عشاق الله

قبريانوس الأمازيغي: أسقف قرطاج الشهيد

قبريانوس الأمازيغي:  أسقف قرطاج الشهيد 

مع مطلع القرن الثاني الميلادي أشعَّ على الكنيسة المسيحية في شمال إفريقيا - الأقاليم التي كانت خاضعة لنفوذ الإمبراطورية الرومانية - عصر نهضة روحية لا مثيل لها. إذ نجد الكنيسة وقد اتَّسعت بشكل يدعو إلى الدهشة والاستغراب، حيث كانت جموع الناس تقبل إلى الدين المسيحي أفواجاً وجماعات. وقد بلغ عدد الأساقفة في هذا العصر إلى ما يزيد عن المائتين. كلّ يمارس نشاطه القيادي في كنيسة المسيح بجد ونشاط بالغيْن. ومن بين هؤلاء الأساقفة، نخصُّ بالذِّكر منهم، الأسقف اللامع قبريانوس، الذي تألَّق نجمه وذاع صيته في شمال إفريقيا لِما تركه من أعمال جليلة وسيرة مسيحيَّة مثالية، تشهد لنعمة إلهيَّة وصلاح الله الدائم في قلب عبيده.

ولد قبريانوس سنة 200 ميلادية في مدينة قرطاجة الشهيرة من أبوين وثنييْن. كان والده من أشراف ووجهاء المدينة الميسوري الحال، ومن الجدير بالذكر أنَّ مدينة قرطاجة كان يحكمها الأعيان الأغنياء أي الطبقة الأرستقراطية، وهكذا فإنَّ والد قبريانوس كان عضواً في البرلمان. فنشأ قبريانوس في بيت تتوفر فيه كل متطلبات الحياة الرغيدة ووسعها. اعتنى والده بتعليمه، فاستمتع الطفل النابغ بالدرس والتحصيل وتشبَّع بعلوم عصره، حتى أصبح خطيباً بارعاً، ثم امتهن التعليم، فكان يعلِّم علوم البلاغة والبيان، إلى أن شاع اسمه بين الناس وذاع صيته بين قومه ونال من الصدارة في الوسط الاجتماعي ما لم يحلم به غيره.

ورغم كل النجاحات التي حققها قبريانوس في الحياة، فلم ترضَ نفسه ولم يحصل قلبه على الاستقرار والراحة الداخلية والهدوء النفسي. فبقي يتخبَّط بين العبث واللهو والمجون والتعلُّق بالمتعة الزائفة والشوق نحو حياة أفضل، يسود فيها الهدوء والطمأنينة وراحة البال. وعندما بلغ سنّ الخامسة والأربعين اعتنق المسيحيَّة ثم طلب المعمودية، وكان هذا حدثاً ضخماً ومدهشاً للغاية ومدعاة للافتخار والبهجة لدى المؤمنين، أن يُقبل إلى الإيمان شخص كهذا ذو صيت ذائع ومركز مرموق في المجتمع القرطاجي، وأن يقبل المسيحيَّة ديناً له. فتحوَّلت إليه الأنظار من تلك اللحظة. فوزَّع فور اهتدائه جزءًا كبيراً من ممتلكاته على الفقراء والمحتاجين، ولم يستبقِ منها إلا الضروري لمعاشه، حتى لا يكون عالة على غيره. بعدها انطلق ينشد العزلة والخلوة بالله خالقه، ومحاسبة نفسه والتخلُّص من براثن ماضيه الوثني المرير. وبعد مضي سنتين من العزلة عاد إلى قرطاجة وكأنَّه وُلد من جديد. لقد أصبح بالفعل خليقة جديدة ينعم بحياة الشركة الحميمة مع خالقه وسيِّده، ولقد تغنَّى بولادته الجديدة وبمعموديته التي كان يرى في تحقيقهما أعجوبة من الله الذي انتشله من حمأة الخطية، ثم ولده ولادة ثانية إذ أفرغه من ماضيه الشرير، فانسلخ عن حياته القديمة وتغيَّر نفساً وعقلاً دون أن يتغيَّر جسماً، كل هذا كان من المستحيل أن يرى تحقيقه في حياته لولا تدخل يد الله.

وكرَّس قبريانوس حياته كاملة لله، فأيَّده بسلطانه العجيب مستخدماً مواهبه السابقة. فانطلق الغرس الجديد يعطي ثمره في أوانه، وراح يحدّث الناس عن نعمة الخلاص بكل جرأة وبسالة لا نظير لهما. كما سخَّر الله موهبته السابقة في فنّ الخطابة وحسن البيان وجمال البلاغة، ومعرفته الجديدة، واهتداءه الفريد للمسيحيَّة للخدمة. وبحجة الإنجيل استطاعَ أن يستقطب الناس إلى المصلوب المُقام من بين الأموات.

وفي سنة 248 ميلادية اختاره الشعب ليكون أسقف قرطاجة، وذلك لما رأوا فيه من مواهب قيادية ورعوية، ونعم الاختيار. فقبل الكهنوت والأسقفية معاً ولطالما تخوَّف منهما في البدء لجسامتهما وعبء المسؤولية فيهما. كانت الكنيسة تعيش حالات متقلِّبة. فمرَّة يكون الاضطهاد شديد الصرامة وأخرى يكون محدوداً في مناطق معيَّنة وأحياناً أخرى تعمّ الهدنة. وحالما يعمُّ السلم كنيسة المسيح ويخفّ الاضطهاد، يبدأ الفتور يسري في عروق الكنيسة، إلى أن تنعدم البركة ويقل الإيمان، فتنصرف جموع الناس وراء اللذة الفاسدة ساعيةً نحو مشتهيات العالم، فيقل خوف الله وينعدم الإيمان الصادق والعفة المسيحيَّة والأخلاق المحمودة وتنقرض أعمال الرحمة.

فكنت تجد قبريانوس يقاوم هذا التيار المعادي للكنيسة، فينذر ويحذّر ويؤنّب الناس على أفعالهم غير اللائقة وتماديهم في الضلال والغواية; فكان يُقابَل بالاستهزاء والسخرية والاستخفاف والاحتقار والرفض المطلق.

لم تمضِ على قبريانوس في الأسقفية أكثر من سنة، حتى شبّ اضطهاد عنيف وهائل من قِبَل القيصر الذي ضرب الكنيسة أشدّ ضربة، إذ سُنَّت قوانين جديدة تقضي بأن يحمل كل مواطن شهادة رسمية تثبِّت أنَّه قدّم ذبائح للآلهة. فأصبح لا مفرّ من اختيار أحد الأمرين: إمَّا الجحود وإمَّا الجهاد والاستشهاد. فعمَّ الرعب، وانخلعت القلوب فزعاً وروعاً، فإذا بالمئات من الأشخاص يتسابقون لتقديم الذبائح للآلهة الوثنيّة. فكنت تشاهد وحتى في وقت متأخر من الليل طوابير من الناس ينتظرون دورهم للحصول على شهادة تثبت أنَّ صاحبها قدَّم ذبيحة للآلهة. يا للأسف والعار! فقد تقدَّمت الجموع بأنفسها تجحد وتنكر المسيح. وبين هؤلاء الجاحدين من هم من ذوي المراكز القيادية في الكنيسة، كالقساوسة والكهنة. بينما اكتفى المحتالون النصابون بدفع ثمنٍ مقابل تلك الشهادة كي يسايروا جميع الأوضاع. أدمَت أفعال هؤلاء الساقطين الخونة قلب قبريانوس، فتقطعت أحشاؤه حزناً وغمّاً عليهم وعلى ضعفهم، فقام يقوّم المعوج ويعضد المنكسر ويشجع القوي. لم يكن يريد نبذ أولئك الخطأة الساقطين، وإنَّما إصلاحهم وجذبهم إلى حظيرة المسيح. لكنَّ صوته ونداءاته لم تُسمع، فاشتدَّ غضب الحاقدين عليه وتَهدَّده الأوباش الرعاع وهم يصرخون قائلين: "إلى الأسود بقبريانوس"، فباتت حياته قاب قوسين من الموت، وكأنَّ ساعة الاستشهاد قد حانت، فلم يبقَ أمامه سوى باب الهرب والاختباء عن عيون الناس ليخدم الكنيسة من بعيد، على أمل أن تنهض الكنيسة بعد هذا التيار الجارف. فتحمّل المذلَّة والإهانة وتسلل في حلكة الليل الدامس كلص سارق هارب من المدينة. ومن مكان اختفائه الآمن قاد وشجّع الكنيسة المرعوبة برسائله عن طريق رسل السّر.

