا يكون له أشر (1) فلقد كنا (من قبل( محاصرين ومقيدين من خلال الأمر بالنقاوة (2). وعَجَزَ الضعف البشري عن أن يفعل شيء إلى أن جاءت المحبة الإلهية لمساعدة الإنسان، وفتحت لنا طريقاً لتأمين الخلاص من خلال التنبيه على أهمية أعمال البر (3) والرحمة لكي تغتسل - من خلال الصدقة – كل الأدناس التي تلوثنا بها مؤخراً.

2. يقول الروح القدس في الكتاب المقدس "بالرحمة والحق يُسَتر الإثم" (أم 16:6 )، ومن الطبيعي أن المقصود بالإثم هنا ليس الآثام التي إرُتكِبت من قبل لأنها سبق أن تطهرت وتقدست بدم المسيح. كذلك يقول أيضاً: "الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر الخطايا" (يشوع بن سيراخ 33:3).

هنا أيضاً أُشير وُاكَّد أنه كما ُتطفأ نيران الجحيم في جرن مياه الخلاص (إشارة إلى المعمودية)، هكذا أيضاً بالعطاء وأعمال البر ُتطفأ نيران الخطية. وحيث أن غفران الخطايا قد مُنح مرة في المعمودية، فإن الإحسان (التصدق) الدائم والمستمر أيضاً سيمنح - مثل المعمودية - من ناحية أخرى نعمة الله. (4)

هذا يعلِّمه لنا الرب في الإنجيل إذ عندما لوحظ أن التلاميذ يأكلون بدون غسل أيديهم أولاً قال (5): "أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً؟ بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم" .( لو11 : 41 -40)

هكذا يوضح لنا السيد المسيح ويشير إلى أنه ليست اليدان هي التي يجب أن ُتغسل بل القلب، وأن الدنس الداخلي هو الذي يجب أن يُنزع وليس الخارجي، والذي يُطهِر ما بالداخل فقد َ طهر أيضاً ما بالخارج، وبطهارة القلب يصير الجلد والجسد طاهرين. علاوة على ذلك فقد نصحنا وأوضح لنا كيف يجب أن نكون أنقياء وطاهرين حين أضاف قائ ً لا أنه لابد من الصدقة. فالرحيم يحثنا على أن نمارس الرحمة، ولأنه يريد خلاص هؤلاء الذين فداهم بثمن غالٍ، فهو يُعَلِّم أن أولئك الذين تدنسوا بعد المعمودية يمكنهم أن يتطهروا من جديد.

3. لهذا أيها الإخوة الأحباء فلنعترف بعطية النعمة الإلهية الشافية بأن نطهِّر وننقِ نفوسنا من خطايانا، ولنعالج جراحاتنا بالعلاج الروحي، نحن الذين لا يمكن لنا أن نتحرر من بعض جراحات الإنسان الباطن. فلا يمدح أحد نفسه على قلبه النقي والطاهر ويظن أنه بسبب نقاوته لا يحتاج دواءاً لجراحه، لأنه مكتوب "من يقول أني زكيت قلبي تطهرت من خطيتي" (أم 20: 9)، كذلك يقول يوحنا في رسالته "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" ( 1يو 8:1)، فإن كان لا يمكن أن يوجد شخص بلا خطية – ومَنْ يقول أنه بلا خطية فهو إما متكبر أو غبي - فكم تكون الحاجة للرحمة الإلهية! ويا لعظم حنانه، إذ عرف أن هؤلاء الذين شفوا من جراحاتهم لابد وأن يجُرحوا مرة أخرى، لذلك أعطى العلاج الشافي لتلك الجراحات لكي يتم الشفاء من جديد.

 

الرحمة تكون لمن يعمل رحمة

4. إن التحذير الإلهي أيها الإخوة الأحباء لم يكف ولم يصمت قط في أي موضع عن أن يحث شعب الله على أعمال الرحمة سواء في العهد القديم أو الجديد، كما أنه من خلال صوت الروح القدس المشجع يدعو كل من يهتدي لرجاء ملكوت السموات إلى تقديم الصدقة. فالله يدعو ويأمر أشعياء قائلا: "ناد بصوت عال لا تمسك، ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم وبيت يعقوب بخطاياهم" (إش 1:58) وبعد أن لامهم الرب على خطاياهم ووضع أمامهم آثامهم بكامل قوة غضبه، أوضح لهم قائلا أنه لا يمكن أن يقدموا ما يُكفرون به عن خطاياهم، فلا بالتجائهم للصلاة والأصوام ولا حتى بالجلوس في المسوح والرماد يمكنهم أن يستعطفوا الله، حيث، أوضح لهم في النهاية أن التصالح مع الله يكون بالعطاء فقط (6) ويضيف قائلا: "أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك و تنبت صحتك سريعاً ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك. حينئذ تدعو فيجيب الرب تستغيث فيقول هانذا" (إش 7: 58)

