كونفوشيوس
ان كونفوشيوس”551- 479 ق.م “ الذي عرفته الصين القديمة، والذي تحولت آراؤه الى مدرسة فلسفية يدين بها كثير من الناس حتى الآن، شخصية فريدة في زمانها على الرغم من اختلافنا او اتفاقنا مع الآراء التي جاء بها، واذا لم يكن كونفوشيوس قد دون اقواله، وانما نقلها عنه تلاميذه والمقربون منه، في حين رفض كونفوشيوس ”التدوين الكتابي لأفكاره زاعماً انه مجرد، وسيط، وليس، مبدعاً، مجرد مجتهد وليس مكتشفاً“.
ومع اننا لسنا بصدد ما اذا كانت الكونفوشية جديرة بأن تكون فلسفة حية راهنة او انها يمكن ان تتواصل مع القرن الواحد والعشرين- كما يعتقد انصارها- فهذا امر مرهون بالزمن والناس، وفيما اذا كانت تشدهم فلسفة كونفوشيوس الى المستقبل، او انها قد تحولت الى صفحة دالة على نمط من التفكير في الماضي.
ان ما يشغلنا هنا، ان نقدم بعض ما نجده سليماً احياناً، والبقية مما وجدناه جديراً بالمناقشة.
قال كونفوشيوس” كم هو ممتع ان تتعلم وان تراجع ما تعلمت، وكم هو ممتع ان تلقى صديقاً حميما يأتيك من سفر بعيد، ويا له من رجل مهذب ذلك الذي يتجاوز عن تجاهل الناس لمكانته العالية“ ومثل هذه النظرة يمكن ان تعيش في كل زمان ومكان، فهي دالة على سلوك قديم، وانتباه صادق وانسانية حقة.
ويقول”من مكث في داره، فليطع اباه، ومن قصد الى العلم فليطع استاذه، فالامانة على من عمل، والصدق على من قال، ولتكن الصداقة للاوفياء والمعاملة بالحب لجميع الناس، وبعد، فمن بقي لديه فائض من وقت فليطالع كتب الاقدمين، ويتأمل سيرة التاريخ“.
هنا حث على سلوك اجتماعي، ودعوة الى تعميق الجذر الاسري وشده الى اكتساب المزيد من المعرفة، وتأمل تجارب الازمنة الماضية، ففيها فائدة لتجارب راهنة ولاحقة.
ويقول”لابد للعاقل الشريف ان يتحلى بوقار الجدية، اذ لا مهابة لمن لا جدية له، ولا بد ان يثابر ويتعمق في دراسته، فقليل من العلم لا ينفع بشيء، فاذا تولى شؤوناً عامة، فليفعل بنزاهة واخلاص، اذ هما المبدأ والاصل، ولا يصاحبن من هم دونه علماً ومكانة، وليسبقن الى الصواب اذا وقع في محظور او زل به الخطأ“.
وهكذا ينبغي على المرء الا يكتفي بثقافة عامة عابرة، ويدعو الى ثقافة معمقة، وان تكون صلته بمن يضيف اليه لا من يسلبه ما عرف حتى يتقدم الى الصحيح قبل سواه.
ويقول”لا ينبغي للعاقل ان يجعل ملذات العيش غاية امله، فليزهد في حل وترحال، وملبس ومال، وليكن مسعاه الى عمل باتقان،ولسان مصون، وحرص في القول وامانة في العمل، وليحاذر في الصحبة، فلا يجالسن الا من كملت اخلاقه وحسنت صفاته، فلعله مستزيد من فضائل او مستصوب لهفوات النفس، وانه لهو الطريق السالك الى احسن العلم “.
ذلك ان عيش العقلاء ليس في الملذات، وانما في حسن السلوك وفضائل الاعمال.
وقال”راقب تصرفات واحد من الناس، بما فيها من طيب او خبيث، ولاحظ الدوافع وراء تلك التصرفات، ثم راقب مدى رضا الفرد او سخطه على ما بدر منه، وهيهات ان تخفى عنك كوامن النفس او تغمض عليك دخائل الوجدان والضمير.
واضاف يقول”راجع دوماً ما سبق لك تحصيله من معرفة، تنكشف لك حجب فهم جديد وتصير جديراً بكرسي المعلم نفسه“.
ان كونفوشيوس هنا يدعونا لاختيار السلوك الافضل والتفهم الدائم، وان نتعلم من الناس والكتب والحياة.
