عشاق الله

يوجنا الصليبي: القديس المعلم

يوحنا الصليبي: القديس المعلم


"عند الغروب سنُحاسب على الحب"

 

وحدها النفوس الكبيرة تتعشّق تسلّق الجبال، وتستهويها القمم. والقديس يوحنا الصليب هو من تلك النفوس الكبيرة ومن العمالقة الذين حملوا الصليب وصعدوا جبل الجلجلة كما صعدها المسيح، ووصلوا خلفه الى القِمّة. إنّه قدّيس لكلّ العصور وخاصة لعصرنا الذي طغت عليه المادّة... فهو صوفيّ ٌ ومرشدٌٌ ومبشّرٌ وشاعرٌ ومصلوب وقدّيس ومعلّمُ الكنيسة الجامعة. أجل! لقد عاش في القرن السادس عشر، ولكنّنا بالرغم من ذلك، نخاله من المعاصرين لنا، ذلك لأنّ حياته وتعاليمه وروحانيّته تظلّ أكبر أمثولة وموعظة لعالمٍ كعالمنا حقّّق المعجزات في التكنولوجيا ووصل الى القمر ولكنّه فَقَدَ بعضاً من نفسه وروحانيّته المسيحيّة الإنجيليّة.

خلاصة تعاليمه:

- أيّها الناس، أيّها المسيحيّون: أنتم خُلقتم لله. لماذا تتلهّون إذاً بالدناءات والمقتنيات ؟ (النشيد الروحيّ39/1).
- وحدها محبّة الصليب تقود الى عرش الله، وعلى هذه المحبّة سوف نُحاسَب عند الغروب.
- وحيث لا محبّة، ضع محبّة، فتلاقي محبّة.
عاش يوحنا حياة المحبّة والتضحية، حياة التقشّف والإماتة والتجرّد عن كلّ شيء فعشق الصليب وبه وصل الى القداسة...


