عشاق الله

هفوة البابا

 

هفوة البابا

في الشعر الجاهلي و الشعر العربي عموما شيء اسمه حسن التخلص، و يدل على مهارة الشاعر في المرور من مقدمته الطللية او غيرها، إلى الغرض الأساسي من القصيدة. و قد برع الشعراء العرب كثيرا في ذلك، إذ تكفي نظرة سريعة على المعلقات للتأكد من ذلك. الخطباء أيضا برعوا قي وضع مقدمات رائعة لخطبهم عبروا منها بمهارة بعد ذلك إلى أغراضهم الرئيسية. لكنني لا أملك إلا أن أشفق على البابا بيندكت 16 في فداحة الهفوة الخطابية التي ارتكبها و هو يلقي خطبته مؤخرا أمام طلاب تلك الجامعة الألمانية، حيث بعد المقدمة التي تحدث فيها عن الجامعة اجتاز بشكل فج إلى الفقرة الثانية ليحدث الجمهور عن علاقة الإسلام بالعنف.

  أمامي الآن خطبة البابا تلك في ترجمتها الإنجليزية. و قد أشبعتها قراءة و تمحيصا محاولا من الناحية العلمية الأكاديمية وجود مبرر لإقحام تلك الفقرات السيئة الذكر التي تتحدث عن ذلك الحوار الذي كان قد دار سنة 1391بين الإمبراطور البيزنطي آنذاك و أحد المسلمين حول حقيقة الإسلام و المسيحية، و الذي يربط فيه الإمبراطور بين الإسلام و العنف، كما تتحدث أيضا عن ابتعاد الإسلام عن العقل و الحكمة، و احتكامه الدائم للسيف. للأسف لم أجد مبررا علميا أكاديميا لتلك الفقرات. إنها تبدو مثل زوائد مقحمة بشكل مقرف وسط الخطبة ككل. هل خانت البابا مهارته الخطابية فجأة، فاقترف خطأ جديرا بخطيب مبتدئ؟ هل تقمصه إبليس؟ هل فعلها عنوة؟ أكيد أن لإبليس اليد الطولى في كل ذلك، و إلا لما كان أوقع في روع البابا أن يتذكر ما كان قرأه في كتاب مغمور عن تلك المحاورة، فاتحا الباب بذلك أمام إمكانية فتنة عارمة بين المسلمين و المسيحيين.

ثم كيف يلمح البابا إلى ابتعاد الله في تصور الإسلام عن العقل و الحكمة، مقابل ارتباطهما به في تصور المسيحية. كيف له كمسيحي ان يفتخر بالعقل و الحكمة. أليس في ذلك ابتعادا صريحا عن السلوك المسيحي القويم الذي يقوم على الإيمان بما يعتبره العالم جهالة. ما هي حكمة الحكماء التي يشيد بها البابا أمام نور الله الذي يعصف بكل حكمة و فهم. ألم يقل الرسول بولس في الرسالة الاولى من كورنثوس:   "لأَنَّ الْبِشَارَةَ بِالصَّلِيبِ جَهَالَةٌ عِنْدَ الْهَالِكِينَ؛ وَأَمَّا عِنْدَنَا، نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ، فَهِيَ قُدْرَةُ اللهِ. فَإِنَّهُ قَدْ كُتِبَ: «سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ وَأُزِيلُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ!» إِذَنْ، أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ وَأَيْنَ الْكَاتِبُ؟ وَأَيْنَ الْمُجَادِلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ؟ أَلَمْ يَقْلِبِ اللهُ حِكْمَةَ هَذَا الْعَالَمِ جَهَالَةً؟ فَبِمَا أَنَّ الْعَالَمَ، فِي حِكْمَةِ اللهِ، لَمْ يَعْرِفِ اللهَ عَنْ طَرِيقِ الْحِكْمَةِ، فَقَدْ سُرَّ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ بِجَهَالَةِ الْبِشَارَةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. إِذْ إِنَّ الْيَهُودَ يَطْلُبُونَ آيَاتٍ، وَالْيُونَانِيِّينَ يَبْحَثُونَ عَنِ الْحِكْمَةِ. وَلكِنَّنَا نَحْنُ نُبَشِّرُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوباً، مِمَّا يُشَكِّلُ عَائِقاً عِنْدَ الْيَهُودِ وَجَهَالَةً عِنْدَ الأُمَمِ" (1 كورنثوس 18:1-23)مجمل القول أن البابا بيندكت 16 حاد بشكل فادح عن جادة الصواب، و خيب آمال المؤمنين الحقيقيين و محبي السلام في كل مكان في العالم. لكن إذا كان استنكار ما فعله من الجانب المسلم و المسيحي أمر طبيعي، فإن استعمال العنف أو التلويح باستعماله من طرف بعض الجماعات الإسلامية للرد على البابا هو غباء ما بعده غباء. و ذلك لسبب بسيط جدا هو السقوط في فخ البابا و إضفاء الشرعية على إساءته. على المسلمين اليوم و بشكل مستعجل مسؤولية البحث عن أساليب أكثر فعالية في الرد على مثل تلك الإساءات، و ذلك بالبحث عن مكمن سوء الفهم للإسلام، و التصدي له بكل ما أوتي المسلمون من إمكانيات فكرية، و ثقافية، و جمعوية، و اقتصادية، و سياسية، و إعلامية، و شحذ الهمم لذلك. و في ذلك فليتسابق المتسابقون. أما العنف أو التلويح باستعماله فهو حل سهل و ساذج لن يزيد آفة سوء الفهم إلا استفحالا.  نادر عبد الأمير