يوحنا الرسول وقاطع الطريق
يوحنا الرسول وقاطع الطريقبعد موت عيسى المسيح، تفرق التلاميذ في شتى البلدان، داعين الناس إلى مخافة الله، بأفعالهم وأقوالهم. وكان يوحنا الذي أحبه عيسى المسيح يدعو بالإنجيل في مدن اليونان التجارية الغنية.
وذات يوم، لاحظ، وهو يبشر، في إحدى المدن، شاباً، في الجمهور، يصغي إليه ولا يرفع نظره عنه. فلما انتهى يوحنا من كلامه، ناداه وكلمه طويلاً. وعلم أن هذا الشاب لم يكن وطيد الإيمان، وإن كان مستعداً بكل نفسه، بكل نفسه الملتهبة، لقبول عقيدة السيد.
فكر يوحنا: "إنه بحاجة إلى صديق موثوق وإلى نصيح، وإلا انحرف عن الطريق المستقيم وتبع الأشرار".
وقبل أن يسافر الرسول ليتابع مواعظه في أماكن أخرى، اقتاد الشاب إلى رجل الله وقال له:
- أنا ذاهب. فاسهر، أنت، عليه. ثبت إيمانه بعيسى المسيح واحفظه من كل مكروه.
تعهد رجل الله بذلك. فضمه إلى مسكنه وعلمه وعمده. حتى إذا عمد هذا الطالب كف عن الاهتمام به كما كان يفعل من قبل. وكان يرى أنه قد نجا في نفسه الإيمان الكافي ليقلع عن حياته الشريرة.
كان بحاجة إلى المال من أجل ملذاته؛ وقد حصل عليه بكل أنواع النهب والسلب؛ ثم هجر المدينة، وذهب ليعيش من قطع الطرق.
وسرعان ما شهرته جسارته فاختاره بعض قطاع الطرق رئيساً لهم.
وذات يوم، كان الرسول عائداً بعد أن بشر بالإنجيل، وعرج على رجل الله، وسأله:
- أين الكنز الذي أخذته على عاتقك؟
لم يفهم رجل الله رأساً ما قصده الرسول. وظن أن يوحنا يسأله عن هبات المؤمنين لمصلحة المرضى والفقراء.
قال يوحنا:
- لست أكلمك عن المال، بل عن روح أخيك. تركت عندك شاباً: فأين هو؟
أجاب رجل الله بألم:
- لقد مات.
سأل الرسول:
- متى مات؟ وبأية ميتة مات؟
- لقد غدا، بعد أن عمي قلبه، شريراً، نهاباً، قاتلاً.
لم يكن الرسول يتوقع هذا النبأ الجديد، فقال وقد حزن حتى طفر الدمع من عينيه:
- ويل له، وويل لنا جميعاً: لا بد أنك لم تكن صديقاً أميناً له، ونصيحاً نصوحاً، وإلا لما تركك: فأنا أعرف نفسه الشابة المتحمسة. وماذا فعلت أنت لخلاصه؟
لزم رجل الله الصمت.
حينئذٍ قال يوحنا للحاضرين:
- ائتوني بجواد، وأروني الطريق الذي يفضي إلى الجبال.
حاول الحاضرون ثنيه عن قصده:
- لا تذهب، فقطاع الطرق لا يدعون راجلاً أو فارساً يمر من هناك. لا تسع إلى حتفك، يا معلم!
لكن يوحنا أبى أن يصغي إليهم، ومضى في طريقه. وخجل بعضهم من أن يتركوا الشيخ يذهب وحده، فعرضوا أنفسهم ليصحبوه. سافروا؛ ودخلوا غابة؛ وتسلقوا الجبل؛ كانت الطلعة وعرة صعبة على الخيل.
ساروا على الخيل هكذا طويلاً، وإذا بهم يرون أمامهم بعض قطاع الطرق.
ذعر أتباع يوحنا وهربوا. أما هو فترجل، ومشى نحو قطاع الطرق، فقبضوا عليه؛ وقد ذهلوا حين رأووه لا يدافع عن نفسه، ولا يطلب منهم الرحمة. قال يوحنا:
- خذوني إلى رئيسكم.
اقتاد قطاع الطريق الشيخ إلى مخيمهم. وعندما رأى الرئيس رفاقه يعودون، خرج إلى لقائهم.
وما كاد يرى الرجل الذي يقودونه موثقاً حتى تعرف يوحنا.
