الصوم المسيحي
الصـوم
الأب منيف حمصي
الانسان هو ما يؤكل. بهذه الكلمات صاغ الفيلسوف المادي فويرباخ، نظرته ورأيه في الانسان.
والانسان، - شئنا أم أبينا-، هو كائن جائع، انه كثير التطلعات، وكثير الآمال، لا يتوقف عند حد، ولا يكتفي بما هو قائم. انه مخلوق طموح. انه كينونة لا حدود لها. أليس هو مخلوقا على صورة الله؟
الكتاب المقدس يصور الانسان على الأساس التالي من المعطيات: "طوبى للجياع الآن، فإنكم ستشبعون". "من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيّ وأنا فيه". وأيضا:"أنا هو الخبز الحي النازل من السماء". "....وكانوا يشربون من الصخرة، والصخرة كانت المسيح". وأيضا: "خذوا كلوا...."."اشربوا منه كلكم هذا هو دمي...". وأيضا:"....ثم قال لعبده اذهب لدعوة الجميع الى مائدتي...." وغيرها....
الكتاب الإلهي يصور الانسان كائنا جائعا. في الاساس، الانسان من الكون، ومن مادته. انه من التراب. لهذا نقول انه عالم صغير(microcosm) من الارض وتربتها يتناول الانسان مادة الكون، ومركبات الكون. الانسان يطمح الى ابتلاع الدنيا كي يحيلها الى ذرات كيانه. ويتمنى لو يقدر ان يمتلك الكون ويحتجزه في ركن من اركان وجوده.
وحتى لو تسنى له ما يريد، فإنه سيبقى مخلوقا جائعا. سيبقى في جوع لا يُسد، وعطش لا يرتوي. وكل ذلك لأن فراغ كيانه، وأعماقه البعيدة لا يملأها الى الله. سر الانسان من سر الله، لأنه مخلوق على صورة الله.
الانسان والكون في جدلية، وفي مد وجذر. فهو، اي الانسان، يريد ان بيتلع الدنيا، الا انه لن يحظى بذلك، لأنه من التراب، والى التراب يعود. وهذه المعركة العميقة التي تضج اصداؤها في دنيانا اليومية، أعنى معركة الانعتاق من الترابية الرابضة فوق آمالنا وتطلعاتنا، ستبقى ابدا تشغل قلوبنا، لا سيما واننا الى التراب سنعود. ولكن رجائنا بالله الذي وعدنا انه سيرفع ترابيتنا من هشاشتها وحضيضها الى علياء المجد، ليجلسها عن يمين القدرة في الأعالي.
وحتى ذلك الحين، تبقى الوليمة، الصورة المثلى للحياة المرجوة والمعاشة بآن معا:"...لتأكلوا وتشربوا على مائدتي، في ملكوتي". سيبقى العشاء السري، وعجيبة الخمسة ارغفة والسمكتين، خير تعبير عن جوعنا الى الله، وشبعنا بالله.
وهنا يبرز سؤال: اذا كان الله، هو الذي يروي عطشنا، ويسد جوعنا، فلماذا نأكل من نتاج الأرض؟ لماذا ننشغل بنمو اجسادنا، ونمو نفوسنا؟ واذا كانت حاجتنا للعالم، ماسة بهذا المقدار، - لأننا فيه نغتذي وننمو- فما هي الحياة التي ينشدها المسيحي؟ هل يطمح المسيحي الى حياة غير الحياة القائمة؟ هل هناك حياتان؟ هل تستمر حياتنا بغير ما نأكل؟ هل هناك ما يمدنا بالوجود غير الاكل والطعام؟
اجل، الى هذا اشار الرب عندما قال:"ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله". الأكل هو قانون الحياة الدنيا وشرعتها. لأننا في الدهر الآتي لن نأكل كما نأكل الآن، ولن يكون لنا احتياج كالذي نرزخ تحته الآن. هناك سيكون يسوع الكل بالكل للجميع. هناك سيكون يسوع غذاؤنا الوحيد.
