الأخت إيمانويل: قديسة الزبالين
ولدت الأخت إيمانويل (اسمها الحقيقى مادلين سانكان) فى السادس عشر من نوفمبر عام 1908 فى بروكسل من أب فرنسى وأم بلجيكية. كانت تنتمى إلى أسرة غنية وهى الابنة الثانية بين ثلاثة أطفال.
فى عام 1914، تعرضت لمأساة وهى لا تزال طفلة صغيرة، ستكون لها تأثير عظيم فى اختيارها لمسار حياتها القادم. كانت على أحد الشواطىء عندما شاهدت والدها يسبح وسط الأمواج، ثم يبتسم لها، وفجأة يختفى من أمام أعينها إلى الأبد.
أكدت الأخت إيمانويل عدة مرات أن هذا المشهد جعلها تدرك تماما طبيعة فناء الأشياء مهما تخيلنا دوامها: "لا يمكننا التشبث بأمواج الحياة. لذلك فقد سعت للبحث عن المطلق وليس الفانى".. هذا المطلق وجدته الأخت إيمانويل فى الحياة الدينية. وهكذا اتخذت قرارها.
فى 1929 التحقت بدير نوتردام فى سيون. ثم كرست بعدها أربعين عاما من حياتها للتدريس للفتيات فى اسطانبول وتونس وغيرها، إلا أنها وجدت نفسها تقوم بتعليم فتيات الطبقات الغنية، وهى التى كانت تحلم أن تموت شهيدة أو تهب حياتها لخدمة الفقراء. لذلك عندما حانت لحظة التقاعد عند بلغوها الثانية والستين من عمرها، سعت الأم إيمانويل للحصول على إذن من رؤسائها بالسفر إلى القاهرة.
رسالة الأخت إيمانويل فى مصر
جاءت إلى مصر وهى تهدف إلى خدمة مصابى الجذام، إلا أن هؤلاء المرضى تم وضعهم داخل منطقة عسكرية، مما كان يستدعى حصولها على تصريح من وزارتى الصحة والخارجية، أى مجموعة من الإجراءات المعقدة، التى دفعتها إلى التوجه إلى منطقة الزبالين. فحطت رحالها فى المقطم داخل كوخ وسط أكواخ الزبالين لتبدأ رحلتها فى مصر وتصبح "الأخت إيمانويل رفيقة جامعى القمامة فى القاهرة".
أما باقى القصة، فهى تحاكى الأسطورة، التى ترويها الأخت إيمانويل بنفسها فى العديد من الكتب التى قامت بتأليفها، منها "غنى الفقر" و"أسرار الحياة" و"يلا يا شباب"، و"الآخرون هم الفردوس"... تتحدث عن البراغيث والفئران التى تجرى بين رجليها، والنساء اللاتى يتعرضن من أزواجهن للضرب ضربا مبرحا، والصبيان الذين يتعاطون أردأ أنواع الكحول ويتقاتلون فيما بينهم بالسكاكين... وكذلك محو أمية أطفال هذه المنطقة، وشعور أهاليهم بالفخر، والشباب الذين اصطحبتهم لرؤية النيل لأول مرة فى حياتهم وصيحات الفرح الذين شعروا به مهللين: "البحر! البحر!".
افتتحت هذه الراهبة الشجاعة فى المطرية، مجمعا يضم عيادات وحضانات أطفال، ومركز محو أمية. وأنشأت بعدها جمعية "أصدقاء الأخت إيمانويل" التى كانت مهمتها مساعدة آلاف من الأطفال الفقراء. سعت بالأخص إلى تحرير المرأة، بدءا من تعليم الفتيات الصغيرات.. الأمر الذى مثل مهمة شاقة بالنسبة لها، فى هذا المجتمع الذكورى، الذى يعتقد فيه الرجل أنه وحده يملك جميع الحقوق. كانت تحب كل أهالى منطقة الزبالين الذين كانت تقدرهم وترى فيهم رفاقا حقيقيين، لأنهم كما كانت تصفهم "يتعاملون على طبيعتهم، لا يرتدون أقنعة كما نفعل نحن فى بلدنا".
ذكرت صحيفة لاليبر بلجيك الحملة التى قامت بها الأخت إيمانويل عام 1984، متوجهة إلى قراء هذه الصحيفة لجمع تبرعات وصلت إلى 6 ملايين فرانك بلجيكى والمئات من أجزاء لعبة الليجو لصالح الأطفال وأهالى منطقة الزبالين فى مصر، الذين يعيشون فى فقر مدقع. وقد شكرتهم قائلة: "يستطيع الآن الأطفال بناء منازل من لعبة الليجو، فى الوقت الذى يشيد فيه أهاليهم منازل حقيقية مضيئة، تضحك من الفرحة، مثل قلبى، تحت شمس مصرنا الجميلة".
لا فرق بين مسلم ومسيحى
طوال مدة إقامتها فى مصر، لم تكن الأخت إيمانويل تميز فى تعاملها بين مسلم ومسيحى، كانت تقدم المساعدة للجميع وتبذل كل ما بوسعها للتقريب بين الاثنين. وبالتالى كان الجميع، مسلمين أو مسيحيين، يحبونها. كانت خطة عملها واضحة: "لا محاولة لدعوة المسلمين لترك دينهم، وإنما محاولة للفهم المتبادل، عن طريق المحبة من خلال كل الأديان".. وقد علقت على باب الكوخ التى تسكن فيه هلال وصليب ووضعت جملة "الله محبة". كانت على الدوام تدعو إلى " احترام الآخر".. وتردد قائلة: "على عكس ما قال كاتب الوجودية الفرنسى جون بول سارتر: الآخرون هم الجحيم.. أقول إن الآخرين هم الجنة، بشرط وجود قدر ما من المحبة فى قلوبنا.. ولقد قضيت عشرين عاما فى الجنة بالقرب من الزبالين فى القاهرة".
عندما أجبرتها الرهبانية التى تنتمى إليها بالعودة إلى فرنسا للتقاعد لم تكن تريد ترك "إخواتها وأهلها" فى مصر كما كانت تطلق عليهم.. بل كررت أكثر من مرة رغبتها فى أنها تفضل "الموت مع أهلها المصريين من جامعى القمامة"، إلا أن التقاعد لم يعنى لها المكوث فى البيت، بل بداية لكى تصبح ناشطة إعلامية تدعو لمقاومة الفقر والنضال من أجل المشردين والمهاجرين غير الشرعيين.. أخذت تجول العالم وتظهر فى وسائل الإعلام لجمع الأموال لصالح الفقراء. نحجت بالفعل فى مهمتها بفضل إيمانها القوى بأهمية رسالتها، وكذلك حسها الفكاهى وصراحتها المعهودة التى حباها بهما الله، والتى كانت تجذب بهما الجمهور للتعاطف مع الفقراء ومساعدتهم. حتى أنها دعت إلى ضرورة قيام الفاتيكان ببيع بعض من مقتنياته للمتاحف العالمية، وتوزيع ثمنها على الفقراء!!
يكمن السر الحقيقى فى نجاح رسالتها التى لم تتوقف لحظة حتى نهاية عمرها عن تحقيقها بكل ما أوتيت من إصرار، فى إيمانها وقناعتها أنه لا وقت للراحة فى حياتها.. إذ أن "الراحة الحقيقية ستجدها فى الجنة، بالقرب من خالقها".
--اقرأ مقالها يسوع كما عرفته