5. إن الوسائل لمصالحة الله قد أُعطيت لنا من كلام الله نفسه، فالوصايا الإلهية ُتعَلِّم أن إرضاء الرب يكون بالأعمال المستقيمة وأن الخطايا تتطهر بفضل الرحمة (7) وفي سليمان نقرأ "أغلق على الصدقة في مخازنك، فهي تنقذك من كل شر" (يشوع بن سيراخ 12:29 ) وأيضاً: "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضا يَصرخ ولا يُستجاب" (أم 13:21 ) فلن يستحق رحمة الرب مَنْ كان هو نفسه بلا رحمة، ومَنْ لم يكن رحيماً تجاه دعاء المسكين لن ينال أي طلب من المحبة الإلهية. فهوذا الروح القدس يعلن ويؤكد في المزامير على ذلك بقوله: "طوبى للذى ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب" (مز 2:41 ). وأيضاً كان هذا المبدأ في ذهن دانيال عندما أعطى علاجاً للملك نبوخذ نصر (إذ كان الملك خائفاً وقلقاً بسبب حلم رديء) ليتجنب الشرور بنوال المعونة الإلهية فقال له: "لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمسكين لعله يطال اطمئنانك" (دا 27:4 ). وعندما لم يعمل الملك بتلك المشورة عانى من المصائب والمشاكل التي حّلت به والتي كان في إمكانه أن يتجنبها وينجو منها لو كان قد إفتدى نفسه من خطاياه من خلال العطاء. والملاك رافائيل أيضا يشهد هكذا ويحث على ممارسة العطاء بكرم وبسخاء بقوله: "صالحة الصلاة مع الصوموالصدقة خير من ادخار كنوز الذهب. لأن الصدقة تنجي من. فيوضح أن – الموت و تمحو الخطايا" (طو 8:12 - 9) صلواتنا وأصوامنا تكون لها فائدة أقل مالم يساندها العطاء، والتضرعات وحدها تأتى بقليل ما لم ُت َ كمَّل بإضافة الأفعال والأعمال. فالملاك يكشف و يوضح و يؤكد أن طلباتنا تكون لها فاعليتها بالعطاء، وأن حياتنا تنجو من المصائب بالعطاء، وأن نفوسنا تتحرر من الموت بالعطاء.

6. أيها الاخوة الأحباء نحن لن نستخدم الآيات القادمة بغرض إثبات شهادة الحق التي قالها الملاك رافائيل. ففي أعمال الرسل (8) قد ثَبَت صدق كل ذلك، وقد اكتشفنا أنه بالعطاء تتحرر النفوس، ليس من الموت الثانى فقط بل من الموت الأول أيضاً بدليل ما تم وحدث بالفعل. فعندما مرضت طابيثا - التي كانت تحب الأعمال الصالحة والعطاء - ثم ماتت، دعى بطرس إلى جثمانها الذي كان بلا حياة، وعندما أتى مسرعاً بمحبة رسولية وقفت حوله الأرامل باكيات ومتوسلات وهن يرينه أقمصة وثياباً مما قبلن منها، فهكذا كن يتضرعن لأجلها: لا بكلامهن بل من خلال أعمالها هي. فشعر بطرس أن ما يُطلب بهذه الطريقة يكون نواله ممكناً، وأن المسيح لن يتخلى عن هؤلاء الأرامل اللاتى كن يطلبن، إذ كان الرب نفسه قد اكتسى بملابس صنعتها له الأرامل. وهكذا عندما جثا بطرس على ركبتيه وصلى وكشفيع لائق للأرامل والفقراء َقدَّم التضرعات التي حمّلوه إياها أمام الرب، نظر إلى الجثمان المغسول الموضوع على الفراش وقال "يا طابيثا قومى باسم يسوع المسيح" (أع 40:9 ) فلم يتأخر الرب عن معونة بطرس وهو الذي قال في إنجيله أن كل ما يُطلب باسمه يُعطى (9). وهكذا ُ طرد الموت، وعادت الروح إلى طابيثا، ووسط تعجب الجميع ودهشتهم قام الجسد ودبت فيه الحياة من جديد. فهكذا كانت قوة فضيلة الرحمة، وهكذا أتت الأعمال الصالحة بنفع! فتلك التي أعطت معونة للأرامل المتألمات لكي يحيين استحقت أن ترجع إلى الحياة من خلال طلبات هؤلاء الأرامل.

 

العطاء وصية إلهية

7. هكذا نرى في الإنجيل الرب الذي هو معلم حياتنا ومرشدنا إلى الخلاص الأبدي، الذي بعث الحياة لشعب المؤمنين وزودهم بكل شئ بعد أن أحياهم، لا يأمر في وصاياه الإلهية ومبادئه السماوية بأكثر إلحاحاً إلا أن نستمر في العطاء وألا نعتمد على الكنوز الأرضية بل نكنز الكنوز السماوية فيقول: "بيعوا أمتعتكم و أعطوا صدقة" (لو 33:12 ). ويقول أيضاً: "لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون و يسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه . حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا" (مت 6: 21-19)   وعندما أراد أن يُعَلِّم الرجل الغنى الذي كان كاملاً وبلا عيب بحفظ الوصايا قال: "إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع كل أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعالى اتبعنى" (مت 21:19 ). وهكذا قال في موضع أخر أن من يريد أن يتاجر في النعمة السماوية ويقتني الخلاص الأبدي عليه أن يتخلص من ممتلكاته وأن يشترى من ميراثه الأرضي اللؤلؤة الكثيرة الثمن أي الحياة الأبدية، وهي غالية لأن ثمنها هو دم المسيح. فيقول: "أيضاً يشبه ملكوت السماوات إنساناً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى و باع كل ماله و اشتراها" (مت 45:13-46)

8. وأخيراً أيضاً يدعو هؤلاء الذين يراهم مهتمين بمساعدة وإطعام الفقراء أولاد إبراهيم. فعندما قال زكا: "ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف" أجاب يسوع قائ ً لا: "اليوم حصل. خلاص لهذا البيت إذ هو أيضا ابن إبراهيم" (لو 8:19 -9) فإن كان "إبراهيم قد آمن بالله، وإيمانه هذا حُسب له براً" (10) فبالتأكيد من يعطي صدقة حسب وصية الله فإنه يؤمن بالله، و من له الإيمان الحقيقي فإنه يبقى في خوف الله، كما أن من يخاف الله يضع له اعتباراً في صنعه رحمة بالفقير. فهو يعمل هذا لأنه يؤمن بالله (11)، ولأنه يعلم أن تلك الأمور التي تنبئ عنها في كلام الله حقيقة وأن الكتاب المقدس لا يمكن أن يكذب، و أن الشجرة غير المثمرة (12) – و المقصود بها الإنسان العقيم (أي الذي لا يعطي) - تقطع و تلقى في النار، وأما الرحماء فإنه يدعوهم للملكوت. وفي موضع آخر يلّقب عاملي الخير والمثمرين "أُمناء" أما غير المثمرين والعقماء لا يدعوهم كذلك بل يقول لهم: "إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم فمن يأتمنكم على الحق؟ و إن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم؟" ( لو 11:16-12)