ورغم هذا الوصف، وهذا الكلام، يخطىء من يظن ان المسيحية تهمل الطعام – في هذا العالم- عندما تشدد على الصوم. الغاية من الصوم المسيحي ان نتزوّد بمعنى الأكل ومعنى الطعام لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وإذا كان الصوم مجرد اغلاق الفم، ومجرد حبس الطعام عن الجوف والاحشاء، عندها فإن الصائم هرطوقي كبير، وذلك لأنه يحتقر خليقة الله ويتنكر لها وذلك لأن الطعام هبة لنا من الله. ومن يحتقر الخليقة، يحتقر الخالق أيضا. نحن في الصوم لا نتنكر للطعام المادي الذي هو خليقة الله، انما من خلال الصوم، نكشف معنى الطعام ومعنى الغذاء، ومعنى الحياة بكل ما فيها. الصوم يساعدنا كي نفتح عيوننا على الوجود وعقولنا أيضا.
لقد سقط الانسان في القديم حسب ايمان الكنيسة، وذلك لأنه اسقط الله كمحور للكون وللانسان. لقد سقط آدم لأنه جعل الدنيا بدون محور، وذلك عندما شاء أن يكون هو الكل، وأن يكون هذا الكل، متمحورا حول ذاته (self-centered). وما العملنة او الدهرنة المعاصرة (secularization) في التحليل الأخير، إلا محاولة لسرقة الكون من يدي خالقه، وذلك بإحلال محاور عدة للكون، بدل المحور الإلهي.
لقد شاء الله ان يكون الانسان في حاجة للعالم، ليس كي يبقى اسير هذا العالم، انما، كي يبدأ من هذا العالم مسيرة متصاعدة ومتدرجة حتى يبلغ الملء في الله. لا يمكن ان يبقى الانسان حبيس قمقم العالم، فهو كاهن الكون، وتاج الكون. ودعوته ستبقى هكذا، وذلك كي يقول للرب:" التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء". دعوتنا هي ان نرفع الشكر لله، كي نبقى كهنة الكون على مذبح هذا العالم. غايتنا ان نجدد الكون الذي أعطيناه. وبدون التجديد المزدوج للذات وللكون، يستحيل ان نضارع الله في الخلق co- creators.
بيد اننا آثرنا ان ننحبس في قمقم العالم. لقد اصبحنا اسرى هذه الفانية بعد ان جعلنا الله كهنة حمد وتسبيح. أليس في موقفنا هذا، كل سر مأساتنا؟
والآن، اذا كانت الامور هكذا، فكيف نفهم الصوم؟
الغاية الأولى في نظري كمؤمن، هي أن يعى المرء – من خلال الصوم – حاجته لله. لا بد للصوم ان يقودنا الى الشعور بالمحدودية. لا بد ان نكتشف عندما ندخل رحاب الصوم الكنسي، اننا نسبيون ومحدودون ومخلوقون. وإن لم نكتشف هذه الحقيقة، عبئا نبذل، وعبثا نصوم وعبثا نجاهد.
ثانيا، في الصوم يجب ان أكتشف ان الله مطلق، لأنه الخالق. واذا لم أتعرف على الله – من خلال الصوم – يكون صومي باطلا. في الصوم ترتسم في قلبي جدلية العلاقة بين الخالق والمخلوق. وبالتالي فإن الصوم، بالنسبة الي، هو المسرح او الإطار الذي فيه أرى الله والإنسان بآن معا. ارى الانسان مخلوقا، وااله خالقا.
ثالثا، الممارسة الصحيحة للصوم، تتجلى في الامتناع عن الأطعمة، وهذا من شأنه أن يدخلنا في خبرة الجوع. لا صوم بدون جوع. بدون جوع البطن، لن نكتشف جوعنا الى الله. بهذا، يبقى جوع الجسد أساسا لكل رؤية روحية. هنا يتبادر للبعض ان الصوم المسيحي هو مجرد اذلال للجسد. هل هذا صحيح؟
كلا، الصوم المسيحي لا يرمي الى إذلال الجسد، فهو ليس ابيقوريا في طابعه ومعناه. في الصوم نحن لا نقتل الجسد، ولا نذله. الجوع المذكور ليس غاية في حد ذاته. نحن لا نصوم كي نجوع. الجوع هو عنصر من عناصر الصوم. ليس الجوع – من المنظار المسيحي – غاية.
ونحن كمسيحيين، لا غنى لنا عن اختبار الجوع، وذلك كي نأتي الى اختبار قوة الله وعظمته كخالق، في حياتنا. المعدة الخاوية ليست في حد ذاتها اشارة الى شيء، ولا تعني شيئا. ولكن المعدة المرتاحة تأتي بنا الى خبرة يكاد الكثيرون من أبناء العالم أن يكونوا محرومين منها، لأنهم يجهلونها. وهذه الخبرة تفهم وتعاش في الكنيسة. ما هي هذه الخبرة؟ سيبقى الصوم كلمة فارغة، اذا توقف عند حدود الامتناع عن الطعام. هذه هي الخطوة الاولى في سبيل هذه الخبرة.
