عشاق الله

فان دايك صاحب أشهر ترجمة عربية للكتاب المقدس

كرنيليوس فان دايك 1818 – 1895

مُقدمه :

مِن الذين وَفَدوا الشّرق في أوائل نهضته , وسبّبوا تغييراً كبيراً في مجرى تاريخه. إنه رجل باركه الله, فأنار بلادنا بعطاءاته الفكريّة والروحيّة, ومآثره الأدبيّة العظيمة, وخدماته الجليلة. كل من يدرس سيرته وأعماله يتيقن حقاً أنه عَكَسَ نور المسيح في هذه البقعة من العالم في القرن التاسع عشر .

نشأته :

 

ولد كرنيليوس فان دايك في 13 آب 1818 , في بلدة :" كندرهوك " في ولاية نيويورك. من أبوين هولانديّي الأصل. تلقى دراسته الإبتدائية والثانوية في مدرسة بلدته, وتعلم ا للاتينية واليونانيّة إضافة إلى الهولّندية والإنكليزية , كما عمل على حفظ أسماء كل النباتات البريّة التي كانت تنمو في نواحي بلدته, وتعلّم بنفسه تصنيفها بحسب نظام " لينوس " النباتي الشهير .
كان " فان دايك " على الرغم من فقر عائلته, يستعير الكتب من رفاقه أو يستأجرها بدريهمات قليلة يجمعها, أو يحفظ ما يسمعه من قرّائها. إلا إن طبيباً كريم الأخلاق في القرية , فتح له أبواب مكتبته بعدما رأى اجتهاده في تحصيل المعارف, فانكبّ على دراسة ما فيها بينما كان يعمل في صيدلية أبيه, حيث أتقف فنّ الصيدلة علماًً وعملاً , قبل أن يدرس الطّبّ وينال درجة الدكتوراه من كليّة " جفرسن " الطبيّة في فلادلفيا عام 1839 م .

أعماله في جبل لبنان :


سافر " فان ديك " بالباخرة , برفقة جماعة من المُرسلين ونسائهم إلى بيروت, برحلة استغرقت حوالي الشّهرين, حيث استقبلهم الدكتور " ولي طمسن " الذي أخذهم بجولة في المنطقة الشمالية من سوريا . حيث تم في ربيع 1842 م فتح مدرستين , واحدة في عين عنوب والثانية في دير القمر. فقضى فصل الشتاء الأوّل مُترجِماً كتاب التعليم المسيحي. وفي 23 كانون الأول من العام نفسه, اقترن بالآنسة " جوليا ابوت " ابنة القنصل الإنكليزي العام في بيروت .

في صيف 1843 نُقل الدكتور " فان دايك " إلى منطقة عبيه حيث فتح المُرسلون مدرسة وبنوا كنيسة , وكان يُعلم الشبان في المدرسة ويعظ في الكنيسة حتى عام 1845, حين أمر وزير الخارجية التركي " شكيب أفندي " بوجوب مغادرة جميع الأجانب الجبل, فأقفلت المدرسة في عبيه وعاد الُمرسلون إلى بيروت. وبعد قضاء شهرين فيها, سُمحَ لهم بالعودة إلى عبيه, حيث احتُفل برسامة الدكتور " فان دايك " قسّيساّ وذلك في 14 كانون الثاني من عام 1846 .

وفي ربيع 1846 , قرر المُرسلون جعل اللغة العربية لغة التدريس في مدرسة عبيه, فغُيّن كلّ من الدكتور " فان دايك " والمعلم بطرس البستاني للقيام بهذه المهمة. فأخذا يُعلّمان الطلاّب في الصباح , ويَنكَبّان على الدرس والمطالعة, ووضع الكتب االمدرسيّة باللغة العربية بالمساء .

كما اشتركا في النشاط الذي كانت تقوم به الجمعيّة السوريّة , وساهما في تنشيط أعمالها وتنظيمها وتأسيس مكتبتها القيّمة الّتي حَوَت حوالي 500 مجلَّد . وبقي الدّكتور " فان دايك " متولّياً رئاسة مدرسة عبيه حتى سنة 1851 م .