حداثته
في بيتٍ فقيرٍ غنيّ بالحبّ الزوجي ّ، وُلِد يوحنا سنة 1542 في بلدة Fontiveros من أعمال إسبانيا. توفّي والده وهو في الثانية من عمره. فشمّرت والدته كاترين عن ساعدَيها، وأخذت تعمل في الحياكة من الصباح حتى المساء، لكي تربح خبز عائلتها بعرق جبينها.
وكان يوحنا الصغير ينظر الى أناملها والى خيوط الكتّان تروح وتجيء وتتشابك، ومنها تعلّم يوحنا أنّ حياتنا على الأرض تُحاك يومًا بعد يوم كنسيج الكتّان، وحين يتمزّق ذاك النسيج، ستحظى النفس برؤية الله وجهًا لوجه.
كان يوحنا في طفولته يحبّ اللهو كسائر الأولاد. وقد ذهب يومًا مع بعض رفاقه للّعب قرب مستنقعٍ، فإذا بقدمِه تزلُّ فيسقط في المستنقع... فيغمره الماء الآسن. فإذا بالرفاق يهرعون لطلب النجدة. وبينما يوحنا لا يزال في المستنقع، إذا به يرى سيّدة جميلة تنحني نحوه وتقول: أيّها الولد الصغير أعطني يدك وأنا أنتشلك من الماء... مدّ يوحنا ذراعيه وما لبث أن أعادهما، إذ كيف سيضع يديه المتّسختين بالوحل في يديّ ملكة السماء الطاهرتين. كلا! فمن الأفضل له أن يغرق.
ومرَّ من هناك احد القرويين الذي مدَّ اليه "مسّاسه" فتعلّق به يوحنا وخرج الى اليابسة.
ولمّا بلغ الثانية عشرة من العمر، أخذ يوحنا يَبرزُ بين الطلا ّب كتلميذٍ له عقلٌ رشيد وعينان ذكيّتان.
وفي سنّ الرابعة عشرة عمل ممرّضًا في إحدى المستشفيات، فكان يقوم بهذا العمل بكلّ محبّة وتضحية. يتفقّد غرف المستشفى، مسرعًا الى حيث يتعالى أنين المرضى وحشرجة المنازعين. فكان يغسل القروح الكريهة والجروح المعفّنة بكلّ غيرةٍ وحماسةٍ ومحبّة... وما كان يربحه من عمله كممرّض، كان يُنفقه على دراسته. فدرس الفلسفة عند الآباء اليسوعيين، وغالبًا ما اضطرّ الى دراستها في الليل على لهب شمعة... يوحنا الراهب
كان قلب يوحنا يصبو دائمًا الى فوق، الى الله. فلماذا لا يترك كلّ شيء في سبيل محبّته وخدمته ! لماذا لا يترك ذاته برمّتها بين يديه !
ألم يقل المسيح: مَن أراد أن يتبعني فليزهد بنفسه ويحمل صليبه كلَّ يومٍ ويتبعني... ناداه المسيح فلبّى يوحنا النداء. وهذه هي الدعوة. ولربما يسأل أحدنا وأيّ فائدةٍ من شابٍ ينزوي في دير مقفل ! أليس من الأفضل أن يتابع عمله كممرّض مثلاً، ويتجنّد طيلة حياته لأعمال الرحمة!
الجواب هو أنّ لكلّ انسان طريقاً ودعوة... ولكلّ انسان أعطى الربّ عددا ٌ من الوزنات عليه استثمارها.
فإنّ الله كان يدعو يوحنا الى قمّة الجبل، ولبلوغ القمّة، كان عليه السير حثيثٌا في طرقاتٍ وعرةٍ وتضحياتٍ جسيمةٍ وتجرّدٍ مُضنٍ ومُكلف. فإمّا الحصول على كلّ شيء أي الله، وإمّا اللا شيء.
"وهل من المعقول مِمَّن يريد أن يتسلّق جبلاً شامخًا أن يُبحر وراءه مركبة ً ثقيلة ً مكدّسة ً بالأحمال"!!! يسأل يوحنا. ويوحنا هذا، عندما قرع باب الدير، لم يكن له مطمعٌ آخر إلا َّ السير َ والصعودَ في تلك الطريق العارية والوعرة، الشبيهة بطريق الجلجلة، حاملاً على مثال معلّمه، الصليب. فالصليب وحده يقوّي ويُوصل الى قمّة الكمال. فتوكّأ عليه يوحنا ومشى. وغالبًا ما رزح تحت الصليب على مثال معلّمه.
دخل يوحنا الدير، ففُوجىء بسهولة العيش فيه: فالقوانين سهلة وخفيفة. والرهبان يعيشون حياةالرخاء والإكتفاء: مآكل، اجتماعات، زيارات... وبكلمة مختصرة، حياتهم تُشبه حياة َ أيّ مسيحيٍّ تقيٍّ. وكلّ ما يميّزهم عن غيرهم هي حياة البتوليّة...
فأخذ يوحنا يتساءل في نفسه تماماً كما تساءلت من قبله تريزا الأفيلية: أين التجرّد في الحياة الرهبانيّة، أين الإماتة والتواضع، أين التفرّغ المُطلَق لله والصلاة، أين الفقر الرهباني ّ !!!
إنّ حياة ً كهذه لم تكن لتُشبعَ ظمأه الشديد الى حياة الكمال وحمل الصليب... لذلك أخذ يمارس وهو في الدير، حياة الشدّة، متّبعًا القانون الرهبانيّ المتشدّد، الذي لم يكن الرهبان يمارسونه نظراً الى صعوبات كثيرة، ونظراً لانتشار الأوبئة وتسرّب عاداتٍ دنيويّةٍ كثيرةٍ الى الأديار، فأثّرت فيها كما يؤثّر التآكل في الصخور الجبليّة. او كما ينخر الماء في الصخور العاتية.
وبدأ يوحنا يدرس اللاهوت لمدة أربع سنوات في جامعة سلمنكا Salamanca. وكان من المتفوّقين. وترقّى بعدها الى درجة الكهنوت سنة 1567.

تريزا ويوحنا: التحوّل الكبير- الإصلاح
وحدث ان التقت تريزا الكبيرة بيوحنا. وكانت قد عملت منذ سنوات على إصلاح الكرمليّات وأعربت له عن تصميمها على إصلاح حياة الرهبان الكرمليّين ايضًا. واثناء الحديث، اكتشفت تريزا أنّها وجدت في يوحنا حجر الزاوية في عمليّة الإصلاح هذه.
إنّه الراهب المطلوب الذي سيقوم بهذا العمل. فهو يتمتّع بذكاءٍ حاد، ونظرة نقيّة، وصفاءِ نفس، وثبات عزيمة. كيف لا وقد عانت الكثير من اجل الإصلاح، وما زالت تعاني. ويوحنا سوف يمرّ بالصعوبات نفسها، لأنّ المعركة التي سوف يخوضها مع إخوته الرهبان، لن تكون سهلة. والصليب الذي سيحمله سيكون ضخمًا وثقيلاً.
وعُيّن يوحنا الكاهن الشاب معلّمًا للمبتدئين من الرهبان الشباب. وكان همّه أن يقود إخوته الشباب في طريقٍ يكون فيها الدرس والصلاة متضامنين. فهم رهبان ودارسون، ولكنّهم رهبان اولاً. وفي الوقت ذاته طلبت منه تريزا ان يأخذ على عاتقه إرشاد الراهبات، فقام بالمهمّة على أكمل وجه. فكان المعرّفَ والمرشدَ والدلا ّل َ الى الله. وقد شهدت بذلك القديسة تريزا نفسها إذ قالت عنه:
« إنّه من غير الممكن ان تتكلم معه عن الله من دون ان يُخطف بالروح في الحال، ويختطفَ معه الآخرين»

