عشاق الله

ليس بالخبز وحده

 

ليس بالخبز وحده

صاحبت دخول شهر رمضان في العالم الإسلامي أحداث جمة، منها ما هو سياسي، و اجتماعي، و اقتصادي أو غيره.  فقد واكبنا الحملة الاحتجاجية التي أعقبت خطاب البابا بينيدكتوس 16، و ما خلفته من ردود فعل سواء المنتصرة للمسلمين في احتجاجهم، أو المبررة لأقوال البابا، و لو أن أغلب المعلقين آخذوا الحبر الأعظم بجريرته، و أدانوه بسبب  إقحامه تلك الفقرات السيئة الذكر في خطابه.

مع ذلك هناك فئة كبيرة من المسلمين، و هي التي تمثل سواد الأمة الأعظم أي فقراء الأمة، لم تعر أي اهتمام لأقوال البابا، بل من أولئك من لم يعلم بالحدث أصلا، و لم يكترث أن يعلم. و السبب هو اكتواء هؤلاء بنار أحر و اشد وطأة، هي نار تدبير العيش اليومي في شهر رمضان الذي تزامن مع الدخول المدرسي، و ما تتطلبه المناسبتان من مصاريف صارت تثقل ميزانية الأسر بشكل رهيب. و لقد قرأت في بعض الصحف المهتمة بالشأن اليومي للمواطن عن أسر عديدة اضطرت لبيع أثاث البيت لمجابهة الوضع خلال هذا الشهر المبارك في إحدى البلدان العربية.

نعم، هناك بركة خلال هذا الشهر. هناك روحانية ملموسة. و لكن هناك أيضا جهل واضح، و سوء فهم لهذه المناسبة الكريمة من طرف العديد من المسلمين الذين حولوها إلى محض مناسبة اجتماعية مستنزفة للجيوب. فمن يتحمل مسؤولية هذا التردي و الانحدار بمناسبة روحية إلى عبء اجتماعي؟ طبعا لا نستطيع الإجابة عن سؤال شائك مثل هذا. لكننا نستطيع أن نذكر قراءنا الكرام ببعض مقاصد الصوم لكي ندرك جميعا كم ابتعد الناس عن حكمة هذه العبادة.

من أهم مقاصد الصوم تقوى الله بالتقرب إليه. فالصوم تدريب للنفس على ترك الشهوات و الأهواء و قمع الرغبات مقابل التركيز على شخص الله. إن المؤمن يتقدم نحو الله ذابحا أمامه قربان شهواته من طعام و شراب و ملذات، مضحيا بكل ذلك في سبيل طاعته. ذلك أن في طاعة الرب فرحا روحيا عظيما يعرفه البررة من المؤمنين، و هو ذات الفرح الذي اختبره داود بعمق حين قال في المزامير (الزبور):

"مبارك انت يا رب.علمني فرائضك ‎ . بشفتيّ حسبت كل احكام فمك ‎ . بطريق شهاداتك فرحت كما على كل الغنى ‎ . بوصاياك الهج والاحظ سبلك ‎ . بفرائضك اتلذذ.لا انسى كلامك" (مزمور 12:119-16) ‎

و لقد قابلت خلال شهور رمضان من سنوات مضت مسلمين كان يبدو هذا الفرح واضحا عليهم، إذ كنت تحسبهم طاعمين مرتوين من شدة انشراح نفوسهم و تهلل أساريرهم. لأن لسان حالهم كان يلهج فرحا بطاعة الرب و بشعور التضحية بكل الشهوات لأجله، عملا بالحديث القدسي:

" كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"

هذا هو الصوم الحقيقي أن نذبح شهواتنا من أجل الرب ابتغاء مرضاته، لا رياء، أو خوفا، أو إحتفالا بمناسبة اجتماعية نطيع فيها الرأي العام، و نبذر مواردنا على الأطعمة و الأشربة التي يقبل العديد بشره عليها من الفطور إلى السحور، و كذا السهر في المقاهي و النوادي و تمضية الوقت في لعب الورق، و الدومينو، والطاولة، و السكرابل و غيرها، ثم النهوض في الغد بوجوه كالحة متعبة، و همة فاترة مما ينعكس سلبا على الأداء في أمكنة العمل.

إن تقوى الله هي أهم مقصد للصوم. لذلك نقرأ في القرآن الكريم"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ." حيث الربط واضح بين الصيام و التقوى "لعلكم تتقون". فإذا انعدم هذا الربط سقطنا في حبائل التقاليد، و النمطية الاجتماعية، و الاحتفالية الفجة، و من ثم الإفلاس الروحي الممهد لإفلاس المجتمعات و الحضارات. لهذا السبب أكد السيد المسيح على مبدأ السرية في الصوم حتى يكون المؤمن واثقا أن الله هو وحده العالم بصومه فيكتمل عنصر الطاعة، و تتحقق التقوى الحق، حيث يقول في الموعظة على الجبل (إنجيل متى: 17:6-18)

ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين .فانهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين .الحق اقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم .

وأما انت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك .

.لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء .فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.

ما أعظم أن تكون تقوى الله غايتنا في أي عمل نقوم به سواء كنا مسلمين أم مسيحيين. ما أعظم أن نصوم ابتغاء وجه الله. ما أعظم أن يجللنا نور الله و نحن صائمون بدل الغبرة التي تعتري عادة الكثير من الوجوه الصائمة. ما أعظم أن نتذوق حلاوة الملكوت و نحن صائمون، فنفهم بالملموس كلمات السيد المسيح عندما جاع في البرية بعد أن صام أربعين يوما و ليلة متتالية فتقدم إليه الشيطان متحديا إياه إن كان هو المسيح أن يحول الحجارة إلى خبز، فما كان من السيد المسيح إلا أن قال قولته التي أضحت على كل لسان:

"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى 2:4-3)

نادر عبد الأمير