 

كيف يحتاج المعطي بسخاء؟

9. ولكن إن كنت خائفا وتخشى أن تعطي بسخاء لئلا ينفذ ميراثك بسبب عطائك السخي وإنك فرضاً قد تفتقر، فلا تقلق من هذا الموضوع وكن مطمئناً: فإن ما يُصرف في خدمة المسيح، وفي الأعمال السماوية (أي أعمال الخير) لا ينفذ. وأنا لا أعدك بهذا على أساس كلامي فقط ولكنى أعدك من خلال الإيمان بالكتب المقدسة وبضمان الوعد الالهى. فالروح القدس يتحدث على لسان سليمان و يقول: "من يعطي: الفقير لا يحتاج ولمن يحجب عنه عينه لعنات كثيرة" (أم 28: 27 )، وهكذا يوضح أن الرحماء وفاعلي الخير لن يأتي عليهم وقت يحتاجون فيه إلى شيء، وعلى العكس فالشحيح والعقيم سيأتي عليه وقت يجد نفسه في إحتياج.

هكذا يقول الطوباوى بولس الرسول الممتلئ من نعمة وَحْي الرب: "والذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للآكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم مستغنيين في كل شئ" ( 2كو9: 10-11 ). وأيضاً: "لأن إفتعال هذه الخدمة ليس يسد أعواز القديسين فقط بل يزيد بشكر كثير بالله" ( 2كو 12:9) لأنه عندما يشكر الفقراء الرب في صلواتهم على عطايانا وأعمالنا الصالحة فإن فاعل الخير يزداد غنى كمكافئة له من عند الرب، والرب إذ ينظر إلى قلوب هؤلاء الرجال ويشجب قليلي الإيمان وغير المؤمنين يشهد في الإنجيل ويقول: "فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل و أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوى يعلم إنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن أطلبوا أولا ملكوت الله وبِرّه وهذه كلها يقول أن هذه كلها تعطى وُتزاد: تزاد لكم" (مت 6 : 30-31) لهؤلاء الذين يطلبون ملكوت الله وبِرّه، لأن الرب يؤكد أنه عندما يأتى يوم الدينونة فكل الذين فعلوا الصالحات في كنيسته سوف يُقبَلون في الملكوت.

10. أنت تخشى أن تخسر ميراثك الأرضي لو بدأت تتصدق منه بسخاء، وأنت لا تعلم أيها الإنسان البائس أنه بينما تخاف أن تفقد ثروتك، فإنك تفقد الحياة نفسها وتفقد الخلاص. وبينما تقلق من أن تقل أي من ممتلكاتك فأنت لا تنتبه يا مَنْ تحب المال أكثر مما تحب نفسك أنك أنت ذاتك تقل، وبينما تخاف على أموالك من أجل نفسك فان نفسك تهلك من أجل أموالك!

لذلك حسناً يقول الرسول: "لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح إننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في الغضب و الهلاك. لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" ( 1تى 6: 7-10).

11. هل تخشى من أن تتضاءل ممتلكاتك متى بدأت تمارس الصدقة بفيض؟ فمتى حدث أن نفذت ثروة رجل صِدِّيق؟ أليس مكتوب "الرب لا يُجيع نفس صِدِّيق" (أم 3:10 )؟ فإيليا أُطعِم بواسطة الغربان الذين خدموه في الصحراء (13)، وعندما كان دانيال محبوساً في جب الأسود بأمر الملك أُعدت له وجبة من السماء (14) وأنت تخشى من أن ينُقصَك الطعام عندما تعمل الخير وتكون مستحقا لخدمة الرب؟ فالرب نفسه يشهد في الإنجيل مبكتاً الشكاكين وقليلى الإيمان ويقول: "انظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوى يقوتها، ألستم أنتم بالحرى أفضل منها ؟" (مت 26:6) فالرب يُطعم الطيور ويُعطي القوت اليومى للعصافير، وأيضاً تلك الكائنات التي ليس لها أي إدراك بالأمور الإلهية لا ينقصها أبداً المأكل أو المشرب. فهل تعتقد أنه ممكن للإنسان المسيحى، خادم الرب الم َ كرَّس لعمل الخير، الذى هو عزيز في عينى الرب أن ينقصه أي شيء ؟

12 . هل تعتقد أن الذي يطعم المسيح (بإطعامه الفقراء) لن يطعمه المسيح؟ أو أن أولئك الذين وُهبوا عطايا سماوية وإلهية يمكن أن تنقصهم أمور أرضية؟ من أين هذا الفكر الخالي من الإيمان؟ من أين هذا التفكير عديم التقوى والذميم؟ ماذا يفعل قلب غير المؤمن في بيت الإيمان؟ كيف ُتعَتبَر وُتدعى مسيحياً يا مَنْ لا تؤمن بالمسيح على الإطلاق؟ فكلمة "فريسي" تليق بك بالأكثر! لأن الرب حينما كان يتكلم في الإنجيل عن العطاء سبق وأعطانا التنبيه الوافي والشافي بأن نصنع لأنفسنا أصدقاء بأموالنا لكي ما ُنقبل في المظال الأبدية (لو 9:16 )، وأضاف الكتاب المقدس الكلمات الآتية: "وكان الفريسيون أيضاً يسمعون هذا كله وهم محبون للمال فاستهزأوا به" (لو 14:16 ) فنحن نرى الآن مثل هؤلاء الأشخاص في الكنيسة. هؤلاء الذين لا يدخل نور التحذيرات الروحية والخلاصية إلى أذانهم المغلقة وقلوبهم العمياء، فيجب ألا نتعجب من إستهزائهم بالخادم في وعظه لأننا نرى أن أمثال هؤلاء قد استهزأوا بالرب نفسه.

 

الأغنياء الأغبياء يخسرون !