هبوب العاصفة واعتقال يوحنا
إنّ حالة الإصلاح الكرمليّ التي سار بها يوحنا وتريزا، أخذت تلقى بعض التوتّر من فئةٍ من الكرمليّين الذين كانوا يفضّلون القوانين الملطّفة والسهلة، وينفرون من كلّ إصلاحٍ ويعارضون كلّ عملٍ تشدّديّ وإصلاحيّ يأتي من هذين الشخصين المزعجين.
وأخذ يوحنا يتابع بصمتٍ وببصيرةٍ نيّرة هبوب العاصفة القادمة. وكما قلنا كان يوحنا قد بدأ حياة ً صارمة ً في الطعام واللباس، وفي ساعتيّ تأمّل عقليّ في اليوم، وفي حياةِ عملٍ وصلاةٍ متواصلين، وفي السكن في منزلٍ خشبيّ فقير، فاعتُبر هذا من قبل بعض الكرمليّين تمرّدٌ لا يجوز التساهل فيه.
وفي احد الأيام، وما إن خيّم الظلام حتى أقبل رجالٌ مسلّحون مع بعض الكرمليّين الرافضين عمليّة الإصلاح هذه، فهجموا على مسكنه الخشبيّ، وألقوا القبض عليه وعلى راهب آخر هو الأب جرمانوس، وساقوهما كمجرمين الى السجن... فما كان من يوحنا إلا َّ ان لزم الصمت واستسلم لهم بكلّ طواعيّة، تمامًا كما حدث يومًا ليسوع في بستان الزيتون...
وبعد ان عصبوا عينيّ الأبوين وقادوهما الى دير طليطلة، حيث أنزلوا بهما القصاص الأول. فجلدوهما جلداً قاسيًا داميًا وبعدئذٍ حبسوا كلاً منهما في غرفةٍ منفردةٍ، وأوصدوا عليهما الأبواب.
مضى شهر على تلك الليلة المشؤومة، وتريزا مشغولة ُ البال بشأن يوحنا: أين هو. فلا خبر عنه ولا إشارة ولا رسالة...
لقد كان في دير طليطلة، في غرفة مظلمة ولن يُفرجوا عنه إلا َّ إذا أقلع عن تجنّده لعمل الإصلاح. وهذا الشيء الوحيد الذي لن يسلّم به الأب يوحنا !...
ولمّا لم ينفع التهديدُ ولا السجن، لجأوا الى الوعود والمغريات، فرفضها كلّها... فإعتُبِر كمتمرّدٍ عاصٍ متعجرف. إذن! فليبقَ في السجن. وإنّه لَباقٍ. وغرفة سجنه أشبه بمستودعٍ. مساحتها ثلاثة أمتار بمترين. لا ينفذ اليها الهواء إلا َّ من طاقة صغيرة في أعلى الحائط. طعامه شبه تافه...
وهو على مثال معلّمه يسوع المسيح، كان يلزم الصمت ولا يفوه بكلمة إلا َّ عندما يُضطرُّ للدفاع عن نفسه، عن أمورٍ زيّفتها الأهواء وشوّهتها الأكاذيب.
وكان يوحنا يعلم أن لا ورد من دون أشواك ولا ربيع من دون شتاء ولا قيامة من دون جلجلة ولا قداسة من دون حمل الصليب وعشقه...
وكما أنّ إخوة يوسف بن يعقوب، لمّا أسلموا أخاهم يوسف الى تجّارٍ اسماعليين، لم يدركوا في الحال أنّهم كانوا أداة ً في يد الله. إذ إنّ ذاك الذي باعوه بخبثٍ ونيّةٍ شريرة سوف يكون هو نفسه المنقذ في أيام القحط، هكذا كان لا بدَّ ليوحنا من أن يدخل في جوف الليل المُظلم، بعدما أعرض عنه اخوته الرهبان، وبعدما صرخ من أعماق ليله: «إلهي! إلهي! لماذا خذلتني؟» وكأنّ الله قد انحاز الى مضايقيه وتركه وحده. فلا يحقّ له إقامة القدّاس ولا الإعتراف ولا التناول. وكأنّه ساقط في حرمٍ كنسيّ.
لم يُسمح له إلا َّ بكتاب الصلاة، فكان رفيق وحدته الموحشة.
ونزولاً عند طلب الأب يوحنا اعطاءه قلمًا وبعض الأوراق، لبّى راهبٌ شابٌ محبٌ يقوم بحراسته، لبّى طلبه وأتحفه سرًّا ببعض الورق والحبر. وفي سجنه المظلم أخذ يوحنا يكتب مقاطعَ وأبياتٍ شعريّةً. فكتب «الليل المظلم» و"النشيد الروحيّ" وهي قصائد روحيّة مصبوغة بالصبغة الإلهيّة والروحانيّة الصوفيّة الإنسانيّة...