وعليه، فالجوع الصيامي، سيكشف لنا طبيعتنا البشرية. وهذا الجوع بعينه هو حافزنا الى ادراك قوة المسيح:"بدوني لا تقدرون ان تعملوا شيئا" (يوحنا 15:5). باختصار، فإننا في الصوم لا بد ان نتذكر ان الانسان كله هيكل للروح القدس.
والان كيف يجوز ان ننسى، ان امتلاء البطن، من شأنه ان ينسينا الله. أليس من شأن الشبع ان يحجب عن عيوننا محدوديتنا وضعفنا؟ أليس الشبع هذا رديف عدم الاحساس؟ من يشبع، لا ير حاجات كيانه، وحالة نفسه. لأن الشبع هو احدى الوسائل التي نقتل بها ولادتنا الروحية في المسيح.
وخبرتنا المسيحية تعلمنا ان الناس يتحمسون الى الله في ضيقهم، وكربتهم، لا في افراحهم ومسراتهم. من هذا، يكون الصوم، الذي هو احدى الوسائل الروحية لتنقية القلب، صدمة وحجر عثرة عليها تتهشم راحتنا وكسلنا. الصوم يكسر رتابتنا وكسلنا ولذاتنا وارتخاء نفوسنا. انه صدمة تكسر إيقاع نشاطنا المسترخي. من هذا أيضا يكون الصوم مدخلا الى فهم انفسنا بقيادة الروح.
ولكن مع كبير الأسف، فقد خفّضت المسيحية المعاصرة من أهمية ومكانة الجوع في الصيام، فكان بنتيجة ذلك ان تحوّلت الاصوام الى مجرد انقطاع عن الطعام يقتصر الى ساعة قبل المناولة فقط. واذا نظرنا الى الصوم في اطاره الاربعيني المقدس، فإننا نراه متأثرا بالعدوى التي وصلته من الغرب.
الصوم – من منظار المسيحية الغربية – لا يحتاج الى الجسد كي ينمو ويزهر، ولا الى مشاركة الجسد. لقد الغي الجوع الجسدي كعنصر في الصوم من شأنه ان يسهم في نمو ولادتنا الروحية. ونلمس – على ما يبدو – وكأن للجسد دورا ضعيفا في نقاوة القلب.
لقد خفضت المسيحية الغربية الصوم، وهذا خطأ، لأن وحدة الشخص الانساني لا تفكك. لا يمكن ان تنطلق النفس، اذا تقاعس الجسد. لقد كشفت العلوم المعاصرة ان الانسان سيكوسوماتيكي، أي ان كل ما فيه يؤثر على كل ما فيه. ولست ادري في الحقيقة اين يمكن ان ينتهي صوم لا وجود ولا دور للجسد فيه! ترى ماذا نقول الآن عن الطعام في الصوم؟
ليس الصوم المسيحي في العرف الارثوذكسي، مجرد تغيير في نوعية الطعام وحسب، ولا هو مجرد تعديل في ايقاع الأكل، وحسب، ولا هو اقلاع عن النتاج الحيواني للإقبال على منتجات الارض من خضروات وفاكهة وحسب. قد لا تكون صائما اذا اقتصر صومك على النظام النباتي البحث. هذه كلها وسائل. لأن الصوم الحقيقي تجاوز شجاع للأنا (ego)، وضبط لنزوات الانسان الداخلي بكل شهواته وغرائزه واهوائه. الصوم الحقيقي هو حنين النفس الى فردوسها المفقود، وختنها المعشوق، يسوع الرب. وهنا يبرز سؤال: ما الفرق بين الصوم والريجيم؟ لماذا يحتمل الناس الريجيم، بينما يبتالدون ويتقاعسون ويتأففون من الصوم؟
في الصوم دخول في خبرة القديسين، وارتشاف حي للفضائل. انه تعب نبذله، وجهد نقدمه من القلب بقصد بناء القلب الروحي المتصدع بالشهوات. الصائم هو انسان يدرك كل الادراك انه هيكل للروح القدس.
