الجهاد الحق
بسم الله الرحمن الرحيم.
الجهاد الحق
الجهاد كما يعرّفه لسان العرب هو "المبالغة و استفراغ ما في الوسع و الطاقة من قول أو فعل" و هو مشتق من الجهد بفتح الجيم أي المشقة، و الجهد برفعها أي الطاقة. و الجهاد بهذا المعنى يفيد بشكل عام بذل ما في الوسع من جهد لتحقيق هدف معين أو مجموعة من الأهداف. غير أن الكلمة اكتسبت مع الوقت معنى اصطلاحيا جعلها مرتبطة أشد الارتباط بالدلالة الدينية التي التصقت بها عبر العصور و أفرغتها من حمولتها الشاملة حتى أصبحت تفيد في ذهن العامة المعنى الشرعي الضيق الذي يعني قتال المسلم لغير المسلم إذا رفض الدخول في الإسلام أو دفع الجزية.
لكن العديد من المسلمين نبهوا إلى مسألة أن الجهاد بمعنى الخروج لحرب غير المسلمين هو فرع واحد فقط من مجموعة فروع تنتمي إلى أصل دلالي شامل للجهاد كمصطلح ديني هو جهاد النفس. و هذا الأصل الدلالي الشامل يجد مرجعيته في العديد من النصوص الدينية أهمها حديث الرسول عند عودته من غزوة تبوك و الذي أثبته السيوطي في الجامع الصغير كما يلي: "قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: مجاهدة العبد هواه" و هو حديث يعلي من ِشأن المفهوم الشامل للجهاد الذي هو جهاد النفس و يبوئه مركز الصدارة. كما تتأكد مقاصد هذا الحديث في العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن جنوح النفس إلى ارتكاب أفعال السوء مثل الآية 53 من سورة يوسف التي تقول: "وما أبرئ نفسي، إنّ النفس لأمارة بالسوء" و الآية 77 من سورة يس التي تقول: "أوَلَمْ يَرَ الإنسان أناَّ خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مُبين" و الآية 72 من سورة الأحزاب التي تقول: "إناَّ عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" ومن تم وجب جهادها أي بذل ما في الوسع من جهد لكبح جماح الشر فيها و ردها عن سبيل الخطايا بواسطة اتباع ما أمر الله به و تجنب ما نهى عنه و الدأب على ذلك عملا بما جاء في القرآن الكريم: "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" (سورة التغابن 16) و في مكان آخر "وجاهدوا في الله حقَّ جهاده" ( سورة الحج 87) و يلخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المفهوم الشامل للجهاد حين يقول في مجموع الفتاوى: "أن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان "
و الإنجيل الشريف نفسه لا يختلف في تنصيصه على هذا المفهوم الشامل للجهاد بمعنى جهاد النفس. فالصليب من أخطر الرموز التي عرفها الإنسان عبر تاريخه و أكثرها جذرية في التعبير عن هذا المفهوم, ذلك أن قول السيد المسيح: "إن أراد أحد أن يسير ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فأي من أراد أن يخلص نفسه يخسرها، ولكن من يخسر نفسه لأجلي فإنه يجدها"(متى، 16: 24-25) هو قول واضح لا غبار عليه في الحث على مجاهدة النفس, و شل ميكانيزمات الخطيئة و الشر فيها لتصبح جديرة بالولادة الجديدة التي بشر بها. كما أن مفهوم الإنسان الجديد الذي تحدث عنه بولس في الرسالة إلى مؤمني روما حين يقول مشيرا إلى السيد المسيح: "فما دمنا قد اتحدنا به في ما يشبه موته، فإننا سنتحد به أيضاً في قيامته. فنحن نعلم هذا: أن الإنسان العتيق فينا قد صُلب معه لكي يبطل جسد الخطيئة فلا نبقى عبيداً للخطيئة في ما بعد" (رومية 5:6?6) هو أيضا واضح في ارتباطه بمفهوم جهاد النفس, إذ أن صلب الإنسان العتيق يعني قتل النوازع الأمّارة بالسوء في النفس, و حملها على تجنب ما يغضب الله تعالى و العمل على اكتساب الصفات الربانية التي ترضيه, و من ثم فسح المجال أمام ولادة الإنسان الجديد المتحرر من سلطة كل خطيئة.
وقد بلغ العديد من القديسين المسيحيين و الزهاد و المتصوفة المسلمين شأوا بعيدا في مجاهدة النفس عن طريق مجموعة من الممارسات الزهدية و الرياضات الروحية من سهر وصلاة و صوم و خلوات و صمت و سياحة في الأرض و غير ذلك. و في سير هؤلاء نماذج ودروس و عبر يمكن أن يستأنس بها الإنسان المعاصر في إغناء حياته الروحية يوما بيوم, والعمل على تطويع نفسه حتى تصبح قادرة على مسايرة النمو الذي تطمح إليه روحه لأن "الروح نشيط، أما الجسد فضعيف" كما قال السيد المسيح. و هذا أبلغ تعبير عن قصور النفس المتمثلة هنا في الجسد الضعيف, و حثها ضمنيا على تجاوز هذا الضعف. على أن هذا التجاوز كما رأينا لا يمكن أن يتأتى إلا بتبني مفهوم جهاد النفس كمبدأ محوري في بناء الحياة الروحية لدى كل مؤمن.
-----------------