13. لماذا تسمح لنفسك أن تصدق هذه الأفكار الخاوية والغبية وكأن خوفك وقلقك من المستقبل يمنعك من عمل الخير؟ لماذا تتصور خيالات وأوهام معيّنة لتكون عذراً باط ً لا؟ فلتعترف بالحقيقة ولتكشف الأمور السرية المختبئة في قلبك لأنك لا تستطيع أن تخدع الفاهمين. فظلمة العقم (عدم العطاء) قد أطبقت على فكرك، وإذ قد تسرب نور الحق إلى خارج فكرك، فإن الظلام الدامس والكثيف للبخل قد أعمى قلبك اللحمي. فأنت إذاً أسير وعبد لأموالك ومقيَّد بسلاسل وأربطة الطمع. وأنت الذي حررك المسيح قد ُقيِّدت من جديد. أنت َتدَّخِر أموالك التي لن تخلصك عندما َتدَّخِرها . أنت تكدس ثروتك التي تثقل عليك بثقلها، ولا تفكر في ما قاله الرب للرجل الغني الذي تفاخر بفرح بسبب فيض حصاده الكثير: " يا غبي! هذه الليلة ُتطلب . نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" (لو 12: 20 ) لماذا تطيل التفكير فقط في غناك؟ لماذا تثقل على نفسك حمل ثروتك حتى أنه كلما ازداد غناك في نظر العالم ازداد فقرك في نظر الله؟ قسم إيرادك مع الرب إلهك، شارك المسيح في مكاسبك، وأجعل المسيح شريكاً لك في ممتلكاتك الأرضية حتى يجعلك هو أيضاً وارثاً معه في ملكوته السماوي.

14 . فأنت خاطئ ومخدوع يا من تظن نفسك غنياً في العالم. إسمع صوت الرب في سفر الرؤيا حينما بكًّت مثل هؤلاء (الأغنياء في أعين أنفسهم) قائلا: "لأنك تقول إني أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم انك أنت الشقي و البائس و فقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشترى مني ذهباً مصفى بالنار لكي تستغني وثياباً بيضاً لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك وكحّل عينيك بكحل لكي تبصر" . (رؤ 3: 17- 18 ).

لذلك أيها الغني والثري اشترِ لنفسك من المسيح ذهباً مصفَّى بالنار حتى تصبح ذهباً نقياً عندما تحترق بالنار الشوائب التي فيك بالعطاء والأعمال الصالحة. اشترِ لنفسك ثوباً أبيض يا مَنْ كنت عرياناً مثل آدم وكان شكلك بشعاً وغير لائق، يمكنك الآن أن ترتدي ثوب المسيح الأبيض. وأنتِ أيتها السيدة الغنية والثرية، كحِّلي عينيك، لا بُكحل الشيطان بلب ُ كحل المسيح فتستطعين أن تنظري الرب عندما تستحقين الخير من الرب من خلال سلوكك وأعمالك الصالحة.

 

لا عذر لمن لا يعطي

15. فأنت يا مَنْ لا تستطيع أن تعمل عمل الخير في الكنيسة لأجل عينيك المغطاة بالسواد وبظلال الليل فلا تقدر أن ترى الفقراء والمحتاجين. هل تعتقد أيها الغنى والثرى - يا مَنْ لا تفكر بالمرة في صندوق العطاء، يا مَنْ تأتى إلى عشاء الرب بدون ذبيحة، يا مَنْ تشترك في ذبيحة قدمها الرجل الفقير- إنك تستطيع أن تشترك في عشاء الرب؟! أنظر في الكتاب المقدس فترى أرملة مهتمة بالوصايا الإلهية، قد أعطت حتى في وسط ضغوط وضيقات الفقر، وألقت في الخزانة فلسين هما كل ما تملكه، وعندما لاحظها ورآها الرب نظر إلى عملها - لا لأجل كم المال بل لأجل النية - وأجاب قائ ً لا: "بالحق أقول لكم أن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين الله، وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل المعيشة التي لها" (لو 21: 3- 4) إمرأة مباركة وعظيمة جداً، تلك التي حتى من قبل يوم الدينونة إستحقت أن يمدحها صوت الديان! ليخز الرجل الغني لأجل عدم إثماره وبليته! فها أرملة فقيرة تعطي وبالرغم أن كل العطايا المَقدَّمَة ُتعطى للأرامل والأيتام، إلا أنها أعطت، وهي التي كان يجب أن تقبل العطية. وهذا يُعَرِّفنا كم يكون العقاب الذي ينتظر الرجل الغني فهذا الموقف يُعّلمنا أنه على الفقراء أيضاً أن يفعلوا الخير. ويجب أن نفهم أن هذه الأعمال ُتقدَّم لله، وكل من يفعل هكذا يستحق الخير من الله، فالمسيح يدعو تلك العطايا "قرابين الله" ويشير إلى أن الأرملة وضعت فلسين في "قرابين الله"، حتى يوضح جلياً أن مَنْ يعطف على   المسكين يُقرض الرب (أم 19: 17).

16. قد يفكر أحد أنه معفي من العطاء لأجل منفعة أولاده. لا تجعلوا أيها الأخوة الأعزاء هذا التفكير يقيّد المسيحى ويرجعه عن عمل الخير. لكننا في العطايا الروحية يجب أن نضع عتباراً للمسيح الذي قال أنه سيقبلها (راجع مت 25: 40) ونحن لا ُنفضِّل العبيد رفقاءنا على أولادنا ولكننا نفضِّل الرب عليهم، فهو ينبهنا ويحذرنا بقوله: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني" (مت 37:10 ) وهكذا أيضاً نرى أشياء مماثلة مكتوبة في سفر التثنية لأجل تقوية الإيمان ومحبة الله. يقول الرب: "الذي قال عن أبيه وأمه لم أراهما وبأخوته لم يعترف وأولاده لم تعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك" 9). فإن كنا نحب الله بكل قلوبنا فيجب ألا نفضل : (تث 33: 9) الأهل أو الأبناء على الله. ويقول يوحنا أيضاً هكذا أنه محبة الله لا توجد في هؤلاء الذين نراهم لا يريدون عمل الخير للفقراء: "وأما من كان له معيشة العالم و نظر أخاه محتاجا : وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه؟" ( 1يو 3 17 ) فإذا كنا بعطاء الفقراء نجعل الله مديناً لنا وعندما ُنقدِّم: (العطاء) للأدنياء فاننا ُنعطِى للمسيح (أم 19: 17). فلا يوجد سبب إذن لتفضيل الأرضيات على السماويات أو أن نضع الأمور البشرية فوق الأمور الإلهية.