سافر إلى أميركا, حيث تعّرف إلى أحدث الإكتشافات الطبيّة حول الجراثيم, وعندما عاد إلى مركز عمله في صيدا, في أواخر سنة 1854م, أحضر معه مجهراً صغيراً, فكان بذلك أول طبيب في الشرق الأوسط يستعمل المجهر للأغراض الطبيّة .

 

فان دايك يُترجم الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة .

يذكر القس " هنري جسب " حول اختيار الإرسالية الدكتور " فان دايك " لإتمام ترجمة الكتاب المقدس التي كان قد ابتدأها الدكتور " عالي سميث " ما يلي :
إن الله, بعنايته الحكيمة, قد أعدَّ هذا الرّجل الغيور مدة سبع عشرة سنة لهذا العمل المهمّ, لأنّه كان قد حفظ مجلدات من الكتب العربية من شِعرٍ وعروضٍ وصَرفٍ وتاريخ, وكان قد ألّف مجلدات في العلوم والفنون. ولم يكن له نظير بين لأوروبيين في معرفة اللّغة العاميّة, كما أن معرفته اليونانيّة والعبرانيّة والكلدانيّة والسريانيّة كانت واسعة .

وهكذا أخذ الدكتور فان دايك " يتفانى في عمل التّرجمة, حتى أنجز طبع العهد الجديد في 29 آذار عام 1860م, بعد عمل متواصل دام ثلاث سنوات. وعن عمله هذا يقول القس " هنري جسب " إني شاهدت " فان دايك " مراراَ كثيرة جالساً في غرفة الترجمة, محاطاً بقواميس ومجلدات في لغات مختلفة, مُمعِناً النظر ومُدققاً في البحث عن معنى كلام الله في اللغات الأصليّة وحقيقة الاصطلاحات العربية, وهو ضاغط رأسه بيديه بسبب ما ألمّ به من الصّداع .

وبعد انتهاء المرحلة الأولى للتّرجمة, وبناءً على طلب الدكتور " طمسن " توجه الدكتور " فان دايك " إلى ألمانيا للرّاحة من عناء العمل. وهناك,كان يُقابل المستَشرِقين الألمان ويستشيرهم في الأمور التي تتعلّق بترجمة أسفار العهد لقديم. ولدى عودته من ألمانيا, انصرف إلى معالجة جرحى أحداث 1860 في بيروت, وإلى ترجمة العهد القديم عن العبرانيّة. في آذار 1863م. أنشأ نشرة شهرية, دعاها " أخبار انتشار الإنجيل في أماكن مختلفة " وفي 22 آب عام 1864, أنجز ترجمة العهد القديم إلى العربية ,

وهكذا تمت ترجمة الكتاب المقدس كاملاً بعد عمل متواصل دام ستّ عشرة سنة, حيث ابتدأت مع الدكتور " عالي سميث " وانتهت مع الدكتور " كرنيليوس فان دايك ".

فان دايك الكاتب والمعلّم والطبيب .


إلى جانب عمل الترجمة , تولّى رئاسة مطبعة الأميركان, وأشرف على تنقيح الكتاب المقدس الذي تم طبعه في 29 آذار 1865م, وفي هذه السنة أيضاً أرسلته الإرسالية إلى الولايات المتحدة الأميركية ليُشرف عل تقنيات تُساعد على طباعة الكتاب المقدس. فأتاحت له هذه الزيارة فرصة دراسة أمراض العين. بالإضافة إلى عمله في دار الكتاب المقدس في نيويورك .

وفي أثناء وجوده هناك, عرض عليه مجلس أمناء لكليّة السورية الإنجيلية ( الجامعة الأميركيّة اليوم ), والتي تأسست عام 1866م, أن يكون أستاذاً فيها, فَقَبل العرض. وفي سنة 187م, عاد إلى مركز عمله في بيروت, وباشر مع زميله الدكتور " ورتبات " تأسيس القسم الطبي في الكليّة عينها, فوضعها منهجاً للدّروس يُلزم الطالب دراسة الطب أربع سنوات كي يحصل على شهادة طبيب .

