عشاق الله

أوغسطينوس

قديس من بلاد البربر

النشأة و التعليم

يفاجأ الكثير من أبناء المغرب العربي عندما يعرفون أن واحدا من أعظم آباء الكنيسة المسيحية هو بربري من شمال إفريقيا. إنه القديس أوغسطينوس الذي و لد في  23 نوفمبر سنة 354 ميلادية في مدينة تاغست المعروفة اليوم ب"سوق أخرس" قرب مدينة عنابة بالجزائر.

كان أبوه باتريسيوس رجلا بربريا قحا من قبائل بربر نوميديا آنذاك. لكنه كان يتمتع بالجنسية الرومانية كما جرت العادة في مستوطنات الرومان، حيث كانت بلاد شمال إفريقيا تخضع للهيمنة الرومانية. و رغم أن باتريسيوس كان وثنيا إلا أنه تزوج فتاة تدعى مونيكا و تنتمي إلى أسرة مسيحية. و قد كانت امرأة شديدة الإيمان مواظبة على الصلاة و الدعاء. و في سنة 354 ميلادية رزق هذان الزوجان بولد سمياه أوغسطينوس التي معناها الملك الصغير.

بدأ أوغسطينوس دراسته في تاغست مدينته، ثم سافر إلى مادورا لاستكمال تعليمه، و منها إلى قرطاجة بالقرب من تونس الحالية، و قد كانت قرطاجة مركزا علميا و ثقافيا مهما جدا آنذا. و هناك في قرطاجة تعرف على فتاة فقيرة أصبحت عشيقة له. فاستمرت علاقتهما الغير شرعية أربعة عشر سنة، أنجبا خلالها ابنا. و قد عارضت والدته بقوة هذه العلاقة طوال استمرارها. عن هذه العلاقة كتب اوغسطينوس فيما بعد يقول: "اتخذت لي زوجة ولم تكن شرعية، اتخذتها اشباعاً لشهوة جامحة ولم يكن لديّ سواها وحفظت معها جميع عهودي، ثم تحققت تماماً من الفرق بين الميثاق الزوجي المعقود في سبيل إعطاء الحياة وبين ما يرتكز على اشباع اللذة الحيوانية إيلاداً للبنين".

في هذه الفترة أيضا عرف عنه حبه للدراسة و تعطشه للعلوم و رغبته في التفوق على الجميع. و كان دافعه في ذلك هو التميز على الآخرين، و تمجيد ذاته بين أقرانه.

من قرطاجة شد أوغسطينوس الرحال إلى روما طلبا للمزيد من العلم. و هناك تقابل مع معلمه الأسقف أمبرسيوس Ambroiseus أسقف ميلانو، وقد كان أمبرسيوس خطيباً مفوهاً، مما جذب إليه أوغسطينوس، فتوطدت العلاقة بين الشاب و معلمه.

التوبة

كان أوغسطينوس يسكن مع صديق له اسمه اليبوس، وذات يوم جاءهما صديق أخر يدعى بونتسيانوس، حيث كان يعمل في منصب حكومي كبير، وحين رأى الكتاب المقدس في منزلهما ظن أنهما من المسيحيين المؤمنيين، ففرح وراح يسرِد لهما بعض حكايات والأمور عن الراهب المصري القديس أنطونيوس، الذي قال عنه أوغسطينوس فيما بعد "عجبنا لجهلنا إنساناً يشهد على مقربة منا لعجائبك التي أجريتها بقوة نعمتك في إطار الإيمان الصحيح، ضمن كنيستك"، ثم يقول؛ وفيما كان بونتسيانوس يَروي لنا هذه الأخبار كنت أنت أيها الرب توجّهني نحو نفسي .. وفيما كنت أشيح بنظري إلى الوراء لئلا أقابل نفسي وجهاً لوجه، كنت أنت تضعني أمام نفسي لأرى ما أنا عليه من الشناعة والقبح والقروح والأدناس، رأيت نفسي فخفتُ، ولكن أين المفر؟. إن أشحتُ بوجهي عني وجدت أمامي بونتسيانوس يقصُ عليَّ اخباره فتعود بي من جديد إلى ما كنت عليه سابقاً وتُصوِّب عليَّ نظراتي.. وفي أثناء تلك المعركة الضارية التي زرعت القلق في داخلي، هرعت إلى اليبوس، قلق الفكر والمحيَّا وصرخت قائلاً ماذا نعمل ها هنا؟. وماذا سمعت؟. الجهال يغتصبون السماء إغتصاباً ونحن بعلمنا الفارغ، نتمرغ في اللحم والدم ‍‍‍‍‍! لماذا نخجل من اللحاق بهم".