17 . هكذا فالأرملة (15) بعد أن نفذ منها كل شئ بسبب الجفاف والمجاعة، وخبزت كعكة على الرماد بقليل من الدقيق والزيت المتبقين لديها، وكان من المنتظر أن تموت هي وابنها بعد أن يأكلا هذه الكعكة جاء إليها إيليا وطلب منها أن تعطي له أو ً لا ليأكل ثم تأكل هي وابنها مما تبقى. لم تتردد الأرملة في إطاعته ولم تفضل الأم ابنها على إيليا في المجاعة وفي العوز، بل فعلت ما هو مرضي في نظر الله وبسرعة وبفرح قدّمت ما ُ طلب منها، ولم تعطِ جزءً من الكثير بل أعطت الكل من القليل، وأطعمت آخر قبل ابنها. وفي الفقر والجوع لم يُعَتبر الطعام أهم من الرحمة، فبينما من أجل عمل الخير قد استهانت بالحياة حسب الجسد، لذلك َ خُلصت نفسها بطريقة روحية. هكذا فإيليا كمثال للمسيح، مبيناً أنه يعطي الكل حسب رحمته أجاب قائلا: "لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل أن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي - فيه يعطي الرب مطراً على وجه الأرض" ( 1مل 14:17-15 ). وبحسب إيمان الأرملة في الوعد الإلهي، فما أعطته قد تضاعف وتزايد لها وكما نمت وتزايدت أعمالها الصالحة وفضائل الرحمة، هكذا إمتلأت أواني الدقيق والزيت. ولم َتحرم الأم ابنها مما أعطته لإيليا بل أعطته ما فعلته برحمة وتقوى. ولكنها لم تكن قد عرفت المسيح، ولم تكن قد سمعت وصاياه. ولم تقدم الطعام والشراب عرفاناً بدمه كمَنْ فداها المسيح بصليبه وآلامه. وهكذا يتضح كم يخطئ في الكنيسة ذلك الذي يُقدِّم نفسه وأولاده على المسيح، فيدخر أمواله ولا يشارك الفقراء المعوزين في ميراثه الأرضي الوفير.

18. قد تقول أن لك أبناء كثيرين في بيتك، وأن كثرة أبنائك هذه تمنعك من أن ُتقدِم على عمل الخير. ولكن بسبب كثرة أبنائك لهذا يجب عليك بالأحرى أن ُتكثر من أعمال الخير حيث أنك أب لأولادٍ كثيرين فلك الكثير ممن تطلب من أجلهم أمام الرب، ولك الكثير ممن يجب أن تكّفر عن خطاياهم ولك الكثير ممن يجب أن ُت َ طهَّر ضمائرهم والكثير ممن يجب أن ُتحَرَّر نفوسهم. فكما أنه في هذه الحياة الأرضية، كلما زاد عدد أبنائك كلما زادت المصروفات من أجل قوتِهِم ومن أجل مطالب الحياة، كذلك في الحياة الروحية والسماوية كلما زاد عدد أبنائك كلما وجب أن يزداد الإنفاق في الأعمال الصالحة. فهكذا قدّم أيوب ذبائح عديدة لأجل أولاده، وبقدر ما كان عدد أولاده كبيراً هكذا كان عدد ذبائحه التي يقدمها للرب كبيراً. ولأنه لا يمكن أن يمضى يوم دون أن يخطئ أحدهم أمام الرب، هكذا كانت لا تنقطع الذبائح يومياً حتى ُتمحى الخطايا بها. والكتاب المقدس أثبت ذلك بقوله: "وولد له سبعة بنين وثلاثة بنات … وكان لما دارت أيام الوليمة أن أيوب أرسل فقدسهم وب ّ كر في الغد وأصعد محرقات على عددهم كلهم".(أي 1: 2-5)

إذاً، إذا كنت حقاً تحب أولادك، وإذا كنت تريد أن تكشف لهم عذوبة حبك الكامل لهم كأب، فيجب عليك أن ُتكثر من أعمال المحبة حتى تستودع أبناءك لدى الله من خلال أعمالك الصالحة.

 

الله الراعي الحقيقي لأولاده

19. لا تعتبره كأب لأبنائك، ذاك الإنسان (نفسك) الذي هو زمني وضعيف، بل إقتن الرب الذي هو الأب الأبدى والقوي لأبنائك الروحيين. سلِّم له كل ثروتك التي تحتفظ بها الآن. أجعله وصياً على أبنائك، لأنه هو الذي يعتني بهم ويحميهم بعظمته الإلهية من كل شرور العالم.

عندما توضع ثروتك تحت عناية الله، لا تصادرها الدولة أو يستولي عليها جابي الضريبة ولا ُتبدَّد خلال الدعاوى القضائية. حينئذ يكون الميراث في أمان تحت عناية الله، هذا لكيما توفر إحتياجات المستقبل لابنائك الأعزاء، لتوفر الإحتياجات لمن سيرثونك بمحبة أبوية، حسب إيمان الكتاب المقدس الذي يقول: "أيضا كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلى عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً. اليوم كله يترأف . ومرة أخرى يقول - ويقرض ونسله للبركة" (مز 25:37- 26) "الصديق يسلك بكماله، طوبى لبنيه بعده" (أم 7:20 ). فإن كنت لا تبحث عن مصلحة أبنائك بأمانة، وإن كنت لا تعطي إهتماماً بخلاصهم بمحبة حقيقية وروحانية فأنت كأب ُتعَد كمذنب وكخائن. لماذا تشتاق للثروة الأرضية أكثر من الثروة السماوية؟ لماذا تفضل أن تستودع أولادك للشيطان أكثر من المسيح؟ إنك تخطئ مرتين وترتكب جريمة مضاعفة ومزدوجة فأنت لا توفر لأبنائك عناية الله أبيهم وأيضا تعلم أولادك أن يحبوا ممتلكاتهم أكثر من المسيح.