النجاة
عزم يوحنا على الفرار من سجنه بعد تردّد وقد مضى على سجنه تسعة أشهرٍ . فَصَنَعَ حبل النجاة من غطائيه بعد شقّهما وفتلهما رابطًا الأطراف بعضها ببعض. ثم حلّ البراغي عن شباك السجن وتدلّى منه ولاذ بالفرار. وتوجّه الى دير الراهبات الكرمليّات المحصّنات، وأخبرهنّ أنّ العذراء سيّدة الكرمل هي التي سمحت له بالفرار، لأنّ أعمالاً عظيمة تنتظره في سبيل الإصلاح...
ويمّم الأب يوحنا شطر الأندلس وبلغ دير الجلجلة حيث رحّب به إخوته الرهبان الذين صمّموا على إتّباع القانون المتشدّد والسير على خطاه والإرتقاء الى قمّة الكمال الشاقّة. (وكما انتشلته العذراء، وهو صغير، من مستنقع Fontiveros، هكذا ايضًا قد نجّته من سجن طليطلة.)العمل الرسوليّ
أنشأ الكرمليّون المتشدّدون معهداً خاصًأ بهم في مدينة بِيَاثْ Beas، وعيّنوا الأب يوحنا رئيسًا عليه. فغادر دير الجلجلة، دير العزلة والصمت، وبدأ يعمل على خطين متوازيين: حياة تأمّلٍ وصلاةٍ، من جهة، وحياة رسالةٍ ووعظٍ وإرشادٍ، من جهة أخرى.
وعندما سُئل يوحنا عن قدرته على التوفيق بين هذين الخطّين أجاب: « إنّهما مرتبطان معًا أشدّ الإرتباط، لا بل يُصبحان وحدة لا تتجزّأ. والبرهان أنّ المسيح نفسه اختار وعاش هذا النمط من الحياة على أنّه الأكمل ». وهكذا تلميذ المسيح الحقّ، لا يعمل على أن يذهب وحده الى السماء بل يصطحب معه عدداً من النفوس ايضًا. وعمله هذا ناتج ٌ عن محبّته لله الذي يريد أن يخلص جميع الناس ويصلوا اليه.
وفي هذا الدير كان يوحنا يقوم بجميع الخدمات الشاقّة من كناسةٍ ومسحٍ للأرض وغسلٍ للصحون وعنايةٍ بالمرضى. وهذه الأعمال والتضحيات مصحوبة بصلاته اليوميّة. وكان يوحنا يقدّس نفسه ويسعى الى تقديس نفوس إخوته... كتاباته
بلغ يوحنا دير غرناطة فاستقبله الإخوة بكلّ ترحابٍ وسرورٍ. وكان قد وطّد العزم على أن يقود كلّ راهبٍ في طريق الروح والإتّحاد بالله. فشرع يوحنا يخط ّ القسم الأكبر من تآليفه الروحيّة الأربعة التي استحقّت له لقب « ملفان الكنيسة الجامعة » فكتب: القصائد والأقوال والحكم والرسائل (الأعمال الصغرى) صعود جبل الكرمل، الليل المُظلم، النشيد الروحيّ، شعلة الحبّ الحيّة.
أمّا «النشيد الروحيّ» فهو نشيد صوفي يشبّه مسيرة المسيحيّ الروحيّة بمغامرة تجعل النفس المجروحة بالحبّ، تبحث عن حبيبها في كلّ مكان، الى أن يتمّ اللقاء بينهما. وهذه هي الخطوبة الروحيّة وبعد الخطوبة يأتي القِران الروحيّ... ومن ثم يُصبح الإتّحاد بالحبيب هو الهدف وهو الغاية والمعنى.
تعبّر كتابات يوحنا عن العمق والتعطّش الى الماء الحيّ الذي قال يسوع عنه للسامريّة: « مَن كان عطشانًا فليأتِ اليَّ » (يوحنا7/27)، فإلى هذا الينبوع دعا يوحنا كلَّ إنسانٍ يبحث عن السعادة...


السلطة الكنسية تُثبّت فرع الرهبان المُصلحين الحُفاة
عُيّن يوحنا نائبًا إقليميًّا على الأندلس، أي مسؤولاً روحيًّا وماديًّا عن جميع الأديار الكرمليّة المنتشرة في الأندلس، سواءً كانت للرهبان او للراهبات... فكان يزور كلّ ديرٍ مهيّئًا لتأسيساتٍ جديدة، محتملاً مشقّات الأسفار في ذلك العصر، في البرد وفي الحرّ.
وفي سنة 1588 تمَّ افتتاح أول مجمع عام للرهبان الحُفاة او المتشدّدين، نالوا على أثره اعترافًا وتثبيتًا لرهبانيّتهم من البابا سكستوس الخامس. فقُسّمت الرهبانيّة الى فرعين: فرع الرهبان المُلطّفين. وفرع الرهبان المُصلحين أو الحُفاة.
وكان على يوحنا أن يقوم بأعمالٍ جديدةٍ شاقّة منها: كيفيّة قبول المبتدئين وكيفيّة النذور وتعيين إقامة الرهبان وانتخاب الرؤساء. وقد كانت صعبة عليه، حتى إنّه صارح يومًا أحد إخوته فقال: « حيثما أتعامل مع الناس أجدني أكثر تعثّراً منه مع بناء دير من الحجارة.

