عشاق الله

النفّري: تفريغ الذات في الخطاب الإلهي

 

النفــّري .. شيخ التصوف ..

وليد عبدالله

ولد محمد بن عبد الجبار بن الحسن بن أحمد النفَّري في مدينة نِفَّر الواقعة على ضفاف نهر الفرات شرقاً. ونِفَّر مدينة سومرية تسمى نيبور؛ وهي مبنية على ضفاف الفرات الشرقية، وكانت مركزاً دينياً مهماً قبل أربعة آلاف سنة، وكان فيها معبد آكور الذي يُعبَد به الرب إنليل، سيد الهواء. ومن بعدُ أصبحت مركزاً للديانة المانوية، ثم المسيحية في القرن السابع الميلادي. توفي النفَّري في عام 375 هـ/965 م، كما ذكره التلمساني الشارح لكتاب المواقف والمخاطبات على هامش الغلاف من المخطوطة المصرية. ويقول رينولد نيكلسون إن النفَّري "درويش جوَّاب آفاق، مغامر في أقطار الأرض". ويقول التلمساني إنه توفي في القاهرة، ولا يؤكد ذلك، مكتفياً بالقول: "الله العالم في مماته."

إن حياة النفَّري غامضة في ولادته وموته وسيرته، على كل الأصعدة؛ وليس لدينا أي مصدر يذكر تفاصيل حياته. إلا أن من المؤكد أنه عاش في القرن الرابع الهجري، وعاصر محنة الحلاج التي أثَّرت على أهل التصوف ودَعَتْهم إلى التحفظ والكتمان والتقية الشديدة. وقد اكتشف كتابَ المواقف والمخاطبات للنفَّري المستشرقُ آرثر جون آربري سنة 1934. ويبدو أن عدم ذكر النفَّري في مصادر أهل التصوف والعرفان يرجع إلى عدة أسباب أهمها:

تأثير محنة الحلاج على جيل المتصوفة الذي تستر بالتحفظ والكتمان. التخوف من الفقهاء الذين دأبُهم أن يشنوا حملة قاسية من التكفير والتفسيق على "أهل الطريق" ويحرضوا السلطات عليهم. تبنى النفَّري أفكاراً خاصة به تدعوه إلى الغياب التام وعدم الظهور؛ وقد تكون هذه طريقة خاصة بالنفَّري وأصحابه. يبدو أن النفَّري شيعي المذهب؛ وهو ما يبدو من خلال نصِّه الأخير في المواقف والمخاطبات الذي يشير فيه إلى الإمام المنتظر الذي يظهر وأصحابَه في آخر الزمان، بحسب الرواية الشيعية. والاعتقاد الشيعي بخصوص الإمام المنتظر متطابق مع مفردات النص النفَّري، وتؤكد ذلك طريقتُه العرفانية.

ذلك أن العرفاء الشيعة لا يميلون إلى الظهور، ولا يهتمون بالتدوين، ولا يقدِّسون المشايخ، ويؤمنون بتعدد المشايخ أو السلوك بدون شيخ في هذا الطريق. ولا يظهر العرفاء الشيعة إلا بزيِّ الفقيه، كما جرت العادة، لعدم انفصال المؤسَّسة الفقهية عن هذا الحقل المعرفي. وأهل هذا الطريق يتخوَّفون من هؤلاء الفقهاء؛ وقد عانوا منهم أشد المعاناة، وخاصة أهل العرفان الشيعة. وإذا صحَّ أن ولادة النفَّري كانت في مدينة نِفَّر العراقية فإن ذلك يقوِّي الظنَّ بتشيُّعه. فمدينة نِفَّر تجاوِر الكوفة وبابل؛ ومن المعروف أن الكوفة والمدن المحيطة بها أكبر المراكز العلمية والتجمعات الشيعية في العراق، في الماضي كما في الحاضر .

خلاصة القول: تبقى حياة النفَّري ومماته يكتنفهما الغموض؛ وليس لدينا أي دليل واضح على تفاصيلهما.

قراءة أولية لمنهج النفَّري

لقد أنهك النفَّري جسمَه في البحث والاختبار والأسفار، وبدأ يبحث عن كيان جديد للظهور يكون أكثر مقاربة ومصالحة مع ذاته ومسيرته السلوكية. لذا فقد اختار التدوين والكتابة وتفريغ ذاته المتكاملة في الخطاب الإلهي. فالكتابة أقرب الدلالات المجردة إلى حقيقة النفَّري، لأنها ساكنة، تحتاج إلى البحث عنها، وصامتة في حضورها. عشق النفَّري اللغة وعشقته اللغة، لأنهما يتكلمان بعمق واحد. وأراد النفَّري التشبُّه بالله، فاختار لغته مختزلةً، تسعى كذلك إلى التشبُّه بالله وإلى أن تكون على غرار روحانية الكتب المقدسة، حاملة نفس العمق الجوهري للخطاب الإلهي . فنصوص النفَّري تحتاج لمتذوِّق ذي حساسية خاصة، لأنها نصوص لأهل الخاصة من أهل طريق العرفان الذين يعلمون أسرار الكتابة والتدوين على صفحات وجودهم، ويقرأون ذواتهم كجزء متكامل داخل هذه النصوص الإلهية.  إن النفَّري يحاور ويتحدث حديثاً داخلياً تكامَل في ذاته: فهو يسمع، وينصت، ويصمت، ويتحدث؛ وكل هذه العملية الحوارية تتم داخل دائرة ذاته. فلا محلَّ للآخر إلا إذا أصبح ضمن مفردات هذا الخطاب، ومن ضمن عملية اتصاله التي دوَّنت خطابه. فكأنه يتحدث لذاته في غياب تام إلا من الذات الإلهية المخاطِبة. لهذا تحمل نصوص النفَّري حرية الاتساع والإطلاق في العبارة، وامتداد المعنى، وبساطة أسلوبية، وعمقاً محسوساً لا يُسبَر غورُه.  لقد تبادل النفَّري واللغة، في عملية الكتابة، الحبَّ؛ فمالت اللغة معه حيث يميل، وانحنت أمام صدق تعامُله معها وتوظيفها بأشكال تليق بقدرتها على الإحاطة والابتكار والتجديد. فهي مستسلمة له كما لو أنها أحد مريديه، يقلِّبها كيفما يشاء. فاللغة في نصوص النفَّري منتشية، لانصياعها واستسلامها ليد مبدع وصاحب خيال فذ. والصياغة اللغوية للنفَّري ذات سياقات تحمل ديمومتها، وتحافظ عليها ككيان مستقل، يعرف ويفكر ويدرك ويعي وجوده ككائن حيٍّ، بلا شروخ أو فجوات.

مقامات النفري

لا يخفى على المتتبع لكتب الصوفية في ذكر مقاماتهم وأحوالهم أن هذه المقامات أصبحت من الثوابت التي تُلزِم كلَّ صوفي بالخوض فيها. والمقامات كسبية، يسعى الصوفي لتحقيقها في مناهج سلوكه؛ أما الأحوال فأمور وهبية، وتحصيل حاصل للمقامات. تبدأ مقامات الصوفية بالتوبة، وتنتهي بالتوحيد؛ وبينهما الخوف، والرجاء، والصبر، والزهد، والفقر، والمحو، والإثبات، والتوكل، والتسليم، والرضا. أما الأحوال فهي واردات ترد على القلب، فتبرق وتختفي، ليستأنف الصوفي السير والسلوك. تنقسم المقامات إلى مقامات "مادية" وأخرى "معنوية". فالمقامات التي ذكرناها آنفاً هي من المقامات المادية في السير والسلوك؛ أما بعد التحقق بمقام التوحيد والدخول في الولاية فتبدأ المقامات المعنوية. ولكل عارف مقاماته وتسمياته الخاصة، رغم أنها تصب في بحر واحد. من أهم مقامات النفَّري المعنوية الخاصة نختار مقامين اثنين هما: "مقام الوقفة" و"مقام الرؤيا"؛ وسنوضح، باختصار، الملامح العامة لهذين المقامين:

أ. مقام الواقف والوقفة:

الواقف هو المنتظِر والمنتظَر داخل لحظة تكاملت في زمن الذات الإلهية وتهيأت وسكنت لتلقِّي الخطاب الإلهي المطلق. والواقف هو ذلك الذي تسلَّق قمة سُلَّم التجريد، والذي تجرَّد من التجرُّد ذاته؛ فهو يدور في عوالم الغيب والشهادة بدون حجب أو أستار. ويحقق الواقف أعلى مراتب الفناء في سُلَّم المقامات المعنوية عند أهل الطريق .

ب. مقام الرؤيا:

إن الرؤيا في معارف وخيال الصوفية والعارفين أهم المنافذ المجردة والذاتية للارتباط بالخطاب الإلهي، ومشاهدة الحقائق المجردة، والالتقاء بالأسرار المعنوية. والرؤيا أعلى مراتب الكشف؛ فهي تنزُّلات التجلِّي الإلهي على الفؤاد ليرى الحقيقة، كما هو وارد في القرآن الكريم: "ما كذب الفؤاد ما رأى" (سورة النجم 11). فمقام الرؤيا آخر أبواب مقام الواقف في سُلَّم المعنى الذاتي الإلهي. ومفتاح الرؤيا اللحظة المطلقة، بلا ذاكرة، ولا عنوان، ولا تسميات؛ فهي القدرة الذاتية والكمالية لاختراق كل شيء وسلب شيئيَّته، وإزاحة محجوبيَّة كل الحجب والموانع والأستار، وإزاحة الألوهية كل غيرية وسوائية عن ذاتها المستقلة. فمن خلال مقام الرؤيا يستطيع الواقف أن يرى كل شيء من وراء كل شيء، وأن يرى الحقيقة الإلهية من وراء كل الأشياء والحجب، كما يقول النفَّري في المواقف:

وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء .

وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني .

وقال لي: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف .

وقال لي: فإن العارف كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها.

وقال لي: المعرفة نارٌ تأكل المحبة .

وقال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل .

الخاتمة

لقد حافظ أهلُ التصوُّف والعرفان على براءة السؤال الخام والقلق الخام كي يتطابقوا مع الأصل، أصل الوجود، الذي تحمَّلوا في سبيله العناء العظيم وضحَّوا بكلِّ وجودهم من أجل الوصول إلى الحقيقة. فهم أهلُ الله الذين لا يستظلون بظلٍّ ولا ينتسبون إلى التسميات. أسَّسوا للمسلمين، بشكل خاص، وللبشرية، بشكل عام، مشروعاً خصباً، وتركوا تراثاً إنسانياً صافياً وعميقاً. فأهل هذا الطريق افتتنوا بالله افتتاناً أفقدَهمْ كلَّ شيء، وأحبوه حباً لامتناهياً، وهاموا في عشقه. ينحتون بوجودهم أسماءه، ويرسمون بدمائهم خرائط الوصول إليه. سكنوا الصحارى والجبال وغاصوا في الوديان، وركبوا البحار، واتخذوا من الهجرة بيتاً ومن الغربة زاداً. فماذا يمكن أن نقول عن أسفارهم – تلك الأسفار التي هي أكثرها تعقيداً على أرض البساطة، وأكثرها بساطةً على أرض التعقيد، في البحث عن مكنون البساطة، وهو الله – الله بسيط الحقيقة – وعن الفناء في هذا المعنى الإلهي. لهذا حملوا قلوبهم مناجلَ للتجريد وللغوص إلى أعماق الوجود بلذة الاختراق وفضول ألم الاستطلاع، لاستخراج كنوز المعارف وحقيقة الكمال المطلق.   إنهم كلمات الله التي لا تنفد. . إنهم حقاً أهل الله.

عن مجلة ميزوبوتاميا