20 . كن أباً لأبنائك كما كان طوبيا كذلك. أعطِهم تعاليم نافعةومفيدة كما أعطى طوبيا لإبنه. شدِّد على أبنائك كما شدَّدَ هو أيضاً قائ ً لا: "اسمعوا يا بنيَّ لأبيكم، اعبدوا الرب بحق وابتغوا عمل مرضاته وأوصوا بذويكم بعمل الحق والصدقات وأن يذكروا الله و يباركوه كل حين بالحق و بكل طاقتهم "   (طو 10:14-11) مرة أخرى يقول : "وأنت فليكن الله في قلبك جميع ايام حياتك و احذر ان ترضى بالخطيئة و تتعدى وصايا الرب الهنا تصدق من مالك و لا تحول وجهك عن فقير و حينئذ فوجه الرب لا يحول عنك كن رحيما على قدر طاقتك ان كان لك كثير فابذل كثيرا و ان كان لك قليل فاجتهد ان تبذل القليل عن نفس طيبة فانك تدخر لك ثوابا جميلا الى يوم الضرورة لان الصدقة تنجي من كل خطيئة و من الموت و لا تدع النفس تصير الى الظلمة ان الصدقة هي رجاء   عظيم عند الله العلي لجميع صانعيها " (طو4: 6-12)

 

المكافأة الأبدية للذين يعطون الصدقة

21. يا لها من عطية عظيمة أيها الاخوة الأعزاء، هذه العطية التي تقديمها يكون أمر عظيم في نظر الله، فإذا كان عند إهداء الأمميين للهدايا يبدو حضور القائد أو الإمبراطور عظيم ورائع ويكون كمّ التحضير والتكليف كبيراً جداً من جانب أولئك الذين يقدمون الهدايا كي ما يُرضوا هذه الشخصيات الهامة، فما بالكم لو كان الحاضر هو الله (الآب) والمسيح، فكم ينبغي أن يكون في هذه الحالة التحضير أفخم والإنفاق أكثر سخاءً عندما تجتمع القوات السمائية من أجل المشاهدة، وتجتمع كل الملائكة، حين لا يكاَفأ من يُعطي بمركبة ذات أربع خيول أو برئاسة ما بل ُتع َ طى له الحياة الابدية ولا ينال رضى الجمهور الخاوى والمؤقت، بل يقبل المكافأة الابدية التي لملكوت السماوات.

22. أما الكسالى والعُقماء الذين لا يتعبون - ولو بقليل في الأعمال الصالحة - لنوال ثمار الخلاص بسبب حبهم للمال، فليكن لهم الخزي وليُعَذِّب إستحياؤهم وخزيهم ضمائرهم غير النقية، ليضع كل واحد فيهم أمام عينيه الشيطان مع خدامه -أي مع شعب الهلاك و الموت - وهو منطلق إلى الوسط مُستثيراً أتباع المسيح - والمسيح نفسه حاضر ويدين – وهو (الشيطان) يقارن متحدياً قائل (16) : "لأجل هؤلاء الذين ترونهم حولي لم أقبل الضربات ولم أحتمل الجلد ولم أحمل الصليب ولم أسفك الدم ولم أفدِ عائلتى بثمن الآلام والدم وهكذا أيضاً لا أعدهم بملكوت سماوى ولا أدعوهم مرة أُخرى إلى الفردوس بعد ردهم إلى عدم الموت من جديد... ومع ذلك ما أغلى وأفخم الهدايا التي يحضرونها لي، وكم من تعب يتعبونه من أجلي بوسائل البذخ، إذ يرهنون أو يبيعون كل مالهم وإن لم يأتى منهم عرض متميز يُطرحون خارجاً بإهانات وإستهجان، وفي أوقات قد يصل بغضب الجمهور إلى حد الرجم حتى الموت (17) . فلترنا أيها المسيح أتباعك الذين يعطون، هؤلاء الرجال الأغنياء، فلترنا أولئك الأثرياء بثراء فاحش إن كانوا يعطون في الكنيسة – حيث أنت قائم وتنظر– تقدمات من هذا النوع بعد رهن وتوزيع ممتلكاتهم أو بالأحرى تحويلها إلى كنوز سمائيه بتبديل ما يملكونه بما هو أحسن.

فبعطاياي الفانية والأرضية لن يُطعم أحد ولن يلبس أحد ولن يُعال أحدٌ بالأكل أو بالشرب تعزي ً ة له، فكل شئ في وسط غرور من يعطى وضلال المتفرج، يفنى لأجل الكبرياء الغبي الذي للمتع الخادعة. ولكن في وسط فقرائك (أيها المسيح) فأنت مكسياً وشبعاناً وأنت َتعِد هؤلاء الذين يعطون الصدقة بالحياة الأبدية. ورغم انك تكرمهم بمكافآت إلهية ومجازاة سماوية فنادراً ما يتساوى أتباعك مع اتباعى!"