كان الله يتعامل مع أوغسطينوس في مراحل عمره المختلفة، حتى وإن كان أوغسطينوس لا يدرك معاملات الله له، فقد تحدث الله إليه في موت صديقه، وفي دراسته للفلسفة، وفي قراءته للكتاب المقدس، ومن خلال عظات الأسقف أمبرسيوس، وفي تعاليم وصلوات أمه، وها هو يتكلم إليه بحديث خاص وشيّق عن الراهب القديس أنطونيوس، ذلك الحديث الذي أخجله وجَعَل نفسه تثُور فيه، فيخرج إلى حديقة المنزل الذي يسكنه، وهناك في الحديقة ووسط أزمته وتساؤلاته الحائرة، راح يبحث عن الحقيقة، ويتأمل فيما صنعه الله معه، كان حائراً يائساً، لكن أمامه أملاً في أن يلتقي بالحقيقة، يلتقي بالله، وحين كتب يشرح هذه اللحظات التي جعلت منه قديساً في المسيح قال "ذهبت إلى البستان تحت تأثير العاصفة التي عصفت بقلبي دون أن يقوى أحد على تهدئتها، وحدك يا رب تعرف حداً لذاك الاضطراب، أما أنا فقد كنت أجهله، رغم أني كنت أسير نحو الشفاء وأموت عن الحياة، مدركاً ما كنت عليه من إثم، جاهلاً ما سأصير إليه من صلاح قريب .. انفردت في الحديقة فلحق بي اليبوس، خطوة خطوة، ومع أنه كان بجانبي بقيت أشعر بوحشة.. جلست ارتجف بشدة غضباً لكوني لم أقبل مشيئتك وميثاقك يا إلهي، تعذَّبت ونقمتُ بشدة على نفسي، تقلَّبتُ وتململتُ في قيودي وكدتُ أحطمها، لكنني بقيت موثقاً بأحد قيودها الضعيفة .. بقيت متأرجحاً بين الموت عن الموت، والحياة للحياة، استوقفتني الأباطيل والشقاوت التعسة، خليلاتي القديمات لقد كانت تشدني بطرف ثوبي اللحمي وتهمس في أذني قائلة : هل تطردنا حقاً؟ أنتركك حقاً منذ الأن وإلى الأبد؟. ثم أنخفض صوتها كثيراً فتجلت أمامي اليوم قيمة العفاف، ورن السؤال " هل يمكنك أنت أن تعمل ما تصَّل إليه؟ أولئك لم يصلوا إلى ما هم عليه بقدرتهم الشخصية، بل بقوة يسوع المسيح، الرب إلههم أرسلني إليك. وأنت فما بالك تتردد بين نعم ولا؟. ألق بنفسك بين يديه ولا تجزع فانه لا يتخلى عنك ولا يدعك تسقط .. وإذ كنت بكُليتي غائصاً في بحر من التفكير والتأمل .. قلت حتى متى يا رب؟. حتى متى تظل غاضباً؟. لا تذكر آثامنا السالفة، قلت هذا لأن آثامي مازالت تقيدني، وأجهشت بالبكاء وصرخت حتى متى يا رب؟ أغداً أم بعد غدٍ؟ ولماذا لا يكون في الحال؟ ولماذا لا أضع الأن حداً؟ .. نطقت بهذا الكلام وبكيت بكاءاً مراً بقلب منسحق، فطرق أذني بغتةً صوت من خارج من بيت جيران خُيّل إليّ أنه صوت صبي أو صبية يغني مردداً: "خذ وأقرأ‍‍‍! خذ وأقرأ‍‍‍! امتقع لوني وأصغيت بكُليتيّ .. ومن ثمَّ حبست دموعي ونهضت لأني رأيت في ذلك الصوت نداءً سماوياً يدعوني إلى أن أفتح كتاب الرسول بولس وأقرأ أول فصل يقع عليه نظري عفواً ولقد سمعت في الماضي أن القديس أنطونيوس اتعظ بعبارة من الإنجيل سمعها ذات يوم فطبقها على نفسه: "اذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني" (متى 19 :21). واهتدى إليك يارب لدى سماعه ذاك الكلام.

عدت مسرعاً إلى حيث تركت كتاب الرسول بولس فأخذته وفتحته وقرأت سراً أول فصل وقع نظري عليه: "لنسلك بلياقة كما في النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات" (رومية 13:13 -14).

وعندما قصّ أوغسطينوس على صديقه اليبوس ما حدث له، وأراه النص الكتابي الذي طالعه، أخذ اليبوس الكتاب وقرأه واستمر في القراءة حتى وصل إلى روميه 14 :1 وكان يقول "ومن هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه" واعتبر أن هذا النص يشمله هو أيضاً وقاما معاً ليخبرا مونيكا أم أوغسطينوس التي صلّت مراراً لأجل خلاص ابنها فكان فرحها لا يُوصف بهذا الخبر السار، وراحت تبارك الله الذي استجاب لدموعها التي ذرفتها أمامه حتى يستجب صلاتها، وها هو يحقق رجاءها ويشفي نفس ابنها لتضمن خلاصه الأبدي، ولم تمضِ فترة من الوقت حتى ربحت زوجها باترسيوس للمسيح، وقد كانت هذه كل أمانيها، كتب عنها أوغسطينوس في اعترافاته "وفي أيامها الأخيرة على الأرض اكتسبت زوجها اليك، وما أن أصبح مسيحياً حتى زال عنها كابوس الغم والحزن الذي سيطر عليها قبل اهتدائه، لقد كانت "خادمة خدامك" وكل من عرفها سبَّحك كثيراً وعظمَّك وأحبك فيها.. ربَّت أولادها ثم ولدتهم ثانية حين ابتعدوا عنك.. وبعد أن قبلنا نعمة عمادك رحنا نحيا من حياتها". وبعد أن رأت خلاص أولادها، واديوداتوس ابن أبنها أوغسطينوس، لم يمض من الزمن الكثير حتى رقدت في الرب، وكان أوغسطينوس يبلغ من العمر حينذاك 33 عاماً.

أوغسطينوس بعد الإيمان

بعد أن آمن أوغسطينوس بالمسيح، وملَّكه رباً وسيداً على حياته، تبدًّلت وتغيَرت حياته تماماً، ونظرته للأمور الدنيوية والعالم الحاضر أصبحت تدور في نطاق خدمة الله العليّ، لقد تأثر أوغسطينوس كثيراً برسول المسيحية بولس حين اختلى بعيداً عن العالم وأصدقائه، كما انه كامن متأثراً بحياة الراهب المصري أنطونيوس، فقرر أن يختلي بنفسه مع إلهه، مصلّياً ومتأملاً في باحثاً عن إرادة الله، ومستقبل حياته.

خرج أوغسطينوس من عزلته، وكان قد قرر قطع علاقته وصلاته بماضيه الآثم، ليكرس نفسه تماماً لخدمة الله، ورجع عائداً إلي بلدته تاجست، حيث أسس ما يشبه ديراً للتعبد عاش فيه مع بعض أصدقائه (اليبوس ونيريدوس، وأديوداتوس ابنه) نحو ثلاث سنوات، حيث كان يقوم بدراسة كلمة الله، الكتاب المقدس، وكتابة هذه التأملات في شكل دراسات وكتيبات، وكتب يوزعها على من يرغب في التعلُم ومعرفة الله وكلّمِته.

أوغسطينوس كاهنا ًوأسقفاً

سرعان ما ذاع صيت أوغسطينوس، وتقواه، وعلمِه، حتى أن الأسقف "فاليروس" أسقف مدينة هيبو، طلب إليه أن ينضم إلى الخدمة الكهنوتية، وبكل خشوع قَبِل أوغسطينوس هذه الدرجة الكهنوتية ليصبح كاهناً في عام 391م، وكان عليه أن يقوم بمهمة الوعظ والإرشاد الديني والدفاع عن الإيمان ضد الهرطقات، مما حبب إليه الشعب، وقرَّبه من "فاليروس" أكثر، فأوكل إليه إعداد المجمع الأفريقي الذي عُقِد في 393م، فكانت هذه نقطة انطلاقة أوسع لخدمة أوغسطينوس فيما بعد.

حين تقدم الأسقف فاليروس في العمر وإذ كان يحب شعبه، ويرى أن أوغسطينوس هو الأفضل في أن يتولى القيادة خلفاً له، عرض الأمر على أوريليوس أسقف قرطاجة وبقية أسقافة المجمع، فوافقوا على طلبه وَسِيم أوغسطينوس أسقفاً على مدينة هيبو، وظل أسقفاً لها لمدة 38 عاماً، حتى أنطلق إلي سماء المجد في 28 أغسطس عام 430 ميلادية، لتكون أيام عمره على الأرض، نحو 76 عاماً. بعدما أثرى الكنيسة علماً وفكراً ولاهوتاً جعل منه مؤسساً للإصلاح الذي شهدته الكنيسة على يد المصلحين الكبار، مارتن لوثر .. كلفن .. زونجلي، هؤلاء الذين استخدمهم الله سبباً في بركة الكنيسة.

من خدمة أوغسطينوس

بعدما رجع أوغسطينوس إلى تاجست، اهتم بتأسيس جماعة "خدام الله"، وقد اعتمدت هذه الجماعة حياة النسك والرهبنة والعزلة عن العالم، وعندما اختير ليكون قساً، طلب أن يؤسس ديراً للرهبنة، بل قام أيضاً بتأسيس دير للراهبات، وحين اسند إليه الأسقف فاليروس مهمة الوعظ كان بارعاً، لكنة لم يقف عند هذا الحد بل شرع في تأسيس كلية لاهوت وتعليم ديني تخرج فيها عشرة أساقفة وعدد كبير جداً من الكهنة، كما اهتم بتنظيم الكنائس المحلية، وعمل على حل بعض المشكلات المادية والاجتماعية لرعيته، بل وللوثنيين أيضاً.

أما عن خدمة الكتابة والتأليف والرد على الهرطقات فقد كتب الكثير من الكتب والمقالات الدفاعية ليرد بها على الهرطقات والتعاليم المضلة في وقته، ومن أشهرها الآريوسية.

أما عن كتاباته الأخرى فيأتي كتاب "الاعترافات" من أهمها، وقد كتب كتب وبحوث عقائدية، وأخلاقية، وكتب في شرح الكتاب المقدس، وغيرها من الكتب الروحية.

(مع شكر خاص للأصدقاء في موقع النور)