شحب وارتجف وهرب.
دهش قطاع الطرق وأرخوا يوحنا الذي نادى رئيسهم صارخاً:
- قف، يا بني، اصغ إلي.
لكنه لم يلتفت وتوغل في الغابة، تخلى قطاع الطرق عن يوحنا وتركوه يذهب.
لم يستطيعوا أن يفهموا كيف أن هذا الشيخ الضعيف الأعزل يستطيع أن يدخل مثل هذا الرعب إلى نفس رئيسهم.
لح يوحنا بقاطع الطريق.
كان الرسول الشيخ مرهقاً، بعد هذا السير الطويل، حتى إنه لم يكد يقدر على المشي، ولم يكن الشاب ليقف.
كانت ساقا الرسول تنثنيان تحته لفرط ما كان انفعاله وتعبه عظيمين. توقف؛ واستنجد بكل ما بقي له من قوى، وصاح بقاطع الطريق، للمرة الأخيرة، بصوت متهدج:
- ارحمني، يا بني، فلست أستطيع اللحاق بك إلى أبعد من ذلك؛ تعال، أنت، إلي؛ لم تخافني، لم كففت عن الإيمان بي؟ أنا هو يوحنا. تذكر كيف كان حبك وطاعتك لي فيما مضى.
توقف قاطع الطريق، واستدار، وقابل يوحنا وجهاً لوجه، وانتظر.
ظل يوحنا يمشي نحوه، يجر قدميه بجهد شاق، وقاطع الطريق واقف ينتظره، وعيناه شاخصتان إلى الأرض. وها هو ذا الرسول يصل إلى قاطع الطريق وهو وما يزال واقفاً مطرقاً رأسه.
وضع الرسول يده على كتفه، دون أن يفوه بكلمة، فارتجف قاطع الطريق، وأوقع سلاحه، وعانق معلمه وهو ينتحب ويخبىء رأسه في صدره.
قال له يوحنا، بصوت خافت:
- أنا آت إليك، يا بني، فاتبعني، ولنذهب إلى المدينة للقاء إخوتنا.
أجاب قاطع الطريق:
- لن أذهب، دعني؛ أنا رجل هالك. أنا ملعون من الله ومن البشر. ليس لي مكان أذهب إليه. أما أن أستمر في العيش على هذا المنوال، فذلك ما لا أستطيعه. ولم يبق لي إلا أن أقتل نفسي.
- يا بني، لا تفعل ذلك؛ ولا تتكلم هكذا، إذا كنا نعيش في جسد من لحم ودم فالله أراد ذلك؛ وتدمير هذا الجسد معارضة لمشيئة الله، وتعريض النفس للهلاك. انظر إلى قاطع الطريق الذي حدثتك عن قصته، ذاك الذي تاب على الصليب، أتذكر ذلك؟ إنما وجد السعادة القصوى في آخر ساعة من حياته.
- لن يغفر لي الناس؛ لن يصدقوا توبتي، ولن يقبلوني بينهم.
- لا تخش شيئاً، يا بني، سيغفر لك الناس إذا غفر الله لك. سأتوسل إليهم ألا يسيئوا إليك. وستبدأ حياة جديدة من الاستقامة والعمل، ولفرط حبك لهم ستكفر عن ذنوب ماضيك. لا تتردد، واحزم أمرك، في الحال!
هكذا كان يوحنا يحث تلميذه؛ تاب وآمن قاطع الطريق بهذه الكلمات ورق قلبه، فهتف:
- لنذهب، يا معلم. إذا كنت معك فلن يرهبني عقاب مهما عظم. خذني إلى حيث تشاء. أدخل السكينة إلى نفسي المعذبة.
إتكأ الشيخ المتعب على ذراع قاطع الطريق، وعادا إلى المخيم، استأذن الرئيس رفاقه. وقص عليهم قصته، وقال لهم: من هو يوحنا، وحاول أن يقنعهم بأن يتركوا هم أيضاً حياة قاطع الطريق.
عندما وصلا المدينة، اقتاد يوحنا الطريق إلى بيت الله، ووضعه بجنبه، وقال:
- أيها الأخوة! هذا الذي كنتم تطنونه ضالاً. افرحوا! عاد إلينا أخونا.
وأخذ يوحنا يرجو الجماعة أن يستقبلوا بينهم هذا الذي تاب. وأنهى خطبته بكلمات المثل الذي ضربه المخلص: "وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح. لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد".