عشاق الله

ليو تولستوي و مواجهة الحقيقة

ليو تولستوي في مواجهة الحقيقة..

منهاج حياة..

ولد الكونت تولستوي سنة 1828، لأسرة من كبار النبلاء الإقطاعيين، ذات ثراء هائل عريق.. وفي السنة الثانية من عمره توفيت أمه، وسرعان ما تبعها والده الذي كان مدمناً على الكحول، فتكفل به أقاربه، ونشأ في سعة من العيش ورغد.. وفي السادسة عشرة التحق بجامعة (كازان) لكنه لم يلبث أن ضاق بمناهجها الدراسية ذرعاً فقرر أن يكمل دراسته في بيته، معتمداً على نفسه.. وما هي إلا سنوات معدودات، حتى أتقن عدة لغات، واستوعب العلوم الطبيعية والاجتماعية والرياضيات والموسيقى والفن التشكيلي والطب- بشقيه النظري والعملي- والزراعة.. وبهذه الثقافة الموسوعية وبموهبة أدبية فياضة، بدأ تولستوي حياته الأدبية بثلاثة كتب متتابعات: (الطفولة) ثم (الصبا) ثم (الشباب).. وألزم نفسه باتباع قواعد صارمة (لإصلاح عيوبه أولاً، ثم لإصلاح الآخرين). فكتب في مذكراته: (كن طيباً، واحرص على أن لا يعرف أحد أنك طيب لئلا يعتريك العجب، وابحث عن الجانب الطيب في كل من تعامل من الناس، وإياك أن تفتش عن الجانب السيىء فيهم، وقل الحق دائماً ولا سيما على نفسك!).


السؤال العنيد..

كان السؤال الذي يؤرقه باستمرار: ما هو الهدف من حياة الإنسان؟. وطفق يبحث في طبائع البشر وفي الكائنات.. فوجد ان كل شيء في الكون ينمو ويتطور ويسعى لتحقيق غاية كلية قد لا تدركها العقول إلا بعد حين.. واستنتج أن الهدف من الحياة، إذن، هو (العمل الدائب لتوفير كل المؤهلات التي تتيح لهذا التطور الشامل أن يحقق غايته.) وأيقن أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بالجدية المطلقة والنظام الصارم. قال في رسالة إلى أحد أصدقائه (على المرء إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتمزق بقوة، وأن يصارع كل المثبطات، فإذا أخطأ بدأ من جديد، وكلما خسر عاود الكفاح من جديد، موقناً أن الإخلاد إلى الراحة إنما هو دناءة روحية وسقوط!). وكان يبكت نفسه بشدة إذا أحس منها تهاوناً أو تراجعاً.. قال في مذكراته، وهو في العشرين من عمره: (لم أفعل شيئاً. كم يعذبني ويرعبني إدراكي لكسلي! إن الحياة، مع الندم، محض عذاب! سأقتل نفسي إذا مرت علي ثلاثة أيام أخرى دون أن أقوم بفعل شيء ينفع الناس!).


عقبة في الطريق..

وكبر الفتى وكبرت معه آلامه: لقد انتقلت إليه ملكية أراض شاسعة وفيرة الإنتاج، وتزوج من فتاة أرستقراطية مرفهة تدعى (صوفيا أندريفينا) وأنجبا عدة أبناء. وكان يرى إلى الفلاحين يكدحون في أرضه كي يزداد ثراء، أما هم فلا ينالون إلا ما يسد الرمق ويبقيهم أرقاء!. ويرى إلى المرأة الريفية (تولد و تموت دون أن ترى شيئاً أو تسمع شيئاً!). ورويداً رويداً راح ينسحب من حياة أسرته، وحياة أمثاله من ذوي الثراء.. ولم لا يفعل وهو يرى في كل يوم، عندما يخرج من بيته: (جمهرة من المتسولين بملابسهم الرثة، يمدون إليه أيديهم، فلا يبالي بهم، بل يمتطي صهوة حصانه، وينطلق مسرعاً، كأنه لم ير شيئاً!). ويخاطب نفسه: (إن أي فلاح بسيط من العبيد الذين يعملون في أرضك يستطيع أن يصرخ في وجهك: إنك تقول شيئاً وتفعل نقيضه. فكيف تطيق ذلك؟). وأخذ ينشر المقالات داعياً إلى المساواة بين الناس وبلغ عدد ما كتب عشرة آلاف رسالة، حتى لقب (محامي مائة مليون من الفلاحين الروس) وسماه الأمريكيون (المواطن العالمي). وامتلأت زوجته رعباً من أن تجرفه أفكاره المثالية بعيداً، فيوزع ممتلكاته على العاملين فيها، فقالت له مهددة : (يبدو أن حياتنا تسير إلى قطيعة مؤكدة. ليكن.. فأنا وأنت على تنافر دائم منذ التقينا.. أتريد أن تقتلني وتقتل أولادك بمقالاتك هذه؟ لن أسمح لك بذلك!) ولم يكن تولستوي راغباً في أن تصل الأمور إلى هذا الحد. كان يخشى- كما قال- (أن يمر عبر أشلاء الآخرين، فكيف إذا كانوا أقرب الناس إليه؟.)


الحرب والسلام..

ولم يجد ملجأ يأوي إليه سوى الكتابة، يبثها همومه وأفكاره.. فكانت روايته الرائعة (الحرب والسلام) التي بدأها عام 1863، واستغرق إنجازها ست سنوات متواصلات.. وهي ملحمة تاريخية تغطي مساحة زمنية طويلة، وتركز على مرحلة اجتياح نابليون لروسيا وما قبلها وما بعدها، وتشتمل على ستمائة شخصية تتبع تولستوي حياة كل منها، وأضاء العوالم الداخلية فيها، مما أثار دهشة الكتاب والنقاد جميعاً. قال (مكسيم غوركي) عندما فرغ من قراءتها: (انظروا أي إنسان فريد يعيش على هذه الأرض! إن هذه الرواية شبيهة بإلياذة هوميروس. إنها أعظم عمل أدبي في القرن التاسع عشر.) وقال تورجينيف: (لقد احتل تولستوي المكانة الأولى بين كتابنا المعاصرين). وقال فلوبير:(إنها عمل من الدرجة الأولى). وقال موباسان: (إنها اكتشاف لعالم جديد كامل.) عالم على صفحات الكتب.. يمنح صاحبه الشهرة والجاه. أليس ذلك ما أراد؟.


أنا كارنينا والبعث..

وفي سنة 1877 أنجز تولستوي رائعته الثانية (أنا كارنينا) وقد بدأها بالعبارة التالية: (كل الأسر السعيدة متشابهة، أما الأسر التعيسة فلكل منها قصتها المختلفة، وتعاستها الخاصة المميزة). وفي هذه الرواية يقول (دستويفسكي): (ليس ثمة عمل أدبي أوروبي يمكن مقارنته بأنا كارنينا) وتدور حول امرأة أرستقراطية فشلت في حياتها الزوجية وفيما بعدها مما دفعها إلى الانتحار بأن ألقت بنفسها تحت عجلات قطار. أما روايته العظيمة الثالثة فهي (البعث) وقد استلهمها من خبر قرأه في إحدى الصحف عن ثري إقطاعي اختير ليكون عضواً في هيئة المحلفين لمحاكمة امرأة، فما أن وقعت عيناه عليها حتى تذكر أنه التقى بها قبل سنين وأغواها ثم نبذها، مما دفعها إلى السقوط.. وهاله الأمر، فقرر أن يغير حياته كلها، ونجح.


هدف الفن والحياة

كان تولستوي يرى ان الهدف الرئيسي للفن هو (كشف اللثام عن حقيقة الإنسان الروحية) وأن الكمال الفني يكمن في (البساطة والإيجاز والوضوح). ومن أجل ذلك بذل جهوداً مضنية استنفدت كل طاقته.. وهو في هذا يقول: (لقد منحت عملي الحياة كلها.. إنه كياني كله). وكان- في الوقت نفسه- يدعو بكل وسيلة ممكنة إلى (الحب لكل البشر، وعدم الاستسلام لقوى الشر.) وينادي (على كل حي أن يناضل من أجل الحياة حتى آخر رمق.) وكان الناس في روسيا وأوروبا كلها يتابعون أخباره، ويشاركونه الأسى لمأساته مع أسرته. واحتفلوا بذكرى ميلاده الثمانين وجعلوا ذلك اليوم عيداً وطنياً.. وقال الكاتب الألماني (هاوبتمان): (هذا الرجل نما في عصرنا بآلاف الجذور)..

وفرح تولستوي بتلك الحفاوة البالغة، و لعله اعتبرها تعويضاً عن فشله في تحقيق هدفه الكبير الذي كان يصر عليه: (في المساهمة بإنشاء عالم جديد ينتفي عنه الشر والمرض والبؤس، ويعيش الناس فيه جميعاً إخوة سعداء.). بلى. لقد كان صاحب قلب كبير، لكنه لم يصل ذلك القلب بالروح، فيكون له فيه عون، ومرجع، وينبوع لا ينضب، وامتداد. ولهذا كان هروبه الأخير، في تلك الليلة العاصفة، شهقة أسى مديدة، في متاهة راعبة، بلا قطرة من ضياء.. وكيف لا يكون كذلك والإنسان عندما ينشد غايتين، فإنما يحقق أقربهما إلى نفسه وهواه، فإذا هي عندئذ حفنة من هباء؟.

اقرأ نداء هذا الكاتب