مرضه ووفاته
أمضى يوحنا سنواته الأخيرة في دير منعزل في Penuela، التي هي واحة السلام والطمأنينة والاستراحة اللذيذة، قبيل الأسابيع الأخيرة التي ستسحق الجسد بأشدّ أنواع العذاب حتى تتمّ مشابهته ليسوع المصلوب...
اشتدّت الحمّى على يوحنا وأنهكت قواه، وهو في دير Penuela البعيد عن كلّ وسيلةٍ طبيّة. فاضُطرّ أن يركب حماراً ويذهب الى المدينة للإستشفاء... ولمَّا عاينه الطبيب لأول مرّةٍ ذُهِلَ عندما رأى دمامل خمسة خطيرة في رجله... إذاً لا بدَّ من أن يُجري له على الفور عمليّاتٍ جراحيّةٍ مؤلمةٍ علمًا بأنّ تخدير الأعصاب أي « البنج » لم يكن معروفًا في تلك الأيام. فقاسى يوحنا أشدّ الآلام وخصوصًا ألم الكيّ بحديدٍ محمّى. فكان يقدّم لله ما يتحمّله من عذابٍ، متذكّراً آلام يسوع على الصليب. كما كان يضمّ وهو على فراش الألم، تمثال المصلوب الى صدره.
وعلم يوحنا أنّ ّساعة موته قد أصبحت وشيكة، رغم العلاجات المتواصلة. واشتدّت عليه وطأة الحمّى. فأخذ يردّد المزمور القائل: « فرحتُ بالقائلين لي، الى بيت الربّ أنطلق » !
ومُسِحَ بالزيت المقدّس. وكإبنٍ بارّ للعذراء سيّدة الكرمل، هو الذي حمل ثوبها المبارك طيلة حياته، هتف قائلاً: لتكن مباركة ً السيّدة العذراء التي تشاء أن أغادر هذه الحياة يوم هذا السبت بالذات. عندئذٍ دعا الإخوة الرهبان، وطلب اليهم أن يتلوا معه المزمور: « من الأعماق صرختُ اليك يا ربّ ». ثم المزمور: « إرحمني يا الله كعظيم رحمتك ». ثم طلب الزاد الأخير. ولمّا أحضروه هتف قائلاً: « من الآن يا ربّ سوف لا أراك بعينيّ الجسد بل وجهًا لوجه ».
وسأل يوحنا كم الساعة فقيل له: قبيل منتصف الليل ـ فقال: « عند منتصف الليل سأكون أتلو صلاة الصبح في السماء بحضرة يسوع المسيح ». ثم هتف قائلاً: يا ربّ في يديك أستودع روحي. وأسلم الروح وكان ذلك في 14 كانون الأول 1591 وله من العمر 49 سنة. يوحنا الصليب قديس وشفيع ومعلّم
دُفِنَ يوحنا في مدينة "عبيدة" Ubeda. ونُقِلَ جثمانه بعد سنتين الى مدينة Segovia. وسنة 1594 عُقِدَ مجمع رهبانيّ عام أُعلن فيه أنّ يوحنا الصليب هو أولُ راهبٍ كرمليّ حافٍ .
والبابا كليمنضس العاشر أعلنه طوباويًّا سنة 1675.
والبابا بينيدكتس الثالث عشر أعلنه قدّيسًا سنة 1726.
والبابا بيوس الحادي عشر أعلنه معلّمًا للكنيسة جمعاء سنة1926.
والشعراء الإسبان أعلنوه شفيعًا خاصًا بهم سنة1952.