عشاق الله

غريغوريوس حداد: البطريرك والإمام

اسمه في الأساس كان غنطوس الحدّاد. وهو إبن جرجس بن غنطوس من عبيه، إحدى قرى الغرب (جبل لبنان)، وهند بنت عسّاف سليم من كفرشيما القريبة. ولد في الأوّل من تموز من سنة 1859م ونشأ في قرية أبيه، عبيه. وصف، فيما بعد، بأنه كان معتدل القامة، صبوح الوجه، أبيض البشرة، أشقر الشعر، بهي الطلعة، ناعم اليدين، جاحظ العينين، باسم الثغر، وديعا، طاهر القلب.

تعليمه

بدت عليه منذ الطفولية، علامات الذكاء إذ كان عريض الجبهة، حاد الذهن، سريع الفهم، فاهتمّ أبواه بإلحاقه بمدرسة عبيه الأميركية حيث أتمّ دروسه الإبتدائية (1872 م). ثم انتقل الى كلية الثلاثة الأقمار الأرثوذكسية في بيروت فأنهى فيها دروسه الثانوية. وإذ لاحظه السيد غفرائيل شاتيلا، مطران بيروت ولبنان (1870-1901)، ألحقه بمدرسته الإكليريكية المتاخمة لكاتدرائية القدّيس جاورجيوس.

سيامته وترقّيه 

لبس الاسكيم الرهباني ودعي "غريغوريوس" في 19 كانون الأول 1877 . تشمّس في 29 آب 1879 . كهن في 6 أيار 1890 . تسقّف على طرابلس في 10 أيار من السنة نفسها. وأخيرا تبطرك في 5 حزيران 1906 .

اختياره أسقفا

اختير غريغوريوس أسقفاً على طرابلس وهو في الحادية والأربعين عقب وفاة المثلّث الرحمات، السيّد صفرونيوس (النجّار). وقد سار بالأبرشية الى ميناء التآخي والمصالحة بعدما طالت المنازعات فيها.

في هذه المرحلة، التي استمرت ست عشرة سنة من حياته، اهتمّ غريغوريوس، فيما اهتمّ، بتأسيس الأخويّة الأرثوذكسية الطرابلسية للعناية بالمحتاجين، وإنشاء مكتبة في دار المطرانية وتجديد مدرسة بكفتين، بعدما كانت متوقفة منذ بعض الوقت. كذلك تعهّد مدرسة البلمند الإكليريكية واستقدم لها مرتلين متفوّقين لتعليم الترتيل البيزنطي فيها، كما زوّدها بمكتبة ومدّ مكتبات أديار النورية وحماطورة وكفتون بالكتب والمخطوطات.

خدمته بطريركاً

خلف غريغوريوس المطوّب الذكر، البطريرك ملاتيوس الدوماني، إثر وفاته. كان له من العمر سبع وأربعون سنة. من أبرز ما جرى في أيامه عودة السلام الى مجاريه بين الكرسي الأنطاكي من جهة وكراسي القسطنطينية وأورشليم والإسكندرية من جهة أخرى. وكانت الأجواء قد اكفهرّت وانقطعت العلاقات بين الفريقين بعدما تمكّن المحلّيون من إيصال ملاتيوس الدوماني الى سدّة البطريركية سنة 1899 دون الذين كانوا يعيّنون عليها من الخارج، في اسطنبول أو أورشليم أو كليهما معا، منذ العام 1724 .

كبطريرك، عزّز غريغوريوس المدارس، لا سيما البلمند منها بعدما كان سلفه قد افتتحها في مطلع السنة 1900 . كما أنشأ مجلّة النعمة سنة 1909 . وسعى الى تحريك عجلة النهضة في سائر أرجاء الكرسي الأنطاكي وزار بقاعاً عديدة منها.

ترأس غريغوريوس سنة 1913 الاحتفالات الدينية المقامة في بطرسبرج بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على تملّك أسرة رومانوف في روسيا. ولدى عودته استقدم بضعة عشر راهباً روسيا أوكل اليهم إدارة دير مار الياس شويا البطريركي. وقد أعجب نصارى المنطقة بورع هؤلاء الرهبان وزهدهم ووداعتهم ومحبتهم المسيحية الطاهرة ونشاطهم. لكنهم عادوا فتركوا لبنان سنة 1915 إثر الحرب العالمية الأولى.

أثناء هذه الحرب (1914 - 1918) تجلّت محبة البطريرك وأحشاء رأفاته على الفقراء والمرضى والمظلومين ففتح أبواب قلبه والبطريركية لكل محتاج الى أية ملّة انتمى، لا فرق، حتى دعي بـ "أب الفقير". وله في هذا الشأن مآثر وأخبار وشهادات تناقلتها الألسن طويلاً وما زالت الى اليوم.

وفي ربيع سنة 1920 ، إثر مؤتمر دمشق الذي نادى باستقلال سورية الطبيعية وبايع الوجهاء والأعيان فيه فيصلاً ملكاً عليها، كان البطريرك في طليعة المبايعين. ولما رجحت كفّة الفرنسيين واضطر فيصل الى أن يبرح دمشق في تموز من العام نفسه كان غريغوريوس الوحيد الذي خرج لوداعه حفظاً للعهد وثباتاً على العقد. قال له: "إن هذه اليد التي بايعتك ستبقى على العهد الى الأبد". فما كان من الملك فيصل سوى أن قبّلها باكياً.

صلاته وصومه ومحبته

اذا كانت الصلاة سر المؤمن ومرآته فإن البطريرك غريغوريوس الرابع، كما بدا لأهل زمانه، كان رجل صلاة ممتازاً. لا أخبار كثيرة أو مفصّلة عندنا في هذا الشأن بل عيّنات. فقد ذكر عنه أنه أثناء الحرب العالمية الأولى، في مساء أحد مرفع الجبن، التقى نساء مسلمات يشكين الجوع قائلات: "نريد خبزاً يا أبا المساكين. نريد خبزاً لأطفالنا الجائعين!" فعاد أدراجه الى الدار البطريركية وأمر بأن توزّع عليهن المؤن من البطريركية ثم أقفل على نفسه راكعاً يصلي بين الساعة الرابعة من بعد الظهر والحادية عشر ليلاً. ولما جاءه طبّاخ البطريركية عارضاً إعداد بيضتين مقليتين بالسمن مع رغيف وقطعة حلوى، أجاب "لا يليق بي أن آكل وغيري يتضوّر جوعاً!". ثم أمر بأن يعطى طعامه لأول فقير يمرّ بالبطريركية في الغد.

تأخّر البطريرك يوماً عن وجبة الطعام فحفظ له الطبّاخ حصّة مميّزة. فلما حضر ولاحظ أن ما أفرز له كان أشهى مما قدّم لسواه بادر بالقول: "أعطوني مما قدّمتم لإخوتي!".

لما حان وقت الطعام مرة، وكان الزمن صياماً، أحضر له الطاهي إفطاره. في هذه الأثناء كان أولاد يضجّون في ساحة البطريركية فسأل عما بهم فقيل له إنهم فقراء جائعون فاستدعاهم وأعطاهم طعامه.

وقد قيل عن البطريرك غريغوريوس إنه كان يصلّي من دون ملل ويصوم من دون تذمّر. وإذ اعتلّت صحته في كبره أصرّ على ملازمة تقشفاته حتى الأخير.

هذا وكثيراً ما كان البطريرك يطوف على أفراد حاشيته سائلاً منهم الصفح عما بدر منه حتى لا يدع الشمس تغيب على غضبه.

وكان يوقظ النائمين في البطريركية ليقيم وإيّاهم صلاة السحر باكراً.

من جهة أخرى، كان البطريرك غريغوريوس يشمل كهنته، لا سيما الفقراء منهم، بعطف أبوي كبير. وإذ كان المعوزون بينهم يأتون اليه بجبب رثّة كان يعطيهم من أجود ما عنده ويبقي لنفسه الممزّقة يرقّعها بنفسه ويسكف نعله بيديه. وقد اضطرت حاشية البطريرك، تدبيراً، الى إخفاء بعض ملابسه الكهنوتية عنه حتى لا يهبها للمحتاجين، هي أيضا.

هذا وقد فتح غريغوريوس أبواب البطريركية أمام الجميع، أيّام الحرب الأولى، دونما تمييز. ويقال انه استدان أموالاً طائلة لإطعام الجائعين. من أخباره في هذا الشأن أنه كان له صليب ماسي أهداه إيّاه قيصر روسيا، نقولا الثاني. هذا رهنه البطريرك لدى صائغ يهودي دمشقي بألف ليرة عثمانية. فلاحظه أحد أغنياء المسلمين وفك رهنه وأعاده الى البطريرك. فأخذه البطريرك وباعه من جديد دون أن يدري به أحد وحفظ مثيلاً له من زجاج. هذا لم يعرف به أهل الدار البطريركية الا بعد موته.

