عشاق الله

قس بن ساعدة

  قس بن ساعدة (600م)

هو قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن وائلة بن الطمئنان بن زيد مناة بن تهدم بن أفصى بن دعمي بن إياد أسقف نجران خطيب العرب وشاعرها وحليمها وحكيمها وحكمها في عصره. يقال أنه أول من علا على شرف وخطب عليه. وأول من قال في كلامه: أما بعد. قيل: وبعد لفظة عربية وفصل الخطاب والذي أوتيه قس هو فصل الخصومة وهذا يؤيد ما قيل عنه أنه أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصاً. وأول من كتب من فلان إلى فلان. أدركه الرسول ورآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاماً يسمعه منه. وكان مؤمناً بالله وبالبعث. بليغ النطق وفيه يقول الأعشى:

وأفصح من قسم وأجرى من الذي

بذي العين من خفان أصبح خادرا

 

وكان قس يفد على قيصر زائراً فيكرمه ويعظمه فقال له قيصر: ما أفضل العلم. قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل. قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل الأدب. قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة. قال: قلة رغبة المرء في إخلاف وعده. قال: فما أفضل المال. قال: ما قضي به الحق.
وقيل أن الجارود بن عبد الله لما وفد في وفد عبد القيس على الرسول وكان سيداً في قومه معظماً في عشيرته فأسلم سأله محمد: يا جارود هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قساً. قال: كلنا نعرفه. وأنا كنت من بينهم أقفو أثره واطلع خبره. كان قس سبطاً من أسباط العرب. صحيح النسب. فصيحاً ذا شيبة حسنة يتقفر القفار. ولا تكنه دار. ولا يقره قرار. يتحسى في تقفره بعض الطعام. ويأنس بالوحوش والهوام. يلبس المسوح. ويتبع السياح على منهاج المسيح. لا يغير الرهبانية. مقراً بالوحدانية. تضرب بحكمته الأمثال. وتكشف به الأهوال. وتتبعه الأبدال. أدرك رأس الحواريين سمعان فهو أول من تأله من العرب. واعبد من تعبد في الحقب. وأيقن بالبعث والحساب. وحذر سوء المنقلب والمآب. ووعظ بذكر الموت. وأمر بالعمل قبل الفوت. الحسن الألفاظ. الخاطب بسوق عكاظ. العارف بشرق وغرب. ويابس ورطب. وأجاج وعذب. كأني أنظر إليه. والعرب بين يديه. يقسم بالرب الذي هو له. ليبلغن الكتاب أجله. وليوفين كل عامل عمله. ثم أنشأ يقول (من الخفيف):

هاج لـلـقـلـب مــن هـــواه ادكـــار

ولـيال خــلالـــهـــن نـــهـــار

 

وجــبـــال شـــوامـــخ راســـيات

وبـحـار مـــياهـــهـــن غـــزار

 

ونـجـوم يحـثـهـا قـمــر الـــلـــيل

وشـمــس فـــي كـــل يوم تـــدار

 

ضوؤهـا يطـمـس الـعـــيون وارعـــا

د شـديد فـي الـخـافـقـين مــثـــار

 

وغـــلام واشـــمـــط ورضـــــيع

كلـهـم فـــي الـــتـــراب يوم يزار

 

وقـصـور مـشـيدة حــوت الـــخـــير

وأخـرى خـوت فـهـــن قـــفـــار

 

وكثير مما تقصر عنه

حدسة الناظر الذي لا يحار

 

والذي قد ذكرت دل على الله

نفـوسـاً لـهـا هـدى واعــتـــبـــار

 

فقال محمد: يرحم الله قساً أني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده.

 

ومن خطب قس المأثورة ما رواه أبو بكر الصديق قال: لست أنساه بسوق عكاظ (وهو سوق بين بطن النخلة والطائف كان لثقيف وقيس) على جمل له أورق. وهو يتكلم بكلام مؤنق. فقال حين خطب فأطنب. ورغب ورهب. وحذر وأنذر. وقال في خطبته: أيها الناس اسمعوا وعوا. وإذا وعيتم فانتفعوا. أنه من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آت آت. مطر ونبات. وأرزاق وأقوات. وآباء وأمهات. وأحياء وأموات. وجمع وشتات وآيات بعد آيات. ليل موضوع. وسقف مرفوع. ونجوم تغور. وأراض تمور. وبحور تموج وتجارة تروج. وضوء وظلام, وبر وآثام. ومطعم ومشرب. وملبس ومركب. ألا أن أبلغ العظات. السير في الفوات. والنظر إلى محل الأموات. إن في السماء لخبراً. وإن في الأرض لعبراً. ليل داج. وسماء ذات أبراج. وأرض ذات رتاج. وبحار ذات أمواج. مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا. أم تركوا هناك فناموا. أقسم قس بالله قسماً حقاً. لا آثماً فيه ولا حانثاً. إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ثم قال: تباً لأرباب الغفلة. من الأمم الخالية، والقرون الماضية. يا معشر إياد. أين الآباء والأجداد. وأين المريض والعواد. وأين الفراعنة الشداد. أين من بني وشيد وزخرف ونجد. وغره المال والولد. أين من بغى وطغى. وجمع فأوعى. وقال أنا ربكم الأعلى. ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً. وأطول منكم آجالاً. طحنهم الثرى بكلكله. ومزقهم بتطاوله. فتلك عظامهم بالية. وبيوتهم خاوية. عمرتها الذئاب العاوية. كلا بل هو المعبود. ثم أنشأ يقول (من مجزوء الكامل):