23. بماذا نجيب على كل هذا الكلام أيها الاخوة الأعزاء؟ بأي طريقة ندافع عن العقم (أي البخل) الدنس وأفكار الأغنياء المغطاة بليل مظلم؟ بأي عذر ُنبِرئهم نحن الذين أقل من خدام إبليس؟ إذ إننا لا نرد للمسيح ولو بقليل ثمن آلامه ودمه؟ لقد أعطى لنا الرب وصاياه، لقد علمنا ما الذي يجب أن يفعله خدامه واعداً بأجر لكل من يعطي صدقة ومهدداً بعقاب للعقيم (البخيل). فقد وضح لنا حُكمه وقد سبق وقال ماذا سيكون قضاءه. أي عذر ممكن أن يكون لمن لا يعمل هكذا؟ أي دفاع يكون للعقيم (البخيل)؟ فإن لم يُنفذ العبد ما أُمر به، فسوف يُنفِّذ الرب ما هدّد به. فقد قال: "ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع امامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تاسيس العالم لاني جعت فاطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فاويتموني، عريانا فكسيتموني، مريضاً فزرتموني محبوسا فاتيتم الي فيجيبه الابرار حينئذ قائلين يا رب متى رأيناك جائعا فاطعمناك او عطشانا فسقيناك و متى رأيناك غريبا فآويناك او عريانا فكسوناك و متى رأيناك مريضا او محبوسا فأتينا اليك فيجيب الملك و يقول لهم الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم ثم يقول ايضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدة لابليس و ملائكته لاني جعت فلم تطعموني عطشت فلم تسقوني كنت غريبا فلم تأووني عريانا فلم تكسوني مريضا و محبوسا فلم تزوروني حينئذ يجيبونه هم ايضا قائلين يا رب متى رأيناك جائعا او عطشانا او غريبا او عريانا او مريضا او محبوسا و لم نخدمك فيجيبهم قائلا الحق اقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا فيمضي هؤلاء الى عذاب أبدي و   الأبرار الى حياة أبدية "(مت 31:25-46)

هل كان من الممكن أن يعطينا المسيح إعلاناً أكثر وضوحاً من هذا؟ كيف يحفزِّنا على أعمال الخير والبر والرحمة أكثر من قوله أن كل ما نعطيه للفقراء والمحتاجين قد أعطى له؟ وبقوله أنه يُهان ما لم نعطِ للفقراء والمحتاجين! فمن هو في الكنيسة ولا يرِق لحال أخيه فقد يشعر بشئ إذا فكر في المسيح أي رأي المسيح في أخيه، والذي لا يفكر في رفيقه العبد الذي يكون في ضيقة وفي إحتياج، فليفكر في الرب الذي هو في ذلك الشخص الذي يحتقره.

 

فللنظر إلى السماويات !!

24. وهكذا أيها الأخوة الأحباء دعونا نقدم الطاعة بكل الإيمان بعقول مكرَّسة وبأعمال صالحه مستمرة، نحن الذين نخاف الله، نحن الذين قد تحولت عقولنا إلى الأمور السماوية والإلهية، بعد أن رفضت (عقولنا) وداست على العالم لتستحق خيراً من الرب. هيا بنا نعطى المسيح الرداء الأرضي لكي ما نحصل على الثوب السماوى، هيا بنا نعطي الطعام والشراب الدنيوي لكي ما نأتي إلى الوليمة السماوية مع إبراهيم واسحق ويعقوب، لنزرع كثيراً جداً لئلا تحصد قلي ً لا ما دام لدينا الوقت فلنفكر في النجاة والخلاص الأبدي، كما ينصحنا بولس الرسول قائلا: "فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل. فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما   أهل الإيمان" (غل 9: 10)

25 . لننظر أيها الأخوة الأحباء إلى ما كانت تفعله جماعة المؤمنين (في أيام الرسل) إذ كانت قلوبهم منذ البداية تفيض بالفضائل العظيمة، وعندما كان إيمان المؤمنين مشتعلا ً بحرارة الإيمان الجديد، قاموا ببيع منازلهم وحقولهم وبكل سرور وكرم أعطوا أثمانها للرسل ليقوموا هم بدورهم بتوزيعها على الفقراء. لقد قاموا ببيع وتوزيع ميراثهم الأرضي محوّلين أملاكهم إلى المكان الذي فيه سيحصلون على ثمار الميراث الأبدي، الذي فيه يعِدُّون مساكنهم التي سيسكنون فيها إلى الأبد.

هكذا كان فيض أعمالهم الصالحة في ذلك الوقت وكذلك توحدهم في المحبة كما نقرأ في سفر أعمال الرسل :"وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحداً يقول أن شيئا من أمواله له بل كان عندهم كل شئ مشتركاً". (أع 4: 24)

هذا يعني أننا نكون أبناء الله بالحقيقة بقوة الميلاد الروحانى، وأننا بحسب القانون السماوي نتمثل بإنصاف الله الآب لأن كل ما يأتي من الله هو للجميع في إستخدامنا له ولا يُستثنى أحد من عطاياه ونعمه، ولا يوجد أي شئ يمنع كل الجنس البشرى من التساوى في التمتع بإحسان وكرم الله، فالنهار ينير للكل بالتساوى، الشمس ترسل أشعتها والمطر يرطِّب، الريح تهب والنوم واحد لجميع النائمين ولمعان النجوم و القمر يكون أيضاً للجميع.

على هذا المثال في المساواة فإن من يمتلك شيئاً في العالم ويشارك أخوته في دخله وثماره فهو يتمثل بالله الآب لأنه يكون عادلاً ويساوي الكل في كرمه المفرط.

26. أيها الاخوة الأحباء كم يكون مجد الذين يعطون، ما هو عِظم وكمال فرحتهم عندما يفرز الرب شعبه ويوزع المكافآت بحسب استحقاقنا وأعمالنا ويمنح السماويات عوض الأرضيات والأبديات عوض الزمنيات، العظيمة عوض الصغيرة ويقدمنا للآب الذي أعادنا إليه بتقديسه لنا أي بتقديس الرب يسوع للمؤمنين ويمنحنا عدم الموت الابدى الذي أعده لنا إذ أحيانا بدمه، ويعيدنا مرة أخرى للفردوس ويفتح لنا ملكوت السماوات حسب وعده الأمين والصادق! لتثبت هذه الأمور في أذهاننا، لنفهم هذه الأمور بإيمان كامل، لنعيش هذه الأمور بمِلء القلب، لنستحق هذه الأمور من خلال سخاء الأعمال الصالحة الدائمة.