درّس الدكتور " كرنيليوس فان دايك " في الكليّة عدّة مواد علمية لمد ستّ سنوات , وأنشأ مستوصفاً لأمراض العين , ومَرصدا ًفلكيّاً جهّزه من ماله الخاص بآلات قُدِّرت قيمتها بسبع مئة ليرة انكليزيّة . كما ألّف للطلاب في الفروع العلميّة الني كان يدرّس فيها, كتباً وطبعها على نفقته الخاصة .
ومع هذا لم يتخلَّ خلال عمله في الكليّة عن إدارة مطبعة الأميركان, وتنقيح ما كان يُطبع فيها من الكتب , وتحرير النشرة الأسبوعيّة التي تولّى رئاسة تحريرها حتى آخر سنة 1879م .

 

استقالة ووفاة


قدّم الدكتور " كرنيليوس فان دايك " استقالته من التعليم في الكليّة السوريّة الإنجيليّة سنة 1882م , ومن عضويّة مجلس مُدرائها في سنة 1883م , وزاول رسالته الطبيّة في مستشفى القديس " جاورجيوس " حتى سنة 1893م .

لكنه تابع تأليف الكتب العلميّة, تحت عنوان " النّقش في الحجر " تتناول مختلف الفنون العلميّة بطريقة مُبسَّطة, وصدر منها ما بين سنة 1885م وسنة 1889م ثمانية أجزاء في العلوم الطبيعية والكيمياء والطّبيعيات ( الفيزياء ) والجغرافيا الطبيعية والجيولوجيا وعِلم الفَلَك والنبات والمنطق .

موت فان دايك .

دعت لجنة من أصدقاء " فان دايك " تتألّف من أشخاص ينتمون إلى جميع المذاهب والطوائف في البلاد, إلى تكريم الدكتور " كرنيليوس " وذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على وصوله إلى بيروت .

وفي صبيحة 2 نيسان 1890م غصّت داره في بيروت بوفود المهنّئين من أصدقائه الوطنيّين والأجانب, فكان الخطباء والشعراء يتبارون في إلقاء الخطب والدموع تتلالأ في عينيه : إني أقمت بين أهل الشّرق بكلّ نيّة صافية ولم أقصد غير نفع جيلي وترقيته وتخفيف الأثقال بقدر المستطاع, وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء .

وفي 13 تشرين الثّاني من عام 1895, بعد أن أمضى في الشرق الأوسط 55 سنة و7 أشهر و11 يوماً. وما إن ذاع خبر نعيه حتّى تقاطر الناس من جميع الطوائف إلى منزله بالمئات .

كما أوفدت الحكومة المحليّة فرقة من الجندرما والبوليس لكي يسيروا أمام جنازته التي أُقيمت في الكنيسة الإنجيلية في بيروت. حيث اقتصرت مراسم الجنازة ع تلاوة الإصحاح الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأولى والمزمور التّسعين, وذلك تنفيذاً لوصيّته التي منع فيها إلقاء الخطب, ولذلك سكت الجميع, وكان لهذا لسّكوت تأثير عظيم في قلوب الجمهور. وقد قال أحد أصحابه " إن وصيّته هي موعظة أفصح من ألاف المواعظ التي نَطَق بها الفقيد في حياته ".

وفي 26 شباط سنة 1799 احتفل مستشفى القدّيس " جاورجيوس " برفع ستار عن تمثال الدكتور " فان دايك " الذي نُصب في باحتها . وفي 11 نيسان سنة 1913م, احتفلت الكليّة السوريّة الإنجيلية برفع الستّار عن تمثالي الدكتور " فان دايك "والدكتور " يوحنا ورتبات " الّلذَين وُضَِعا بعد الاحتفال في قاعة الاستقبال العموميّة .

ولكن في 27 تشرين الأول من العام 1932م, احتفلت الجامعة الأميركية في بيروت بتدشين مبنى " فان دايك " المخصّص لتدريس الطبّ, فنُقل تمثاله إليها ووُضع على مدخلها .

وهكذا انتهت حياة إنسان وضَعَ نفسه بين يَدي خالقه, فاستخدمه الله بأفضل ما يُمكن, ولا يزال أثره كبيراً في الأجيال إلى يومنا هذا .