عشاق الله

في التسامح

  التسامح (…)ليس وليد مساومة فكرية او دينية، او نتاج موقف تلفيقي يلغي الخصائص والمميزات الفريدة، ويقفز فوق الفوارق التكوينية. انه الاعتراف العميق بوجود التباينات، احترام هذه التباينات باعتبارها اثراء للجهد البشري، واصرار على التناضح الفكري بين التيارات والرؤى، وانقداح الذهن في عملية تواصل وحوار وإعمال فكر.

من هنا، كانت المعرفة شرطا اول للتسامح. المعرفة الحقة بالذات، بالتاريخ، بالهوية، بالشخصية التاريخية، ترفدها معرفة مكملة بالآخر، تاريخا وثقافة وحساسية وحضورا راهنا.

لا ينهض التسامح الحق ، لا التسامح الشكلي، البروتوكولي، القائم على المداهنة والتكاذب، الا على قاعدة المعرفة الرصينة. فالجهلاء لا يتسامحون، بالمعنى الوجودي العميق لا يتحاورون ولا يخصبون بعضهم بعضا بل يقفزون فوق الحقائق بتجاهلها من غير تفحّص نتائجها واملاءاتها.

والتسامح، اذ ينطلق من ان التعدد شرعة الهية وسمة الوجود، يتجاوز فكرة القبول السلبي، الاضطراري بالآخر، كما لو كان مجرد اضافة، الى فكرة ان الآخر شرط مؤسس للانا وان التسامح ليس هو السكوت عن الآخر، في انتظار ان تسنح لحظة الغائّه، بل استدعاء لهذا الآخر، محاورا وشريكا في تكوين الحقيقة التي تتشكل من هذه الشركة بالذات.

فالتسامح الذي يتقدم بوصفه تغاضيا مؤقتا عن الاختلاف، ليس تسامحا خلاقا، او مساهما في عمران الكون، بل هو رأفة القوي بالضعيف، ومنحة الجبار يخلعها على رقيق الحال، تلطفا وانعاما واحسانا.

والتسامح ليس خيارا بين خيارات، يمكن ان تستقيم الاحوال السياسية والدينية والحضارية في العالم بوجوده او انتفائه، ليس احتمالا بين احتمالات، بل هو الخيار الالزامي، المعبر الضروري اذا شاءت البشرية ان تنمو وتزدهر. انه القيمة التي تجعل الحياة ممكنة في الاساس، وقادرة على ان تهزم الموت والحروب والدمار. ففي غياب التسامح، لا ثقافة للسلام، ولا اساس فلسفيا للسلام نفسه.

والتسامح الذي يتراءى للكثيرين انه سمة لازمة للعلاقات بين الافراد، تتجاوز ضرورته الافراد الى الجماعات والشعوب والدول، فيغدو قيمة كونية بامتياز في العلاقات السياسية بين الدول، كما في المؤسسات الدولية، وفي علاقات الشعوب بعضها ببعض.

جورج ناصيف