أيها الأخوة الأعزاء إن أعمال المحبة عظيمة وإلهية، هى تعزية عظيمة للمؤمنين، حارس نافع لنجاتنا، وحصن للرجاء، حماية للإيمان وعلاج للخطية. هي أمر موضوع في يد من يفعلها، أمر عظيم وسهل، تاج سلام لنا بدون أخطار الاضطهاد، نعمة حقيقية وعظيمة من الرب، ضرورية للضعفاء، عظيمة للأقوياء، بها يحمل الإنسان المسيحى نعمة روحية ويستحق الخير من المسيح الديّان ويحسب الله كمُدين له. فلنجاهد بفرح وبلا كلل لأجل إكليل أعمال الخير، لَنجري كلنا في ميدان البر حيث يتطلع الله (الآب) والمسيح علينا، ولا نتراخى في جهادنا لأجل أية رغبة في هذه الحياة أو في هذا العالم، نحن الذين أصبحنا أعظم من هذه الحياة وهذا العالم.

فإذا جاء يوم المكافأة أو يوم الإضطهاد ونحن مستعدون ومسرعون في ميدان الأعمال الصالحة هذه، فلن يتأخر الرب عن إعطاء المكافأة حسب استحقاقنا. في السلام سيعطينا نحن الذين غلبنا تاجاً أبيض لأجل أعمالنا الصالحة، وفي الإضطهاد سيعطي معها تاجاً قرمزيا لأجل آلامنا.

 

 

(*) هذه الرسالة من ترجمة "أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الكنسية". وقد قمنا باختصار المقدمة ووضعنا أهم مافيها وهو السبب الذي دفع القديس كبريانوس إلى كتابة هذه الرسالة... (الشبكة)

(1) راجع يو 14:5

(2) يشير القديس آبريانوس في هذه الجملة إلى الناموس الذي قيد الإنسان تحت نيره لكنه عجز عن أن يخلصه من ذنوبه التي خالف بها الناموس راجع رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية

(3) " أعمال البر" مثلما ذُآر في آثير من مواضع الكتاب المقدس على سبيل المثال "... كما هو مكتوب فرق أعطى للمساآين بره يبقى إلى الأبد والذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للأآل سيقدم ويكثر بذارآم وينمي غلات برآم" (2كو 9 : 10) تحمل مفهوم البر   الإحسان، لذلك أخذ القديس آبريانوس هذا المفهوم الإنجيلي وأوضحه بالأآثر في الفقرة 25 من هذا العظة.

(4) ما يقصده القديس كبريانوس من هذا الحديث عن العطاء أنه ليس عطاءاً مادياً من الخارج وإنما نابع من محبة قلبية لله وللقريب أي إيمان عامل بالمحبة (غل 6:5 ) فإذا تغيّر القلب وصار محباً لله وللقريب فهذا التغير هو التوبة الحقيقية. والكنيسة تُسمي التوبة – كحياة معاشة - "المعمودية الثانية" ومن هنا يكون العطاء هو علامة التوبة التي تسري في داخل الإنسان وبهذا يصبح الداخل نقياً. فعندما ربط القديس آبريانوس بين العطاء والمعمودية كان يقصد العطاء الذي هو ثمرة تغيير القلب بالتوبة التي هي المعمودية الثانية التي يحياها الإنسان المسيحي آلحياته بعد معموديته الأولى من خلال السر الكنسي. وسيأتي هذا الإيضاح في الفقرة رقم 8 من هذا الكتاب. ويؤآد القديس كيرلس الإسكندري في تفسيره للإنجيل بحسب القديس لوقا على أن الطمع والبخل والربح القبيح هو داء يمتلك

على القلوب غير الرحيمة، والشفاء من هذا الداء يصل بالإنسان إلى نقاء الفكر والقلب ويصير بالتالي عابداً حقيقياً لله (راجع تفسير إنجيل لوقا، للقديس كيرلس الإسكندري)

(5) راجع : (مت 2:15 )، (مر 2:7 )، (لو 11 :38)

(6) يهاجم القديس كبريانوس هنا العبادة الشكلية التي تعتمد على المظهر فقط دون أن ترتبط بأعمال حية أنظر فقرة 12 في هذا الكتاب.

(7) راجع حاشية رقم 4 في هذا الكتاب.

(8) راجع (أع 36:9)

(9) راجع (يو 13:14)

(10) راجع (تك 5: 6) (غلا 3: 6)

(11) راجع حاشية رقم 4 في هذا الكتاب.

(12) راجع (مت 3: 10)، (مت 5: 7)، (مت 7: 19)، (لو 3: 9)

(13) راجع ( 1مل 6:17 )

(14) يشير القديس كبريانوس إلى قصة طرح دانيال في جب الأسود المذآورة في تتمة دانيال (الموجودة في الترجمة السبعينية): "فالقوه في جب الأسود فكان هناك ستة أيام. وآان في الجب سبعة أسود يلقى لها آل يوم جثتان ونعجتان فلم يُلق لها حينئذ شيء لكي تفترس دانيال. وآان حبقوق النبي في أرض يهوذا، وآان قد طبخ طبيخاً وثرد خبزاً في جفنة وانطلق الى الصحراء ليحمله للحصادين. فقال ملاك الرب لحبقوق احمل الغداء الذي معك الى بابل إلى دانيال في جب الأسود. فقال حبقوق أيها السيد إني لم أر بابل قط ولا أعرف الجب. فأخذ ملاك الرب بجمته وحمله بشعر رأسه ووضعه في بابل عند الجب باندفاع روحه. فنادى حبقوق قائلا: يا دانيال يا دانيال خذ الغذاء الذي أرسله لك الله." (دا 14: 30- 38)

(15) (26 : 10 )، (لو 4 -6 : 1مل 17 )

(16) في الفقرة التالية يسرد القديس كبريانوس حواراً تخيلياً موجهاً من الشيطان إلى المسيح مقارناً رد الفعل الجاحد للإنسان تجاه محبة الله له وعلى عكس مسايرة الإنسان للشيطان رغم كراهيته له.

(17) الحديث هنا عن شكل من أشكال العادات التي شاعت عند الوثنيين.