في الـذاهـبـين الأولـين

من القرون لنا بـصـائر

 

لمـــا رأيت مـــوارداً

للموت ليس لها مصـادر

 

ورأيت قومـي نـحـوهـا

تمضي الأصاغر والأكابر

 

لا يرجع الـمـاضـي ولا

يبقى من الباقـين غـابـر

 

أيقـنـت أنـي لا مـحـا

لة حيث صار القوم صائر

 

وأخبر بعض معاصريه عنه قال: لقد رأيت من قس عجباً. أشرف بي جملي على واد. وشجر من شجر عاد. مورقة مونقة. وقد تهدل أغصانها. (قال) فدنوت منه فإذا بقس في ظل شجرة بيده قضيب من أراك ينكث به الأرض وهو يترنم ويقول (من البسيط):

يا ناعي الموت والملحود في جدث

عليهم من بقايا خزهـم خـرق

 

دعهم فإن لهم يوماً يصاح بـهـم

فهم إذا انتبهوا من نومهم فـرق

 

حتى يعودوا بحال غير حالـهـم

خلقاً جديداً كما من قبلهم خلقـوا

 

منهم عراة ومنهم في ثـيابـهـم

منها الجديد ومنها المنهج الخلق

 

(قال) فدنوت منه وسلمت عليه فرد علي السلام وإذا بعين خزارة في أرض خوارة ومسجد بين قبرين. وأسدين عظيمين. يلوذان به. ويتمسحان بأثوابه. فأراد أحدهما يسبق إلى الماء. وتبعه الآخر يطلب الماء. فضربه قس بالقضيب. وقال: ارجع ثكلتك أمك حتى يشرب الذي ورد قبلك. فرجع ثم ورد بعده فقلت له: ما هذان القبران. قال: هذان قبر أخوين لي كانا يعبدان الله معي في هذا لمكان لا يشركان بالله شيئاً فأدركهما الموت فقبرتهما حتى ألحق بهما. ثم نظر إلى السماء. فتغرغرت عيناه بالدموع وانكب عليهما وجعل يقول (من الطويل):

خليلي هبا طـالـمـا قـد رقـدتـمـا

أجدكما لا تـقـضـيان كـراكـمـا

 

ألم تعلما أني بـسـمـعـان مـفـرد

وما لي فيها من خلـيل سـواكـمـا

 

أقيم على قبريكمـا لـسـت بـارحـاً

طوال الليالي أو يجيب صـداكـمـا

 

جرى الموت مجرى اللحم والعظم منكما

كأن الذي يسقي العقار سـقـاكـمـا

 

تحمل من يهوى العـقـول وغـادروا

أخاً لكما أشجاه ما قد شـجـاكـمـا

 

فأي أخ يجفـو أخـاً بـعـد مـوتـه

فلست الذي من بعد موت جفاكـمـا

 

أصب على قبـريكـمـا مـن مـدامة

فإلا تنالاهـمـا تـروجـثـاكـمـا

 

أناديكما كيما تـجـيبـا وتـنـطـقـا

وليس مجاباً موته مـن دعـاكـمـا

 

كأنكـمـا والـمـوت أقـرب غـاية

بروحي في قبريكما قـد أتـاكـمـا

 

قضيت بـأنـي لا مـحـالة هـالـك

وأني سيعروني الذي قد عـراكـمـا

 

فلو جعلت نـفـس لـنـفـس وقـاية

لجدت بنفسي أن تكـون فـداكـمـا

 

سأبكيكما طـول الـحـياة ومـا الـذي

يرد على ذي عولة إن بـكـاكـمـا

 

 

وكان قس بن ساعدة من المعمرين. وقد اختلفوا في سنه زعموا أنه عاش سبعمائة سنة وقيل ستمائة سنة وأنه أدرك حواريي المسيح. وقيل أنه توفي في روحين وهي قرية قريبة من حلب وفي لحف جبل وهناك له مشهد مليح مقصود للزيارة وينذر له الناس نذوراً وعليه وقف.