عشاق الله

فكر عابر للأديان و الثقافات

فكر عابر للأديان و الثقافات

كلما فكرت في العلاقة بين المسيحية و الإسلام إلا و وقفت مشدوها أمام تشابك و عمق الروابط بين العقيدتين. تشابك و عمق لم نستطع بعد استيعابهما برغم كل آليات الحوار و التحليل المتاحة لنا في العصر الحديث. هنالك حتما حلقة ما افتقدت في مكان ما على الطريق. أو ربما ثغرة صغيرة انفتحت يوما ما في الجدار، و لم نتداركها في وقتها فتحولت إلى هذا الشرخ الذي يرعبنا أحيانا.

عندما أفكر بهجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، و بالنجاشي، و كيف أرسلت قريش عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة ليوغرا صدر نصارى الحبشة و ملكها على أولئك المسلمين المهاجرين، محاولين إيهامهم أن الإسلام إنما جاء للقضاء على النصرانية، و كيف انبرى جعفر بن أبي طالب لدفع مكيدة المشركين قائلا للنجاشي: "أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك".

عندما أفكر في ما حدث عندما سمع النجاشي آيات من سورة مريم، و كيف بكى حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم، ثم قال لرسولي قريش: إن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما. ثم عندما قيل له: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فاستدعاهم وسألهم، فأجابه جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فتناول النجاشي عوداً، وقال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود.

عندما أرى طابع الانسجام الغالب في القرآن مع الكثير من فصول و آيات العهد القديم والعهد الجديد، و أرى مكانة المسيح العالية في الإسلام و كذا أنبياء الله. و أرى تغطية الرسول لأيقونة المسيح و مريم العذراء بعباءته داخل الكعبة حين دخل مكة منتصرا و أمر بتدمير كل الأوثان. و عندما أسمع أبا بكر الخليفة يعطي أوامره لجنده قائلا: "في الصحراء ستجدون أشخاصاً اعتكفوا في صوامع؛ دعوهم وشأنهم، لأنهم اعتكفوا في سبيل الله."

ثم عندما أقرأ عن القديس يوحنا الدمشقي، العلامة النصراني، الذي كان أبوه من رجال البلاط الأموي في دمشق، و كان هو صديقا للخليفة يزيد قبل أن يصبح خليفة، و كيف أنه لم يعتبر أبدا الإسلام ديانة جديدة، بل صيغة توحيدية مختلفة عن النصرانية.

عندما أفكر في كل ذلك أشعر بالأسف لما آلت إليه الحال. فلا شك أن أولئك الأشخاص الذين سبقونا بمئات السنين كانوا أكثر حكمة و معرفة و تواضعا منا في تدبير مسألة الاختلاف. ما أحوجنا اليوم إلى فكر عابر للأديان و الثقافات مثل فكر الرسول بولس الذي قال في إحدى رسائله: "مَعَ أَنِّي حُرٌّ مِنَ الْجَمِيعِ، جَعَلْتُ نَفْسِي عَبْداً لِلْجَمِيعِ، لأَكْسِبَ أَكْبَرَ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنْهُمْ. 20فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَأَنِّي يَهُودِيٌّ، حَتَّى أَكْسِبَ الْيَهُودَ؛ وَلِلْخَاضِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ كَأَنِّي خَاضِعٌ لَهَا مَعَ أَنِّي لَسْتُ خَاضِعاً لَهَا حَتَّى أَكْسِبَ الْخَاضِعِينَ لَهَا؛ 21وَلِلَّذِينَ بِلاَ شَرِيعَةٍ كَأَنِّي بِلاَ شَرِيعَةٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنَا خَاضِعٌ لِنَامُوسٍ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ حَتَّى أَكْسِبَ الَّذِينَ هُمْ بِلاَ شَرِيعَةٍ. 22وَصِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ ضَعِيفاً، حَتَّى أَكْسِبَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْجَمِيعِ كُلَّ شَيْءٍ، لأُنْقِذَ بَعْضاً مِنْهُمْ مَهْمَا كَلَّفَ الأَمْرُ. 23وَإِنِّي أَفْعَلُ الأُمُورَ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكاً فِيهِ مَعَ الآخَرِينَ." (الرسلة الأولى إلى مؤمني كورنثوس 19:9-23)

نادر عبد الأمير