استغرب بعض المسيحيين تصرّفه هذا، وأشعروه بأنَّ الاستشهاد هو أقرب إلى صميم الإنجيل من الهرب، وقد فات هؤلاء أنَّ الهرب خير من الجحود، والإقرار بالشهادة أفضل من النكران.

فتألَّم قبريانوس أشدَّ الألم لموقف هؤلاء المستغربين، فدافع عن كرامته أمام الإخوة في روما، وأرسل لهم حجج اختفائه عن الأنظار وغيابه عن قرطاجة وذلك للتخفيف من حدّة الفتنة القائمة ضدَّه. فظلَّ خمسة عشر شهراً يسوس فيها الكنيسة من منفاه، يشجّع ويوبّخ ويدبّر. فكان يفكّر في كل شيء تحتاجه الكنيسة. يدعو إلى زيارة المسجونين من أجل الإيمان ويرسل من ماله الشخصي ليعين المحتاجين، فكان يعرف أن يُعطي وأن يمدح و أن يوبّخ. نعمّ الخادم المسؤول!

عاد قبريانوس إلى قرطاجة بعد فصح سنة 251 بعد أن خفّ الاضطهاد، وكان قد وعد بوضع قانون رسمي يحسم فيه مسألة الجاحدين. فقدَّم خطابه الشهير الذي أثنى فيه على الذين اعترفوا بإيمانهم بدون مبالغة. وقد شمل ثناؤه كلَّ المعترفين الذين هربوا من وجه الاضطهاد لأنَّهم اضطروا لذلك إذ تبيّن عزم إرادتهم على عدم الجحود.

ثم ختم خطابه بدعوة الجبناء الساقطين إلى التوبة. فوافق المجمع على ما جاء في الرسالة بأن يتوب الجاحد، ويعود إلى الكنيسة إلى ساعة الموت.

لم تمضِ سنة على اجتماعهم هذا حتى عاد الاضطهاد يحرق الأخضر واليابس من جديد. وفي الثلاثين من شهر أغسطس سنة 257 تجدَّدت آلام الأسقف إذ فُرضت عليه الإقامة الجبرية إلى حين موعد محاكمته التي حاول الوالي إجباره فيها على تقديم تضحية للآلهة. إلا أنَّ قبريانوس رفض هذا الأمر رفضاً باتاً، وهذا مما دفع بالمحكمة إلى الحكم بإعدامه بحد السيف. وقبل تنفيذ الحكم دفع مبلغاً من المال للذي سينفِّذ فيه الإعدام كأجر لعمله. وفي الرابع عشر من شهر سبتمبر سنة 258 تمَّ إعدامه وهو مؤمنٌ بما كان يعلم أنَّ مكان سعادة المسيحي هي السماء، ومكان محنته هي الأرض، والممرّ من المحنة إلى السعادة هو الموت. فانتقل الشهيد قبريانوس إلى دار السعادة الأبدية مرنِّماً مع بولس الرسول: "لأنَّ ليَ الحياة هي المسيح والموت هو رِبحٌ" ﴿فيلبي 1: 21﴾.