وقد كان البطريرك يطوف مع شمّاسه وقوّاسه يجمع المطروحين في الأزقة الى الدار البطريركية والمدرسة التي تقابلها ويعنى بإعالتهم. وكثيراً ما كان يطعمهم بيده.

وقد قيل انه لما تفشّى وباء الكوليرا وغريغوريوس مطران على طرابلس، لم يهرب من المدينة بل شرع يزور المرضى ويعزّي المنكوبين ويعطف على الفقراء. ولمّا ألحّ عليه أصدقاؤه بالمغادرة أجاب: "ليست حياتي أفضل من الذين لا يستطيعون الفرار من الوباء!".

بلغه يوما نفاذ الدقيق من البطريركية الا كيساً عزم الخدّام على خبزه وتوزيعه على الأرثوذكسيين دون غيرهم. فجمعهم وأخذ رغيفاً بيديه وقلّبه ثم نظر اليهم قائلاً: "لم أجد كتابة ما على الرغيف تقول إنه للروم دون سواهم!" وللحال أمرهم بتوزيع الخبز على الفقراء كافة دونما تفرقة.

سأل متسوّل البطريرك يوماً حسنة فقال له أحد الإكليريكيين المرافقين له: ما طائفتك؟ فانتهره البطريرك قائلاً: هل تمنع عنه الصدقة اذا كان من طائفة غير طائفتك؟ ألا يكفيه ذلاً انه مدّ يده ليستعطي لتذله بسؤالك عن عقيدته؟! ولما قال هذا أخرج نقوداً من جيبه وأعطاه إيّاها فانصرف مسروراً مجبور الخاطر.

كان البطريرك مرة في زحلة. فبعد القدّاس الإلهي تقدّم منه رجل درزي وطلب إحساناً فلم يجد البطريرك ما يعطيه فاعتذر منه وصرفه. وما كاد الرجل يبتعد قليلا حتى دفع صاحب المنزل الذي استضاف البطريرك اليه بخمس ليرات ذهبية، فنادى غريغوريوس الرجل الدرزي وأعطاه مما منّ به الرب عليه قائلاً: لقد بعث الله لنا ولك!

من جهة أخرى، عرض مرة، على ما روى الشمّاس ثيوذوسيوس مطلق، انه أثناء القداس الإلهي والبطريرك جالس في كرسيّه، خرج الشمّاس بالإنجيل ولم تكن أمامه شمعة لأنه لم يكن هناك من يحملها. فما كان من البطريرك سوى أن نزل عن كرسيه وأخذ شمعة وسار بها أمام الشمّاس وهو يحمل الإنجيل.

وفاته

لفظ البطريرك غريغوريوس الرابع أنفاسه الأخيرة في سوق الغرب عند الساعة الخامسة من صباح يوم الأربعاء 12 كانون الأول 1928 . كانت صحته قد أخذت في التدهور قبل ذلك بثلاثة أيام فيما كان المجمع المقدّس على وشك اختتام إحدى دوراته. وقد قيل إن كلماته الأخيرة كانت "لقد صبرت حتى النهاية!".

  نقل جسده عبر بيروت الى دمشق فاستقبله خمسون ألف مسلم دمشقي غير المسيحيين وأطلقت المدفعية مئة طلقة وطلقة فيما كانت الجماهير تصرخ: "مات أبو الفقير، بطريرك النصارى وإمام المسلمين. نزلت بالعرب الكارثة العظمى!".

وقد شارك الملك فيصل الأول من العراق بمئة فارس استقبلوا نعشه. كما شارك في الجنازة عدد كبير من شيوخ المسلمين.

مفتي البقاع، محمد أمين قزعون، قال على تابوته: "لو أجاز لنا ديننا الإعتراف بنبي بعد محمد لقلت أنت هو!". وقد قيل إن المسلمين أرادوا الصلاة عليه في الجامع الأموي الكبير.

أحد التجّار المسلمين الدمشقيين كان يرشّ الملبّس ويصيح بأعلى صوته: "هذا القدّيس أعالني أنا وأسرتي طيلة الحرب".

وقد ووري جسد البطريرك في مدافن البطاركة أمام الكاتدرائية المريمية.

عن القديسون المنسيّون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار