كريشنامورتي: حقيقة بلا دروب
حقيقة بلا دروب
أضواءٌ على فكر كريشنامورتي
ديمتري أفييرينوس
عندما دخل الغرفة شعرتُ بأن سيِّد الحبِّ قد حَضَر...
جبران خليل جبران
إن الطريقة الوحيدة لبلوغ الحقيقة هي أن يكون المرء، من دون أيِّ وسيط، تلميذ الحقيقة نفسها.
ج. كريشنامورتي
كريشنامورتي... ماذا يسعنا أن نكتب عنه؟! ماذا يسعنا أن نكتب عن "رسول" لا يحمل أية رسالة، و"معلِّم" لا يبشر بأيِّ تعليم، و"فيلسوف" لا يقدِّم أيَّ منهج فكري بالمعنى المتعارف عليه؟! ثم – وهذا هو أهم ما في الأمر – لِمَ الكتابة عن كريشنامورتي أصلاً؟!
عندما نرنو إلى الجمال في شجرة مزهرة، أو حين نشعر بمحبة إنسان، أفلا يغرينا هذا بالحديث عما رأيناه أو شعرنا به؟! – مع كلِّ ما فيه من محدودية. لكن التناقض هنا ليس قائمًا في الحديث عن إنسان مثل كريشنامورتي وحسب، بل وفي طبيعة اللغة التي نستعملها أيضًا. ومع ذلك كلِّه، فإن "الواجب" يدعونا إلى الحديث عن كريشنامورتي، مثلما يدعونا إلى الحديث عن كلِّ إنسان يحمل فكرًا نبيلاً، محرِّرًا، في العالم الصعب الذي نحيا فيه.
يجب الحديث عن كريشنامورتي أيضًا لأنه إنسان مثلنا، لئلا نقع في معضلة التناقض التقليدي بين المثال والواقع التي تجعل تحقيق المثال أمرًا متعذرًا – خصوصًا وأن كريشنامورتي، بشهادة غالبية مَن عرفوه عن كثب، لم يكن عنده فَصْل بين الفكرة والإنسان، بين التنظير والتطبيق، بين الكلام المنطوق والحياة المعيشة.
لقد كان يجيب على الأسئلة التي تُطرَح عليه بعمق سرَّاني كثيرًا ما يتَّسم بقوة لا تخلو من قسوة تزعزع جهل مستمعيه ومحاوريه وضيق أفقهم. ومع ذلك، فقد كان يتوجَّه إليهم، في الوقت نفسه، بحنان وبرقَّة لا يليقان إلا بالأطفال. لقد كان يطالب المستمعين بنوع خاص من المشاركة؛ فهو لم يكن يلقي "محاضرة" سبق له أن أعدَّ لها وعلى المستمع أن يوافقه على مضمونها أو يخالفه؛ لم يكن كريشنامورتي يطرح "وجهة نظر" أو يدعو إلى معتقَد أو فكرة أو يسعى إلى إقناع المستمع برأيه، بل كان يدعو هذا الأخير إلى رحلة لتقصِّي المشكلات الإنسانية المختلفة، يسيران فيها يدًا بيد، إن صحَّ التعبير.
[...] اللقاءات التي كان يعقدها تبقى ماثلة في الذاكرة، مثل هواء مهيمن، سرِّي، يمتد عبر فضاء شاسع غارق في الضباب، لكنه ضباب تخترقه الشمس [...].[1]
من جملة ما يصفع لديه موقفُه من الموت. إنه يلطِّف الموت، أو، بدقة أكبر، يوحِّده مع الحياة بحيث لا يعود إلا تجليًا من تجلِّياتها اللانهائية. فحسبُ المرء أن يحيا لكي يعاين الموت في كلِّ لحظة:
- ولكن... ما الموت يا كريشناجي[2]؟
- أفلا تشعر بالحياة؟ الموت في مثل بساطة الحياة.
- وهل ثمة حياة بعد الموت؟
- ألستَ حيًّا؟ لِمَ، إذن، تتساءل عما إذا كان الموت موجودًا أم لا؟ حتى تفهم الموت، عليك أن تتحرر من كلِّ خوف. لكن الإنسان الذي يرغب في الاستمرارية يهلع أمام الموت، والمهارب التي أوجدتْها المدنيةُ خدَّرتْه لدرجة تحول دون استشفافه المغزى من الموت. الموت، مع ذلك، رائع كالحقيقة؛ فكلاهما مجهول. لكن ذهنًا لا يعمل إلا في حدود المعلوم لا يستطيع أن يفهم المجهول.
إن عبارات كهذه، وعبارات كثيرة سواها تشبهها في باطنيَّتها القصوى، لا تقدِّم اليقين الذي ينتظره "الباحثون" عن الحقيقة؛ إذ لا "يقين" بحسب كريشنامورتي، بل سعيٌ غير منتهٍ، وجهاد متواصل، لا هوادة فيه، لإزاحة نقاب الوهم الذي يحوكه المرء برغباته وبنظرته الأنانية إلى الحياة.
حقل التجربة الإنسانية غير محدود، وفي وسع الوعي الإنساني أن يتسامى حتى الألوهة، أو بالأصح، أن يحقِّق جوهره الإلهي وينعتق من كلِّ القيود التي تكبِّله. إن إمكانية تحقيق تجربة الانعتاق هذه كامنة في كلِّ إنسان تنتظر التحقيق؛ لكن موهبة تحقيقها الكامل وإيصالها إلى الآخرين معطاة للقلَّة المباركة من بني البشر وحدها.
لقد كان كريشنامورتي من أصحاب هذه الموهبة في أجلى معانيها؛ وقد استطاع، بسبره العميق لطبيعة "الإشراطات" التي تحول دون الإنسان وتحقيق تجربة الانعتاق، أن يكشف لنا في عمق الكائن البشري عن ينبوع من المحبة والفطنة والإبداع لا ينضب. وتُعتبَر تعاليمُه اليوم واحةً حقيقية وسط صحراء المادية (بالمعنى الأخلاقي، وليس الفلسفي) المتفاقمة، من جهة، والمثالية العاجزة عن تحقيق ذاتها، من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلها تستحق بحق تبوأ منزلة رفيعة في التراث الروحي للإنسانية قاطبة.
فمن هو كريشنامورتي؟ وهل لنا، في مقام ضيق كهذا، أن نسلِّط، بقدر ما أُعطينا من فهم، حزمة ضوء على بعض معالم "فكره" وتعاليمه؟
نبذة عن حياة كريشنامورتي[3]
ولد جِدُّو كريشنامورتي في العام 1895 في بلدة مَدَنَبلِّي الصغيرة في جنوب الهند من أبوين براهمنيين. وقد سُمِّي بهذا الاسم، الذي يعني حرفيًّا "صورة كريشنا"، جريًا على تقليد متَّبع عند الهندوس يقضي بتسمية الابن الثامن بهذا الاسم تيمُّنًا بالإله كريشنا الذي يمثل في المنقول الهندوسي الأفاتارا avatara (التنزُّل الإلهي) الثامن للإله فشنو، واهب الحياة وداعم الكون في الثالوث المقدس. ماتت أمه وهو ما يزال في العاشرة، وأحيل أبوه جِدُّو ناريانياه إلى التقاعد من وظيفته في البيروقراطية الاستعمارية. ولقد كان كريشنامورتي، وسط الفقر والفاقة، طفلاً خجولاً انطوائيًّا، وجد صعوبة في حياة المدرسة. لكن أباه لحظ عنده قدرة غير عادية على الانتباه؛ وقد وصلنا وصفٌ للأب يتحدث فيه عن ابنه يقف الساعات الطوال يرصد الغيوم تتشكَّل في السماء، ويحدِّق في النباتات، أو يجلس متربعًا يدرس سلوك النمل.
وفي العام 1905، انتقلتْ الأسرة بعيد وفاة الأم إلى ناحية أدِيار، قرب مدينة مَدراس (تشيناي الحالية)، حيث المقر العالمي للجمعية الثيوصوفية – المنظمة الفلسفية–الروحية التي أسَّستْها في نيويورك في العام 1875 السيدة الروسية هـ.ب. بلافاتسكي والكولونيل الأمريكي المتقاعد هـ. س. أولكوت، الداعية إلى الأخوَّة الإنسانية الشاملة، إلى القيام بدراسات مقارنة بين العلوم والفلسفات والأديان لتبيان وحدتها في الجوهر، وإلى تنمية الطاقات الكامنة في الإنسان.[4]
وهناك لفت كريشنامورتي وأخوه الأصغر نيتيانندا، بروحانيَّتهما المبكرة ونقائهما الفريد، أنظار القائمين على الجمعية الذين شعروا بالمواهب وبالقدرات الروحية الكامنة في الشقيقين، وقدَّروا أنها قابلة – في حال نُمِّيت – لجعل كريشنامورتي معلِّمًا روحيًّا عالميًّا يتصف بنضج روحي عظيم. على هذا الأساس، نال الفتى كريشنامورتي تدريبًا خاصًّا يستهدف الاضطلاع بهذا الدور المرسوم له.
وفي العام 1911، قامت د. آني بيزانت (رئيسة الجمعية الثيوصوفية آنذاك) ومعاونوها بتأسيس أخوية "النجمة في الشرق"، ونصَّبوا كريشنامورتي زعيمها الروحي ونيتيانندا تلميذه الأول ومعاونه.
ولما بلغ كريشنامورتي عامه السادس عشر، غادر الشقيقان الهند إلى أوروبا حيث أقاما مدة في ضواحي باريس، ثم انتقلا إلى إنكلترا، حيث حاولت آني بيزانت أن تحصل له على قبول في إحدى كلِّيات جامعة أكسفورد. وتقول إحدى الروايات إن جواب العميد كان: "هذه الكلِّية، يا آني، غير مؤهَّلة لتعليم المُسَحاء [جمع مسيح]!"
ترعرع كريشنامورتي في أوروبا وسط إطراء الحشود – الأمر الذي جلب عليه زراية الناس وتعليقاتهم الساخرة – شابًّا رقيقًا، حساسًا، قليل الكلام. وفي الوقت نفسه كانت "الكنائس" والشعائر تُشاد من حوله، والتلامذة "المختارون" يطوِّقونه.
وفي العام 1922، انطلق الشقيقان إلى كاليفورنيا حيث كان كريشنامورتي يأمل أن يناسب مناخُها صحة أخيه المتدهورة. وهناك عاش كريشنامورتي أولى خبراته الروحية الحاسمة التي وَسَمَتْ حياته إلى الأبد. بيد أنه في العام 1925، فُجِعَ بوفاة نيتيانندا. وقد أحدثتْ هذه الوفاة ألمًا عظيمًا في قلب كريشنامورتي وتحولاً روحيًّا جوهريًّا هيَّأه لتوجيه فكره إلى العالم بأسره. ولقد كتب في وقت لاحق:
مات أخي، وذرفتُ الدموع في وحدتي. وفي كلِّ مكان أقصده كنت أسمع صوته وأرى ابتسامته السعيدة. كنت أحاول أن أشاهد محيَّاه وطلعته في العابرين [...]، لكني لم أجد العزاء لدى أيِّ واحد منهم. صليت، وتعبَّدتُ، لكن الآلهة لزمت الصمت.[5]
ثم كتب أيضًا:
لقد مات حلم قديم، وها حلم جديد يولد. إن رؤيا جديدة تبزغ ووعي جديد يتفتَّح – لقد بكيت، لكني لا أريد للآخرين أن يبكوا؛ لكنهم إذا بكوا فإني بتُّ أعرف معنى ذلك. أعرف الآن أننا لن نفترق أبدًا. هو وأنا سنعمل معًا؛ فأنا وأخي واحد.[6]
اجتاز كريشنامورتي مرحلة الشك بعد أن تنكَّر للتعاليم "الروحية" التي لقَّنه إياها الثيوصوفيون. ولم تكن هذه المرحلة فترة يأس وقنوط زَرَعَ فيه نزوعًا إلى الإشفاق على مصيره، إنما كانت فترة خيبة أمل وَأَدَها إلى الأبد. لقد عاش امتلاء الحاضر بكلِّ غناه، وقادتْه الصعوبة التي تخطَّاها إلى عتبة الانعتاق الروحي أو اليقظة الداخلية. وقد كتب الفيلسوف الفرنسي رونيه فويريه في ذلك:
حالما بلغ [كريشنامورتي] ذروة الانسلاب والشدَّة فإن ألمـ[ـه] الهائل، ألمه اليائس، انحلَّ من تلقاء ذاته، مفسحًا المجال للوجْد الأسمى. ومن أعمق أغوار الظلمات التي تخبَّط فيها كريشنامورتي انبعث نورٌ ساطع أنار على الفور وإلى الأبد كيانه الداخلي [...].[7]
وابتداءً من العام 1927، بدأ كريشنامورتي يتبرَّم من القيود التنظيمية الخارجية المفروضة عليه، فأعلن، رافضًا كلَّ ما كان متوقَّعًا منه، انفصاله عن الجمعية الثيوصوفية، وحلَّ أخوية "النجمة"، التي كانت تضم آنذاك خمسين ألفًا من المريدين، مصرِّحًا في 3 آب 1929، في مخيِّم أومِّن في هولندا، ببلاغه الهام إلى الإنسانية:
[...] الحقيقة أرض بلا دروب، ولا يمكن بلوغها بأيِّ طريق، أيًّا كان: لا بدين ولا بمذهب. تلكم وجهة نظري، وإني لمتمسِّك بها تمسكًا مطلقًا غير مشروط. [...]
أريد ممَّن يسعون إلى فهمي أن يكونوا أحرارًا، لا أن يتبعوني ويجعلوا مني قفصًا قد يصير دينًا أو مذهبًا. عليهم بالحري أن ينعتقوا من المخاوف كلِّها: من الخوف من الأديان، من الخوف من الخلاص، من الخوف من الروحانية، من الخوف من الحب، من الخوف من الموت، وحتى من الخوف من الحياة. فكما الفنان الذي يرسم لوحة لأنها فنُّه الذي يفرح به، لأنها الإفصاح عن ذاته، لأنها مجده وتفتُّحه، هكذا أفعل ما أفعل، لا لأحصل على شيء ما من أيٍّ كان. [...]
أريد إذن تحرير الإنسان؛ وليفرح كالعصفور في السماء الصافية، بلا وزر، مستقلاً منتشيًا وسط هذه الحرية [...].[8]
وهكذا بدأ كريشنامورتي يعقد المؤتمرات المنتظمة ويلقي المحاضرات في إنكلترا وهولندة وإيطالية والنرويج والأمريكتين وأستراليا.
بيد أنه في الفترة التي نشبت فيها الحرب العالمية الثانية أُرغِمَ على البقاء في كاليفورنيا. وهناك، ظلَّ معظم سنوات الحرب بمفرده، يزرع الورد ويحلب البقر ويأكل من جَنى يديه، كأيِّ مزارع عادي. لكنه، من الداخل، كان حيًّا، ينصت، يرصد، يسائل العالم من حوله وفي داخله. وفي صمت النزهات التي كان يقوم بها بدأ التعليم، كما عُرِفَ فيما بعد، يتفتح. وقام كريشنامورتي بصوغ لغة مطواعة تجسِّد "فكره" وتفصح عن مقاصده على نحو موضوعي مستقلٍّ عن شخصه.
هناك أيضًا في تلك الفترة أقام ألدوس هكسلي. وبينما كان هكسلي – وهو واحد من أوفر كتَّاب عصره ثقافة وألمعية – يتكلَّم كان كريشنامورتي ينصت؛ وبدوره كان هكسلي يتعلَّم الصمت وهو يصغي إلى كريشنامورتي يتحدَّث عن البصيرة وعن الزمن وعن الانتباه.
وفي العام 1946، كتب هكسلي مقدمةً رائعة لكتاب كريشنامورتي الحرية الأولى والأخيرة أسهمت في إشعاع فكر كريشنامورتي في العالم أجمع. ولقد صرَّح الكاتب الكبير بعد الاستماع إلى إحدى محاضراته: "[...] في سطوة هذا الألق لاح لي أني كنت أصغي إلى موعظة من مواعظ البوذا."[9]
بين العامين 1951 و1955، ألقى كريشنامورتي محاضرات عديدة في الهند وأمريكا وهولندا، وعقد لقاءات كثيرة في إيطالية وإنكلترا وفرنسة.
وبين العامين 1961 و1981، عقد لقاءات يومية في ناحية سانِن قرب غشتاد في سويسرا. وحوالى العام 1969، ابتاعت "مؤسَّسة كريشنامورتي" (مؤسَّسة ينحصر دورها في نشر فكره ومؤلَّفاته) منطقة رائعة في بروكوود قرب ساوثمبتون في إنكلترا، أقيمت فيها أول مدرسة تستلهم تعاليم الحكيم الكبير وتؤهِّل تلامذتها لدخول الجامعة، يعيش فيها المدرِّسون والتلامذة والعمال على قدم المساواة في جوٍّ من الحرية الفكرية والنفسية والبساطة والحياة المشتركة، في محاولة لتطبيق نظرات كريشنامورتي الثورية في التربية (جدير بالذكر أن مدارس مماثلة تأسَّست في الهند وكاليفورنيا).
وفي العام 1965، التقى كريشنامورتي بالفيزيائي والفيلسوف الكبير ديفيد بوهم. وقد أثمر هذا اللقاء عن صداقة متينة وعن فكرة تنظيم لقاءات فكرية دورية أسهمت إسهامًا مباشرًا في نشر فكر كريشنامورتي في الأوساط العلمية. وقد علَّق بوهم: "إن فكر كريشنامورتي يتخلَّله ما يمكن له أن يُسمَّى جوهر المقترَب العلمي، منظورًا إليه في صورته الأرقى والأنقى."
انطلاقًا من العام 1974، انعقدتْ بإشراف بوهم وكريشنامورتي، في بروكوود وفي أمريكا، حوارات ومناقشات شاركتْ فيها نخبةٌ من العلماء الأفذاذ ينتمون إلى شتى فروع المعرفة،[10] وتمخضت عن نتائج وأبحاث هامة للغاية كانت تُنشَر دوريًّا.
ولقد ظل كريشنامورتي، حتى وفاته في كاليفورنيا في العام 1986، يواصل اللقاءات والمحاضرات والندوات في العالم بأسره، بصفاء ذهني نادر ووعي يقظ.
أضواء على "فكر" كريشنامورتي[11]
ليس كريشنامورتي "فيلسوفًا" بالمعنى المألوف للكلمة. فغالبية الفلاسفة يقومون، انطلاقًا من مسلَّمات يأخذون بها وتشكِّل نواة فلسفاتهم، ببناء صرح نظري يبحثون له عن تطبيقات في النشاطات البشرية المختلفة وفي العالم. أما "فكر" كريشنامورتي فهو يقوم على أسُس نفسانية يمكن التحقق منها "تجريبيًّا" – شريطة أن يتحلَّى المرء بالجرأة والشجاعة الكافيتين للإقدام على مثل هذه المغامرة – في وسعها أن تحثَّ فيه، من دون أدنى عنف أو لجوء إلى سلطة فكرية خارجية، تحولاً غير متوقَّع يشمل كلَّ جانب من جوانب حياته.
وإن التعمق في دراسة تعاليم كريشنامورتي ليتكشَّف عن آفاق جديدة توطِّد دعائم فكر حرٍّ، نقيٍّ، متجدد، يتخطى كلَّ الحدود والمقولات التي تفرضها علينا غالبيةُ المناهج والفلسفات والمذاهب التي لا تتسبَّب، في الأعم الأغلب، إلا في التجزئة والصراع والفوضى – الأمر الذي يمنح هذا الفكر توجُّهًا عالميًّا شاملاً بالغ الأهمية، وخاصة في عصرنا.
إن معضلة الإنسان الأساسية تعود، في نظر كريشنامورتي، إلى "سيرورة الأنا" the I-process، المتمثلة في الرغبة المنغرسة في الأنا إلى الاستزادة من الوقود الذي يكفل لها استمرارها بالتقوقع على نفسها – هذا التقوقع الذي لا يتجلَّى في الأنانية الفردية والشواهد الاجتماعية والتاريخية على عنجهية الإنسان وقسوته وحسب، بل وفي المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية السائدة، المشبعة بالإحساس بالتفوق وبالرضا الذاتي وبالغرور المقنَّع.
***
إن كريشنامورتي، كما يصرِّح روبير لنسن، صديقُه المقرَّب وأحد الدارسين المتعمِّقين في تعاليمه، ينبغي أن يُعَدَّ "عالِم نفس الفكر الحر الروحي"[12]. ولا بدَّ هنا من التشديد على عبارة "الفكر الحر الروحي" لأن أصالة كريشنامورتي تمنعنا قطعًا من تصنيفه ضمن أطُر مراجعنا المعتادة. ففكره المستقل، اللامذهبي و"اللاتقريري"، المتحرِّر من التقاليد والأعراف، والجرأة التي يدين بها مخاطر السلطة الدينية واستغلالها لمشاعر الناس، يجعلان منه هدفًا لسهام الأوساط المتديِّنة و"الروحانية"، على تعدد ميولها ومشاربها، التي تَسِمُه بالمادية تارة، وبالفوضوية Anarchism طورًا.
ومن جهة أخرى، يمتعض الماديون والوضعيون التقليديون عندما يأتي كريشنامورتي، في أحاديثه ومؤلَّفاته، على ذكر حقيقة لازمنية، غير مقيَّدة، تتخطَّى الذهن، ويشكِّل اختبارُها الحي وتحققها في الإنسان غاية وجوده الأساسية، فيرمونه بـ"الغيبية" تارة وبـ"التصوف" طورًا.
إن هذا الفيلسوف الكبير يدعونا إلى تحقيق رؤية عميقة – يصفها بالبراءة والحرية والمحبة والفطنة – يخترق سيفُها الماضي قلبَ الحقيقة، عبر غابة المعلومات والمفاهيم والتمثُّلات الذهنية الكثيفة، وعبر جميع برامج الفكر، حتى الوصال الحق مع الذات – حتى المعرفة التامة للنفس. فروح الدين، كما يفهمه، ينبغي أن تتجاوز برحابتها حدود العقائد الجامدة والطقوس الشالَّة للنفس؛ والدين، في نظره، لا يمكن له أن يكون إلا اختبارًا حيًّا، مباشرًا، يتجدَّد من لحظة إلى أخرى، ويندرج، عبر ما هو بشري ومحدود فينا، في لامحدودية حقيقة لا يمكن التفكير فيها أو وصفها. إن موقفه شديد الوضوح، لا يساوم عليه: ليس لأحد أن "يتوسَّط" بين الإنسان والحقيقة: لا كهنة، ولا معابد، ولا شعائر، ولا معتقدات، ولا عبادات، ولا حتى الإنسان نفسه بما هو أنا! لذا نجده يقول: "إن الطريقة الوحيدة لبلوغ الحقيقة هي أن نصير، بلا أي وسيط، تلامذة الحقيقة نفسها."
ثَمَّ موقف يصرُّ عليه كريشنامورتي إصرارًا غير مشروط: إن فهمنا العميق لطبيعتنا الحق يستوجب منا تحقيق صفاء يتجرَّد فيه الفكر من القيم الزائفة كافة، وينفض عنه كلَّ ما ترسَّب فيه إبان قرون طوال من الجهل والعطالة والخنوع. إذ ليس لنا إلا أن نكتشف الحقيقة المقيمة فينا، كما في الأشياء كلِّها، في كامل بساطتها وألقها. نحن "هيكل الله الحي"، على حدِّ تعبير القديس بولس – وكذلك العصفور والزهرة والحصاة – لكن لنا عيونًا لا تبصر وآذانًا لا تسمع!
إن مجرد قراءة سطحية لأيِّ مؤلَّف من مؤلَّفات كريشنامورتي – وهي قراءة لا ننصح بها مطلقًا! – ترينا إلى أيِّ حدٍّ تنسف لغتُه البسيطة الواضحة التي لا تعرف المواربة صرح عقائدنا المظلمة الرهيبة، القائمة على وعود بالثواب وبمكافآت مستقبلية تدغدغ غرور الحشود وكسلها وجهلها وجشعها.
أمام الإنسان، إذن، يَمْثُل خيارٌ صريح: إما أن يستسلم للـ"مخدرات المعنوية" (التعبير للأديب ميخائيل نعيمه) والدينية الخارجية التي توجِّه اهتمامها كلَّه إلى تلك "السجون البديعة التزيين"، على حدِّ تعبير كريشنامورتي، وإما أن يتنبَّه إلى الخطر النفسي الذي ينطوي عليه سياق كهذا، فيقف "بمفرده، ورأسه متلع إلى العلاء، بلا معتقدات ولا تَعازٍ زائفة".
يمثِّل موقف كريشنامورتي تقاطُع طريقَي الروحانية والمادية. فالتطور الحديث لكلٍّ من الفيزياء وعلم النفس، والمتوازيات بينهما التي تمَّ اكتشافُها على أيدي كبار المفكرين والعلماء المعاصرين، يقوداننا إلى تخطِّي المواقف التقليدية الجامدة لكلٍّ من المادية والمثالية. فالمادة والروح، كما يمكن أن نستشف من تعاليم الحكيم، هما الوجهان المتقابلان، لكنْ المتكاملان، للحقيقة الواحدة في الجوهر التي نقوم بتجزئتها بحسب رغباتنا.[13] إن المنظور "الاختزالي" reductionist (أو "التقليصي")، الذي يختزل الكلَّ إلى جزء أو ظاهرة، مقيَّد حتمًا بسلَّم الرصد الخاص بكلِّ فرد[14]؛ وهذا ينبغي تخطِّيه من أجل رؤية كلِّية لاذهنية. ففي حين تقوم المعرفة العلمية والتكنولوجية على "تشريح" أو تحليل يندرج في إطار المقولات المعلومة، فإن اختبار الحقيقة في كلِّيتها يتطلب منا تبنِّي رؤية مختلفة تمامًا.
الحقيقة، في جوهرها، فيضٌ خالص وتجدُّد مستمر، آنة بعد آنة.[15] إنها "مجهول" غير قابل مطلقًا للتفكير فيه، وغير خاضع للمقارنة وللتصنيف، بل حتى غير قابل للمعرفة (في المفهوم العلمي الوضعي) أصلاً، لأن مثل هذه المعرفة (الاختزالية) تقتضي ثنائية الذات العارفة والموضوع المعروف، وتخضع للزمن وللصيرورة، كما تفترض سلوك "طريق" يقود إليها تنتظمه أشواطٌ ومراحل. يقول كريشنامورتي بهذا الصدد:
ليس للحقيقة درب، وفي ذلك جمالها: إنها حية. وحده الشيء الميت يمكن أن يكون له درب يقود إليه لأنه ساكن. أما عندما ترون أن الحقيقة شيء حي، متحرك، لا يستقر في مكان [...]، وليس في مقدور أيِّ شيء أن يقودكم إليه – سترون عندئذٍ أن هذا الشيء الحي هو ما أنتم عليه في الواقع [...].[16]
الحقيقة، كما يقول كريشنامورتي، غير مقيَّدة؛ وإذا أراد الفكر أن يقاربها يجب عليه أن يحرر من قيوده ويخلع عنه جميع الأقنعة والهويات والأسماء التي يتستَّر بها. وهذه الحقيقة ليست خارجنا، بل هي فينا، هي "نحن"، هي جوهرنا العميق وطبيعتنا الحق، لكن منظورنا الذاتي المغلوط يجعلنا عاجزين عن تركها تفصح لنا عن نفسها – أو بالأصح، ترك نفسنا تفصح لنفسنا عن نفسنا، أي عن جوهرنا وجوهر الكون.
إن الخطأ الذي وقعتْ ضحيتَه غالبيةُ المؤسَّسات الدينية، والذي عليها أن تتداركه إن هي شاءت أن تحمل لواء الروح من جديد (وإنْ كنَّا نستبعد ذلك!)، هو أنها تفرض على أتباعها حشدًا من "الكليشيهات" الذهنية الجاهزة التي لا تمتُّ إلى الحقيقة بصلة، الأمر الذي يُخضِعهم لعبودية المعادلات والتعريفات والأفكار المسبقة التي تجعلهم، رغمًا عنهم، يفكرون ويتعاملون مع الآخرين بوصفهم منتمين إلى هذا الدين أو ذاك، أو إلى هذه الأمَّة أو تلك، باسم "الحفاظ على تراث السلف الصالح" أو "صيانة الشخصية القومية"، ويصنِّفون الناس بحسب انتماءاتهم إلى "أصدقاء" أو "أعداء". والمقصود هنا ليس الانتقاص من أهمية خصوصية شعب أو منهاج ديني معيَّن ودور هذه الخصوصية في إغناء الخبرة الإنسانية الشاملة، بل التأكيد أن البحث عن الحقيقة والعثور عليها يتم في النفس، والأهم من ذلك بالنفس، بالاستسلام لها كما يُستسلَم للحياة وللموت – في سكينة ومحبة وانفتاح تام. وحدها الحقيقة تحرِّر!
تقودنا عبادة "الكليشيهات" الذهنية السابقة إلى نُوام ذاتي autohypnosis لا نبصر فيه – للأسف – إلا إسقاطات رغباتنا الخاصة، الواعية منها وغير الواعية. أما الحقيقة فهي أقسى وأصعب، ومقاربتها تستوجب تجاوُز التصورات التأنيسية anthropomorphic عن الألوهة التي ألِفناها منذ الصغر. ذلك أن كلَّ تصوُّر نقيمه عن الألوهة ليس بينه وبين الألوهة صلة تُذكَر؛ ومهما كان مبلغ التناقض الظاهري الذي ينطوي عليه كلام كهذا فإن "التفكير في الله" يكافئ "إنكار الله"! – ذلك لأن الله، أو الحقيقة، عصيَّة على كلِّ مَن يحاول الدنوَّ منها بفكر مقيَّد.
إن رسالة كريشنامورتي – إن صحَّ أن نسمي تعاليمه "رسالة" – تتلخص في تبيان إواليات عمل الفكر وإشراطاته، لأن معرفة هذه الإواليات وسَبْر تينك الإشراطات، في رأيه، هو الانعتاق أو الفطنة. وقد يدهشنا، للوهلة الأولى، ألا نجد بينها العقائد الجامدة والمعتقدات الضيقة والأفكار المسبقة وحسب، بل والذاكرات أيضًا. فنحن، والحق يقال، نحمل في ثنايا أدمغتنا آثار تجاربنا وتجارب أسلافنا برمتها مدوَّنة؛ وهو أمر تزداد البيولوجيا الحديثة استيقانًا منه يومًا بعد يوم.[17]
وعلى الصعيد النفسي، بات عدد كبير من علماء النفس بعد ظهور المدرسة التحليلية (= اليونغية) في التحليل النفسي يقرُّون بوجود "خافية جمعية" (= لاوعي جمعي) Collective Unconscious تؤلِّف طبقة تحتانية كلِّية الحضور، تؤثر مضامينها الذاكرتية في الخافيات الفردية وتتأثر بها.[18] فهل من الممكن تحرير الفكر من هذه الإشراطات الذاكرتية، بحيث يتمكن من "لقاء الجديد في كلِّ لحظة حاضرة" لقاءً متجددًا وموضوعيًّا، منعتقًا من الإواليات العقيمة للذاكرة؟[19] لعل قليلاً من التبسُّط في الشرح قد يساعد على بَلْوَرَة الفكرة أكثر.
نحن نعيش تحت نير آلاف المخاوف الخافيَّة، كالخوف من الألم، والخوف من الموت، والخوف من الحقيقة، والخوف من المجهول، إلخ. أما الأبدية فهي "لا تقيم إلا في حيوية عدم الأمان"، على حدِّ تعبير كريشنامورتي. وتدفعنا مخاوفُنا إلى البحث عن "أمان" مفترَض زائف، فنتبع تبعيةً عمياء المستغلِّين "الروحيين"، أصحاب النوايا الحسنة والسيئة، الذين يزيِّنون لنا نعيمًا على الأرض أو فردوسًا في السماء. نحن نتبع، بحماس منقطع النظير، من يقولون لنا إنهم "يعرفون"، وندير ظهورنا للحكماء الحقيقيين الذين يقولون مع سقراط العظيم: "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئًا." فالحقيقة، كما رأينا، ليست "شيئًا" قابلاً للمعرفة؛ إنها "المجهول الأسمى"، كما عبَّر طاغور في إحدى قصائده.
لقد كان سقراط يدعو محاوريه إلى الشكِّ في أنفسهم ونبذ أوهامهم ومعتقداتهم الكاذبة قبل أية محاولة لمعرفة طبيعة المفاهيم التي يتصدُّون لها. وهكذا لا ينفصل الشك المعرفي والنقد الذاتي في المنهج السقراطي عن التحول الروحي الداخلي. فأصحاب المذاهب والعقائد جميعًا يقولون إنهم يعرفون الحقيقة ويتشبثون بمواقفهم. لكن هذه المعرفة الوهمية – وهاهنا نقطة يلتقي فيها كريشنامورتي مع سقراط تمامًا – تقف حجر عثرة في سبيل فهم حقيقة الأشياء وحقيقة العالم. أما الإقرار العميق بالجهل فهو، في حدِّ ذاته، الخطوة الأولى على طريق الحكمة... والأخيرة! فالإنسان الذي يقرُّ بجهله يعيه، وبذا يفتح الطريق أمامه للبحث عن الحقيقة بحثًا أصيلاً. وهكذا تنبثق الحقيقة من المحاورة السقراطية – والكريشنامورتية –، بعد طرح الأوهام والآراء المبهمة والإشراطات كلِّها، بريئة، نقية، تمامًا كما يخرج الوليد من رحم أمِّه بريئًا، نقيًّا. ذلكم هو منهج "التوليد" السقراطي maïeutikê.[20]
***
كريشنامورتي من القلَّة النادرة من الفلاسفة التي عملت على إقامة صلة وثيقة مباشرة بين التعقيد الحاذق واللامنطقي للنفس البشرية، بكلِّ إحباطاتها، من جهة، وبين شعلة المحبة المتِّقدة في الكيان الإنساني، من جهة ثانية. فهو، بإزالته المسافة الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما هو حقيقي فيه، أي بين الإنسان كعَرَض والإنسان كجوهر، يحرِّر النفس البشرية من فصام لازَمَها طويلاً. كل ما ليس حقيقيًّا وآنيًّا ومباشرًا خاضع للزمن، أي للصيرورة، أي لإشراطات الذاكرات النفسانية، ولا يقع، بالتالي، في حقل "الإبداع" الخالص، وهو "انسلاب ذاتي" auto-alienation، بمعنى قريب من مفهوم إريش فروم للانسلاب. إن كريشنامورتي يضع إصبعه مباشرة على موضع العلَّة التي لا يستطيع أيُّ تحليل نفسي "اختزالي" أو أية تجربة "صوفية" عابرة أن تشفيها – ألا وهي اعتيادنا القاتل محاكمة نفسنا ومقارنتها بالآخرين وإدانتها، ووضع سلَّم للقيم من ابتداعنا نحن ومن صنع إسقاطاتنا الخافيَّة (= اللاواعية)، بدلاً من أن نلزم الصمت، ونبقى فاعلين في العالم، حاضرين فيه، نحيا حياة هي فينا، بأن نكون، لا كما نرغب في أن نكون، بل "كما نحن" فعلاً.
لذا يقترح علينا كريشنامورتي – نحن الذين نلتقي المجهول في كلِّ لحظة، مزوَّدين بالذهن (وهو أفكارنا وذاكراتنا ومعلوماتنا المتراكمة) درعًا يدرأ عنَّا "خطر" ما نجهل – تجربة جريئة، قوامها تأمل نقدي عميق في النفس، مصحوب بشكٍّ وانتباه يقظ يتملَّص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كلِّه، وتتفتح فيه زهرةُ كلِّ لحظة جديدة بذبول زهرة اللحظة التي سبقتْها، وتتوِّجه يقظةٌ نهائية شافية على مستويات النفس البشرية كافة.
تلكم ثورة كلِّية جذرية، "نفنى فيها عن نفسنا"، بالتعبير الصوفي، وعن ذاكراتنا الماضية، ونحقق شرطًا من "الكشف" الجَّوَّاني أو الشعور العلوي المقدس، وحده قادر على الإفصاح لنا عن الحقيقة، حقيقة "ما هو موجود" what is – الآن. أما مقاربة الحقيقة بالذهن وحده – وهو الماضي كلُّه – فهي "أشبه بضخِّ الدم في جثة ميت"، بحسب تعبير أحد المفكرين.
يميِّز كريشنامورتي تمييزًا دقيقًا بين "ذاكرات الوقائع" (وهي الذاكرات الطبيعية التي لا غنى لنا عنها) وبين "الذاكرات النفسانية" التي تنجم عن مواحدة identification "أنا" الفرد مع ذاكرات الوقائع. فهذه المواحدة الذاتية التي تقوم بها "الأنيَّة" ego (= الأنا، le moi-je بالفرنسية) الخاضعة لشهوة الديمومة، خوفًا من التلاشي والاضمحلال، هي المسؤولة عن استنزاف حياتنا الداخلية وعن إحباط كافة مساعينا إلى المعرفة الحق للنفس وللعالم.[21]
لا يركن كريشنامورتي إلى كلِّ فعل آلي وإلى كلِّ تكرار وإلى كلِّ رتابة واعتياد في حياتنا النفسية. ففي الفهم أيضًا، كما في المادة، نزوع طبيعي إلى الاعتياد وإلى التكرار وإلى العطالة؛ وهو نزوع ما لم نتداركه في الوقت المناسب ونفهم سياقه بالكامل، لكفيل بأن يستفحل ويتحول إلى هاجس يستحوذ على حياتنا النفسية برمَّتها.
والذهن، في مسيرته المتواصلة من معلوم إلى آخر، يحتمي بإيقاعات الاعتياد الذاكرتي، وبذلك
يظل الذكاء أو الوعي مختفيًا في ثنايا العدم. وتؤدي الظلمة التي نحملها عبر لحظات سابقة إلى انعدام وضوح إرادة الإلهام المتصل بكلِّ دقيقة جديدة وقدرتها. ويستغرق كلُّ ظرف جديد وكلُّ موضوع جديد في الآليات الدماغية للتعرف والتذكر التي تتَّجه إلى ترتيبها في مستودع الذاكرات القديمة والقيم المعروفة [...].[22]
وبذلك تصير الكلمة الدالَّة على الشيء، في نظر الذهن، هي الشيء نفسه، والتسمية تصير المسمَّى: كلمة "حقيقة" تصير الحقيقة، وكلمة "محبة" تصير المحبة، إلخ. إن السحر الأسود الرهيب – والمعذرة لهذا التعبير – الذي تمارسه الصور اللفظية المدوَّنة في الذاكرة يسيء إلى الانتباه إلى الحياة وإلى الأشياء كما هي في الواقع، فنراها وفقًا لرغباتنا الخاصة أو نزواتنا الآنية. وهذا الانتباه يتخطَّى عالم الكلمات والآليات الذهنية التي تحرِّكها هذه الكلمات عن طريق الخيط الذي يشد حلقات الذاكرة بعضها إلى بعض؛ لكنما حين تترسَّخ إيقاعات الاعتياد الذاكرتي في الذهن تفقد الحياةُ الذهنية خصائصها الخلاقة، وتتخلَّى عن ديناميَّتها المبدعة، فيغرق الذهن في الشرود. إن هذا الانتباه أو الفطنة
غريب عن نطاق التكرار والاعتياد، ولا يأتلف معهما. فهو يقف خارج السيرورات الآلية التي تسوس المعالم السطحية للكون. إذن فالفطنة لاسببية، ولازمنية، وتنجو من إشراطات الزمان والدوام والاستمرارية.[23]
***
ينبع الفكر الخلاق المبدع، بحسب كريشنامورتي، من احترام قوانين الحياة في النفس الإنسانية. ومع أنه لم يتمكن أحد إلى الآن من إيجاد تعريف لجوهر الحياة، فهناك بيولوجيون روَّاد يعتبرون أن الحياة تتجلَّى في أثناء تطور المورِّثات (= الجينات) بانعتاق متدرِّج من ضغوط الوسط المحيط. أوليس تاريخ الكون برمَّته مسيرة متعاظمة نحو الحركة الحرة والإبداع؟ الحجر، في سقوطه، خاضع لثقالة الجاذبية. أما النباتات فتنزع باندفاعها الشاقولي نحو الأعلى إلى التحرر من هذه القوة، لكنها تبقى مع ذلك لصيقة بالأرض عبر جذورها. ومن جهة أخرى، يتمتع الحيوان بمجال للحركة أوسع. أما الإنسان، فالتطور الحالي على مستواه محسوسٌ على الصعيد النفسي أكثر منه على الصعيد البدني المادي؛ لذا يجب التحري عن إمكانية الحركة في الملكات الذهنية (من دون نفي إمكانية التطور البدني مستقبلاً). من هنا يجدر بنا قبلئذٍ أن نبدأ بمحاولة التبصر بتعقيد الهندسة الخلوية البشرية ودقتها اللامتناهيين، وأن نعاين في الخلِّية، ولاسيما في الخلية العصبية، حركة الحياة في انتعاشها وتجددها المتواصلين.
إن مخَّنا على ما يبدو – وكما يصرِّح العلماء – ليس إلا في بدايات تطوره، وهو حديث السنِّ جدًّا بالقياس إلى عمر الطبيعة، وليس ثمة إلا قسم ضئيل منه يعمل. والسؤال المشروع الذي يمكن لنا طرحه في هذا الصدد يتناول إمكانية وجود أبعاد جديدة للوعي، وأنماط حديثة من المعرفة "الكشفية" والفهم المباشر تنتظر التنقيب عنها واكتشافها. وأغلب الظن أن هذه الأبعاد الجديدة للوعي – كما تخبرنا الحكمة القديمة – وهذه المناطق غير المكتشَفة بعد في المخ البشري يتعذَّر تطويرها أو تفتيحها اصطناعيًّا أو إراديًّا بمناهج من حياكة الذهن القديم. فالمحبة الحقيقية لا يمكن تنميتها أو اكتسابها، بل الشعور بها من خلال "تعديل" (المصطلح للفيلسوف ندره اليازجي) دائم، يستهلك تمامًا مواقفنا البالية ويستهدف سبرًا متواصلاً لأعماقنا ولشبكة الأنا "العنكبوتية" الرهيبة، سبرًا لا يتحقق من دون الانعتاق الكامل من ذاكرات الماضي والتحرر من إشراطاتها. يقول كريشنامورتي:
متى تأكَّد المخ القديم من عجزه عن إدراك ماهية الحرية، ومن قصوره عن اكتشاف شيء جديد، يكون هذا الإدراك، في حدِّ ذاته، بذرة الفطنة [...]. الفطنة ليست شخصية، وليست نتاجًا للمجادلة أو للمعتقد أو للرأي أو للمنطق. تنوجد الفطنةُ حينما يكتشف المخ عجزه، حينما يكتشف ما هو قادر عليه وما هو ليس بقادر عليه [...].[24]
وإذا شئنا أيضًا أن تفصح الحياة عن ذاتها على مستوى الذهن لوَجَبَ علينا أن نحرِّره من الضغوط النفسية القاهرة للوسط المحيط ومن الإشراطات الشالَّة لبرامج خلايا المخ. وتتضح كيفية ذلك في الحوارين بين كريشنامورتي وصديقه ديفيد بوهم اللذين يشكلان مادة كتاب مستقبل الإنسانية. في هذا الكتاب يتساءل المتحاوران عن إمكانية تجديد خلايا المخ والتحرر من كلِّ برمجة فيها؛ ويجيبان بأن الحلَّ يكمن في إدراك صافٍ للواقع كما هو. ومن خلال هذا النوع من الإدراك أو الانتباه الحاذق يؤثر الذهن في مادة المخ ويُحدِث تبدلاً في خلاياه، واضعًا حدًّا لبرمجتها المدمِّرة.[25] في مقدمة الكتاب المذكور يحاول ديفيد بوهم توضيح ذلك بقوله:
لو كان الذهن مقيدًا بإحدى حالات المخِّ لكان مستقبل الإنسانية قاتمًا. لكن الذهن حرٌّ من التشويهات الناجمة عن إشراطات المخ. ويمكن من خلال البصيرة المتولِّدة عن انتباه غير موجَّه، لا مركز له، إحداث تبدل في خلايا المخ ووضع حدٍّ للإشراط المدمِّر.
ثم يضيف:
إن كان هذا صحيحًا فمن الجوهري أن يكون لهذا الانتباه حضور، وأن يُبذَل من أجل هذه المسألة المجهودُ نفسه الذي نخصِّصه عادة للنشاطات الحيوية الأخرى في الحياة.
ويقول أخيرًا:
توفِّر الأبحاثُ الحديثة عن المخ وعن الجملة العصبية سندًا متينًا للقول بأن البصيرة تُحدِث تبدلاً في خلايا المخ. فمن المعروف، على سبيل المثال، أن البدن يحوي موادَ هامة، كالهرمونات والنواقل العصبية، التي تؤثر تأثيرًا رئيسيًّا على وظائف المخ والجملة العصبية كافة. وتستجيب هذه المواد في كلِّ لحظة لما يعرفه الفرد ولتفكيره ولما يعني هذا كلُّه في نظره. ومن المعلوم بوضوح أن خلايا المخ ووظائفها تتأثر تأثرًا عميقًا بالمعرفة وبالمشاعر. ويصير من الممكن على هذا النحو للبصيرة، التي يجب أن تأتي في حالة ذهنية ذات سوية طاقة مرتفعة، أن تغير خلايا المخ تغييرًا عميقًا.[26]
***
مع أن كريشنامورتي يعارض، من حيث المبدأ، كلَّ منهجية فكرية مغلقة وكلَّ تصنيف مقيدِّ، لا نجد مانعًا من أن نستعير من المرحوم الفيلسوف روبير لنسن[27] تصنيفه الدقيق للأنماط النفسانية البشرية إلى ثلاثة:[28]
1. يحدد النمط الأول طور مولد الأنا؛ وهو مرحلة سابقة للفردية، يتمركز فيها الكائن البشري حول شخصيَّته، أو يتواحد مع المجموعة التي ينتمي إليها، حيث تسود "روح القطيع"، وتقوم حياته على الخضوع والمحاكاة وتخلو من الإبداع وتسود عليها الحتمية.
2. ويحدد النمط الثاني طور نضج الأنا؛ وهو مرحلة بناء فرد أكثر تماسكًا وأفضل تكوينًا من سابقه، حيث تبدأ فرديَّتُه في التكوُّن، ويستيقظ لديه الحسُّ النقدي، وتتعمق الأنا في استيعاء ذاتها، وتأبى الانصياع بسهولة للمنظومات القائمة، فتنزع بذلك إلى الانتقال من طور المحاكاة إلى طور الخلق والإبداع. وتتصف هذه المرحلة بـالعقلانية.
3. ويحدد النمط الثالث طور تجاوز الأنا؛ وهو مرحلة بلوغ الكمال الإنساني، حيث يعي الإنسان موقعه في الكون ودوره فيه، وينأى عن جعل نفسه مركزًا، ويحدس وحدة الحياة فيما يتعدى تعددية الأشكال. وتلكم هي مرحلة الروحانية التي يحقق فيها الإنسان الوعي الكوني.
ويعبِّر الفيلسوف ندره اليازجي عن أفكار متساوقة مع أفكار روبير لنسن، إذ يقول، متبنِّيًا ذلك التصنيف الثلاثي عينه:
في المرحلة الأولى [مرحلة الحتمية]، يوجد الإنسان الذي لا يعرف غاية حياته، فيكون عبدًا لمادَّته وأنا-ه. وعندئذٍ، يعيش الإنسان في تلقائية خالية من الوعي، وتدفع به الدوافع الحيوية دون ارتباط بعالم العقل، فتكون أعمالُه مجرَّد انعكاسات لاواعية. وتتمثل هذه المرحلة بالإنسان الحيواني.
وفي المرحلة الثانية [مرحلة العقلانية]، يوجد الإنسان العاقل الذي يدرك، من خلال دراسته للكون وللطبيعة والوجود، مغزى لمعنى حياته. فيفعل في مجال عقلي يُتَوِّجه الفكر ويدفع به إلى مزيد من المعرفة والوعي. وتتمثل هذه المرحلة بالإنسان العاقل، العالِم، وتتصف بالسعي الحثيث إلى الحرية والوعي للتماثل مع الطبيعة.
وفي المرحلة الثالثة [مرحلة الروحانية]، يوجد الإنسان الحر، الإلهي، الذي يتحرَّر من "أنا"ه كليًّا، وينطلق في رحاب الكل.[29]
إن الأزمة التي نعيشها اليوم، على مستويات وجودنا كلِّها، تُعتبَر نقطة التحول أو الجسر الواصل بين عصرين – بين نهاية عصر "الحوت" وبداية عصر "الدلو"، إذا جاز لنا استعمال اصطلاح علم النجوم القديم – أو قل بين الذرِّيتين البشريتين الخامسة والسادسة، بحسب المصطلح الثيوصوفي. وليس بمستبعَد أن هذه الأزمة الرهيبة ناجمة عن تصادُم تيارين متناوئين: التيار الميَّال إلى "نضج الأنا"، في استقلال عن القومية والجنس والعقيدة، وإلى الأصالة والإبداع والتسامح، من جهة، وتيار المحافظة الذي يخاف التجديد ويهلع أمام الإبداع، فيتشبث بالمنظومات الفكرية القائمة وبالتشريعات البالية، ولا يتورَّع لحمايتها عن اللجوء إلى البطولة الزائفة التي تنطوي على الكثير من عناصر الاستبداد، من جهة أخرى – نقول، ليس بمستبعد أن تكون هذه الأزمة الحادة فاتحة لعهد هامٍّ وخصب على صعيد الوعي واختبار حياة حرَّة غير مقيَّدة: إن كلَّ شيء لفي حركة دؤوب، و
الإبداع هو تناغم القوى المتعارضة – قوَّتي الجذب والنبذ. وعندما تمدُّ هاتان القوَّتان أيديهما فإن نار القتال تتبدل إلى ابتسامة الأزهار وإلى أغاني العصافير. أما عندما تنتصر إحداهما فقط فهو الموت البارد القاسي والانفجار القاتل.[30]
وإن إصرارنا اليوم على الإيمان بالقيمة الإنسانية الشاملة التي لا تحدُّ الإنسانَ بعصر أو ببلد ما، أو تشدُّه إلى عقيدة ضيقة أو جنس أو عرق، ليدعونا إلى الاعتقاد بأنه بعد مئة أو مائتي عام سوف تكون "عقلية الدلو"، إذا جاز التعبير، قد أشرطت الأفرادَ بمناهجها، كما جرى لنا، في خصوصية مختلفة، نحن أبناء عصر الحوت. لكن إصرارنا هذا نفسه يدعونا أيضًا إلى أن نرى في الأمور أكثر من ظاهرها.
إن كلَّ شيء اليوم لفي مخاض، وثمة حركة تأليفية لا يستهان بها، تسعى في قوة وفي إصرار إلى الحيلولة دون تدمير البشرية لنفسها بفعل رجحان كفة قوى المحافظة العمياء المذعورة. ومن جانبها، تستلهم رسالةُ كريشنامورتي وعيًا تأليفيًّا وتكامليًّا بين عالمي الداخل والخارج، بين الفكر والحدس، في محبة ملتهبة، محرِّرة، شاملة، ورأفة حقيقية شافية بريئة من كلِّ رياء.
إن هذه "الطفرة" في المخ التي تكلَّم عليها بوهم، هذه "البصيرة"، تفصح، على ما يبدو، عن منظور جديد كلَّ الجدة، وعن وظائف جديدة للمخ لم تكن ظاهرة سابقًا، الأمر الذي يفسر لنا عجزنا عن التعبير عن هذه البصيرة الجديدة بلغتنا المحدودة بالصور الذهنية البالية من نتاج المخ القديم. وترى بوبول جاياكار، صديقة كريشنامورتي وكاتبة سيرته، أن تعليم الحكيم مرَّ بأطوار ثلاثة متميزة. تقول:
في الأيام الأولى كان كريشناجي يتحدث عن معرفة النفس، عن وحدة المفكِّر والأفكار، عن التحرر من الحكم والإدانة. وفي الستينات، انتقل إلى إنكار الفرد ككيان منفصل عن تيار الإنسانية؛ ومن مقترب الخطوة–خطوة انتقل إلى الإلحاح على ثورة في التيار البشري. لقد توقف عن التحدث عن أية مشكلة محددة، كالجشع أو الكراهية. ففي الماضي كان يستخدم كلمات من نحو المخ والذهن والفكر والوعي بلا تمييز، قاصدًا بها الماضي أو الذاكرة. أما في السبعينات فقد صار طاقمُ مصطلحاته أدق، وبدأ يسبر طبيعة الرصد والوهم الذي ينطوي عليه الفصلُ بين الراصد والمرصود. ومع العام 1978، بدا أنه أصبح مهتمًّا بالكلِّيات، وبالإدراك الكلِّي.[31]
تنسجم هذه الأطوار الثلاثة التي مرَّ بها تعليم كريشنامورتي، في رأينا، مع الأطوار الثلاثة لسيرورة الأنا نحو تجاوُز ذاتها التي جئنا على ذكرها لتوِّنا. ولعل من أهم ما أسهم به كريشنامورتي في السنوات الأخيرة من حياته محاولاتِه للتأليف بين منجزات العلم الحديث، من جهة، وحالة اليقظة والبصيرة والانتباه التي دعا إلى تحقيقها، من جهة ثانية؛ وبهذا يُعتبَر، في الطور الثالث من تعليمه، من روَّاد العبور إلى مرحلة "تجاوز الأنا" (أو الروحانية) التي حَدَسَها الفيلسوفان ندره اليازجي وروبير لنسن وسواهما.
والواقع أن الربع الأخير من القرن العشرين شهد ارتسامَ حركة متميزة في السياق التطوري للأوساط العلمية ولفلسفة العلوم، ما يزال زخمُها محسوسًا إلى الآن. ويشير هذا الواقع إلى أننا نقف حيال طفرة حقيقية، أو ثورة على المفهوم التقليدي البالي للقيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية إلخ، ثورة تشير، بدورها، إلى تحقيق معرفة عميقة للنفس، وانعتاق متوازن من كلِّ الإشراطات الشالَّة، وتفتُّح داخلي متناغم مع الكون في توازن بين الفكر والقلب والجسم.
وتُعتبَر اللقاءات التاريخية التي جَرَتْ في بروكوود بإشراف كريشنامورتي وضمت ن