ويقول”القراءة بلا تحليل وفهم، ارباك للذهن بلا طائل، والفكر المجرد بغير قراءة هو عين الهلاك “و”لا تقل اعرف الا اذا عرفت، فان جهلت شيئاً فقل لا اعرف، فهذا رأس الحكمة “
وسئل: بماذا يرتقي المرء منصباً ذا شرف ووجاهة؟ فأجاب”بأن يجيد الانصات، ثم يحتفظ في ذهنه بمالم يفهم، وان يحاذر عند القول فلا ينطق الا بما قد فهم حقاً، فذلك يعصم من الزلل، ثم فليتأمل كثيراً وليستبق في عقله ما لم يستسغه الفهم، فان انطلق الى العمل، فلا يقربن بيده الا ما وعى فعله، فذلك يعصم من الندم، فهكذا يصير الرجل حريصاً في قوله، امينا في عمله، فتلك تبلغ به مبلغ الشرف وعظيم المكانة .. كذلك فان رجلاً ذا علم وموهبة لا يجدر به ان يعمل مثل آلة صماء، مثل اداة منزلية رخيصة متواضعة“.
ان القول هنا، قول يفصح عن تجربة ودراية وموقف، وليس بوسع المرء تجاهل مثل هذا المنطق الذي ذهب اليه كونفوشيوس، فما نطق به هو عين الحقيقة.
وينقل عنه تجنبه اربع خصال: التواكل، والتسرع، والعناد، والتكبر.
وثلاث لا ينبغي لعاقل ان يقع فيها، التسرع في قول بغير بصيرة، فذلك طيش اللسان، والتواني عن كلمة حق، فذلك عين التخاذل، وتجاهل وجه المتحدث وسيماه، فذلك هو التعامي بصراً وبصيرة.
وثلاث يلزم للعاقل ان يضعها نصب عينيه ويطوي عليها اجفان الحذر البالغ وهي: الافتتان بالنساء عند ريعان الشباب. والاعتزاز بتمام القوة عند اكتمال النضج، ونهمة الجشع وجمع المال عند فناء الهمة في سني الشيخوخة.
ومع كل ما اوتي من الحكمة، نقف حائرين امام قوله”شدة الذكاء مثل منتهى الغباء، كلاهما متطرف، كلاهما لا يصلح.. او قوله: اصعب من يمكن التعامل معهم في الدنيا هم: النساء وارذل الرجال، لأنك اذا اقتربت منهم شتموك واذا ابتعدت عنهم اتهموك بالظلم والقوة والتعالي.
مثل هذه الاقوال تحيرنا تماماً، فهي لا تناسب طبيعة الدقة التي ينطق بها كونفوشيوس، وعمق التوجه الذي يقصده، ووضوح المعنى الذي يريد ان يصل اليه.
اما ان يضع”شدة الذكاء مع منتهى الغباء “او”النساء- كل النساء- مع ارذل الرجال “ فهو تجن لا يمكن ان يصدر عن عقل راجح وحكمة مأمولة وتجارب غنية.
ذلك ان الانسان الاحد ذكاء، والاعمق وعياً، والاكثر توقداً في فكره، هو ما نحتاجه ونتمناه، ما دام الذكاء ندرة، فان التطرف هنا ندرة. هو تطرف يعتمد فعل الذكاء الذي يتفوق على الاخرين ويسمو عليهم برجاحة العقل وتوقد الذهن وبالتالي فان تطرف الذكي، تطرف ايجابي يحسن بنا الانتباه الى دواعيه ودوافعه، لا ان نقابله ونضعه في موقع واحد مع المغفل والغبي والمتخلف عقلاً وسلوكاً، ذلك ان ما يصدر عنه هو الحمق والجهل والخطأ. اما ان يعمم صفة الرذيلة على النساء كلهن، ويقابلهن بارذل الرجال، فهو منطق محكوم بالخطأ والمبالغة والتجني والاحتقار غير المسوغ.
صحيح ان المرأة متغيرة المزاج كثيرة الاهواء، لكنها في احيان كثيرة متوقدة الذكاء، وقد تتفوق على كثير من الرجال في ومضة عقلها، في حين نجد ارذل الرجال مؤذياً في سلوكه وتدني كلامه، وبالتالي يصعب تفاهم العاقل والصادق والمنصف معه، في حين يمكن التفاهم مع المرأة، ذلك انها ليست من سلالة بشرية هي ادنى من الرجل، فمثل هذا الرأي ينطوي على ظلم وتجن، ولا يصح ان يرد على لسان ذي عقل وصاحب حكمة.
ان كونفوشيوس، شخصية مؤثرة وفاعلة وغنية في مخزونها المعرفي، وهي بالتالي جديرة بالوقوف عند اقوالها التي تجيء حكيمة، تكتنز بصدقها ونبل اهدافها، وهذا ما ننشده جميعاً لبناء قيم واعراف انسانية صادقة في كل زمان ومكان، وهذا ما يبتغيه كونفوشيوس منذ ازمنة موغلة في القدم، وتمتد الينا حتى الان، مؤكدة اختيار الطريق الامثل، طريق الصدق والحق والفضيلة.
{الصور المرفوعة على هذا المقال من ويكيبيديا الموسوعة الحرة ومصرح باستعمالها}