اما في الريجيم، فالمسألة تختلف: الريجيم غايته صحة الجسد، او جماله ورشاقته، او هي الاثنان معا. حضارة هذا الزمان معيارها الجسد النحيف. بهذا، تكون البدانة ممقوته. البدانة تُشعر صاحبها – على ضوء هذا الزمان، وهذه الايام – انه معزول عن ركب الغالبية من الناس لكونه لا يتحلى بمقاييس العصر. بهذا المعنى يكون البدين او البدينة، كثير المعاناة، وعلى شيء من الخجل والارتباك. من هنا نفهم لماذ يحتمل الناس مشقات الريجيم. أما لماذا يحجمون عن الصوم، فالسبب، بدون تعقيد، بسيط ومعروف: حضارة هذا الزمان ليس فيها قضية روحية.
من عناصر حضارتنا الكسل والراحة. حضارتنا مشغولة بالجسد والشهوات، بينما موضوع الصوم هو موضوع روحي. أين هو الشأن الروحي في المجتمعات (الشرقية)؟ اين هي القضية الروحية في دنيا معهد الأديان؟ الا يعني استنتاج كهذا ان الناس يحبون الريجيم اكثر من الدين؟
الحقيقة ان السؤال في حد ذاته صحيح، فالناس لا يعرفون ماهية الدين، لأن ما يقدم لهم عن الدين، قد لا يتعدى حدود الشعائر والممارسات الموسمية. من هنا نستطيع ان نقول ان غالبية الشرقيين يرون في الدين تجسيدا لشيء هو اشبه بالشعوذة.
والمشكلة في هذا الزمان ان الناس يعبدون الجسد Somalatry. . الجسد هو الاطار الاوسع للشهوة المعاصرة. من هنا اتجاسر واقول ان وراء الريجيم وجها جنسيا، وهاجسا جسديا. المتلهفون الى النحافة، يعشقون اجسادهم واجساد غيرهم ويتمنون لو ان الاخرين يبادلونهم نفس الشعور. اما الصوامون، فيتعطشون الى الله، وفي الله ينتهي دأبهم وديدنهم.
الصوم يحرر الانسان – بحكم الحال – من بلادة الفكر وثقل الجسد والشهوة. لكن من التجنى القول ان الجوع المحض يقود النفس الى الهيام الروحي الذي يتطاير به القديسون.
وقد يسأل البعض: وما مصير الذين لا يستطيعون لأسباب وجيهة، ان يصوموا؟ ماذا نقول لهم؟ ماذا نقول فيهم؟
في الاساس ليس الانقطاع عن اللحم عقيدة في كنيستنا. وبولس الرسول يقول صراحة: "اذا كان اكل اللحم يشكك اخي، فلن آكل لحما الى الأبد". فإذا كان الانقطاع عن اللحم عقيدة، فهذا يعني- تباعا- ان رفع اللحم عن المائدة عقيدة. العقيدة هي في الانقطاع عن الخطيئة التي جاء المسيح كي يرفع ثقلها عن قلوبنا. واذا قلنا ان رفع اللحم عقيدة، صار لزاما علينا القول ان النظام النباتي عقيدة. واذا كان النظام النباتي عقيدة، صارت العودة الى اللحم بعد انتهاء الصوم، كفرا وزندقة وضلالا.
هنا لا بد ان نتذكر قول الرب:"الاطعمة للجوف، والجوف للأطعمة ....وفي موضوع آخر يقول الكتاب: اذا اكلنا لا نزيد، اما اذا لم نأكل، لا ننقص."الأكل ليس جوهر القضية في المرض. الخلاص من الخطيئة هو الغاية وذلك، لأن للصيام بعدا آخر يعبر عنه الذهبي الفم خير تعبير بقوله:"أنتم الذين تصومون عن اللحم، انتبهوا كي لا تأكلوا لحوم اخوتكم).
الصوم ضرورة لا عقيدة. نحن نصوم لأن ربنا صام ليعلمنا ذلك. صوم الرب لم يكن من اجله بل من اجلنا. صحيح ان اكل اللحم لم يكن قبل السقوط، ولكن الصحيح ايضا ان الحياة الأبدية ليس فيها نظام نباتي، وذلك، لأن، ملكوت الله ليس طعاما او شرابا، بل هو بِرْ ونسك وقداسة.
وأخيرا نحن نصوم في هذا العالم، لأن الصوم حاجة لنا ما دمنا في الجسد. والكنيسة هي مرجعنا وقدوتنا في ذلك. الصوم بركة من السيد نسأله ان يسكبها علينا كل حين، كي نحيا ونتحرك.
عن موقع المحبة، غزة-فلسطين