عشاق الله

المسيحيون العرب

  كثيرا ما ينزعج صديقي العربي المسيحي من نظرة الاستغراب التي فجأة تعلو محيا محاوريه المسلمين كلما أخبرهم أنه مسيحي. و كثيرا ما ينزعج أيضا من السؤال   المتكرر لمحاوريه الغربيين عن تاريخ اعتناقه المسيحية ديانة بدل الإسلام. الموقفان اللذان يزعجان صديقي العربي المسيحي المنحدر من لبنان، هما موقفان لهما ما يبررهما جغرافيا و تاريخيا، لكنهما يعبران أيضا عن معاناة شريحة لا يستهان بها من العرب المسيحيين. و أصل المشكلة هو جهل أو تجاهل أشخاص من كلا الطرفين المسلم و الغربي بأن هناك تاريخا مسيحيا للعرب.

فالمسيحية انتشرت منذ عهودها الأولى بين عرب الجزيرة، و هو أمر يؤكده التاريخ، مثلما يؤكده الكتاب المقدس، حيث نقرأ أن العرب كانوا حاضرين في مدينة القدس في يوم الخمسين (خمسين يوما بعد قيامة السيد المسيح) عندما هبط الروح القدس على الرسل، و بدأ بعض هؤلاء يمجد الله بلسان عربي فصيح:

  "لمَّا دَوَّى الصَّوْتُ، تَوَافَدَتْ إِلَيْهِمِ الْجُمُوعُ، وَقَدْ أَخَذَتْهُمُ الْحَيْرَةُ لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ. وَاسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَيْهِمْ. فَأَخَذُوا يَتَسَاءَلُونَ: «أَلَيْسَ هَؤُلاَءِ الْمُتَكَلِّمُونَ جَمِيعاً مِنْ أَهْلِ الْجَلِيلِ؟ فَكَيْفَ يَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَةَ الْبَلَدِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ؟ فَبَعْضُنَا فَرْتِيُّونَ، وَمَادِيُّونَ، وَعِيلاَمِيُّونَ. وَبَعْضُنَا مِنْ سُكَّانِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَالْيَهُودِيَّةِ، وَكَبَّدُوكِيَّةَ، وَبُنْتُسَ، وَأَسِيَّا، وَفَرِيجِيَّةَ، وَبَمْفِيلِيَّةَ، وَمِصْرَ، وَنَوَاحِي لِيبِيَّا الْمُواجِهَةِ لِلقَيْرَوَانِ. وَبَيْنَنَا كَثِيرُونَ مِنَ الرُّومَانِيِّينَ الزَّائِرِينَ، يَهُوداً وَمُتَهَوِّدِينَ، وَبَعْضُ الْكَرِيتِيِّينَ وَالْعَرَبِ. وَهَا نَحْنُ نَسْمَعُهُمْ يُكَلِّمُونَنَا بِلُغَاتِنَا عَنْ أَعْمَالِ اللهِ الْعَظِيمَةِ»". (أعمال الرسل 6:2-11)

و قد ظهرت بين العرب منذ الأيام الأولى للمسيحية عدة كنائس ظلت تنمو و تنتشر إلى أن انحسر نموها و انتشارها بعد ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي. و من أشهر القبائل العربية المسيحية نذكر قبيلة الغساسنة، وبني تغلب والمناذرة اللخميين وشيبان وبلقين وعذرة وقضاعة والبهراء وتنوخ وطي والنبطيين وغيرها. و"كان لهؤلاء أساقفة وقعوا محاضر المجامع المسكونية المختلفة باسم "أساقفة العرب". كما انتشرت المسيحية بين عرب الشام منذ العصور الأولى. واشترك في مجمع نيقيا المسكوني (325) خمسة أساقفة من المقاطعة العربية الرومانية. واقتطع في أواخر القرن الرابع من المقاطعة العربية قسمها الجنوبي الممتد من خليج العقبة إلى جنوب البحر الميت، وخضعت كنسيا إلى كنيسة القدس. وواصلت المسيحية نموها بين عرب الشام في القرنين الرابع والخامس واشترك في مجمع خلقيدونيا (451) سبعة عشرة أسقفا من مقاطعة بصرى  عشرة من مقاطعة البتراء، مما يدل على أن معظم السكان كانوا مسيحيين."

لهذا السبب يبدو انزعاج صديقي العربي المسيحي المنحدر من لبنان مبررا، لأنه فتح عينيه على هويته العربية المسيحية، و لا يعرف في تاريخ عائلته الطويل أي سلف له كان يوما ما يحمل معتقدا آخر. لكن إخوته العرب المسلمين يظلمونه لأنهم بداية لا يستسيغون اختلافه العقدي من باب ارتباط القرآن باللغة العربية، و كذا الطابع الشمولي الإسلامي للحضارة العربية، كما أن المسيحيين الغربيين يظلمونه أيضا لأنهم لا يستسيغون وجود عرب مسيحيين من باب مركزية الغرب في الفكر و التاريخ المسيحيين. إلا أن هذا لا ينفي وجود عرب مسيحيين يعدون بالملايين، لهم إسهامات كثيرة لا تحصى في شتى مجالات الحضارة و الحياة. وجوارهم داخل الوطن الواحد لأغلبيات مسلمة هو دليل صحة و عافية من الناحية الثقافية و الحضارية، لأن هذا الوجود هو البرهان العالي لمبدأ التسامح العظيم الذي دعا إليه الإسلام، و هو أيضا عنصر إثراء روحي و فكري، بل قد يكون صمّام الأمان خصوصا في الوقت الراهن ضد انزلاق المجتمع نحو التطرف الديني الذي بات يهدد الوطن العربي بالشلل و الدمار.

نادر عبد الأمير