عشاق الله

السبيل الوحيد للغفران

مفهوم الغفران في المسيحية مختلف اختلافا كبيرا عن المغفرة في الإسلام، فهو في المسيحية لا يعتمد على مسألة الحسنات والسيئات، بل يقوم على أساس ما صنعه الله تعالى من أجلنا من خلال شخص سيدنا عيسى المسيح. وصنيعه من أجلنا يتمثل في ولادة سيدنا عيسى وموته على الصليب، ثم بعد ذلك بعثه من الموت. 

لم يكن القصد مما فعله سيدنا عيسى مجرد مسامحة للإنسان على معاصيه بل القصد كان هو تغيير طبيعة بني آدم من الداخل حتى يصبح من آمن برسالة السيد المسيح شخصا مولودا من جديد. لكن لم يحتاج الإنسان إلى هذا التغيير من الداخل؟ والجواب هو أن الإنسان في طبيعته الخطاءة لا يستطيع المثول أمام الله المتصف بمنتهى القداسة والبر، وذلك بغض النظر عن كل أفعاله الخيرة وحسناته مهما كثر عددها. فالشخص الذي يحاول نيل رضا الله وغفرانه من خلال حسناته وأفعال الخير التي يقوم بها شبيه بمن يقدم طبق فاكهة فاسدة للملك؟ طبعا الملك سيرد تلك الهدية شر ردة. نقرأ في سفر إشعياء: "وقد صرنا كلنا كنجس، وكثوب عدة كل أعمال برنا." (إشعياء 64: 4). كذلك من يحاول التقرب إلى الله ونوال غفرانه ورضاه بواسطة أعمال وأفعال مهما كانت خيّرة إنما يقدم أعمالا وأفعالا بطبيعة ساقطة وملوثة. فهل يقبل الله ذو القداسة المطلقة والملك المطلق هذه الأعمال؟ طبعا لا، لأن هذه الأعمال قذرة وملوثة بالفساد النابع من طبيعة الإنسان الساقطة الخطّاءة. فقد حكم الله حكما قاطعا بأن أجرة المعصية هي الموت، فما من صلاة أو صوم أو زكاة أو غيرها يمكن أن تنقذ الإنسان.

يعلمنا الإنجيل أن الله لا يغفر الذنوب ويتقبل الحسنات إلا من قلب سليم أي من إنسان تم تغيير طبيعته الساقطة الخطاءة. عندئذ يقبل الله حسنات ذلك الإنسان لأنها صادرة عن قلب نقي وطبيعة بشرية طاهرة. لكن كيف يا ترى نحصل على هذا التغيير في طبيعتنا؟ والجواب هو أولا أن الله عادل. ولكي يغفر الله للإنسان على هذا الأخير أن يوَفّي عدل الله. فالمعصية في جوهرها خرق لوصية الله. لذلك فتحقيق عدالة الله نحو الإنسان تتطلب الموت المحتوم كما هو واضح في الإنجيل"لأن أجرة الخطية هي الموت" (رومية 23:6). ولأن الأمر كذلك، فما هو يا ترى سبيل النجاة من هذا الموت؟ السبيل الوحيد للنجاة كان هو الفدية أو الفداء. ولكن من هو يا ترى هذا الكائن الجدير أو القادر على فداء الإنسان؟ هل من شخص صالح بمقدوره افتداء البشرية جمعاء؟ طبعا لا. الأمر يتطلب شخصا خارقا وفعلا خارقا. فكل الناس بشر ضعفاء مولودون من ذكر وأنثى، بمعنى أنهم جميعا ذوو طبيعة فاسدة ساقطة ورثوها من أبيهم آدم، ومن ثمة لا وجود لشخص بشري قادر على الوفاء بعدل الله. قبل الاستمرار في الكلام لا بد من الإشارة إلى صفة أخرى عظيمة جدا من صفات الله تعالى ذات علاقة وثيقة بالفداء والغفران. وهذه الصفة هي المحبة. إن الله قدوس وعادل، ولكنه محب أيضا. فرغم سقوط آدم والجنس البشري في المعصية، إلا أن الله قد أحبه المحبة العظيمة التي من صلب طبيعته، لأن المحبة من طبيعة الله. وبما أن الإنسان هو موضع محبة الله، فإنه تعالى لا يريد هلاك هذا الإنسان بل نجاته. فكيف يا ترى تتحقق العدالة والرحمة في نفس الآن؟ السبيل الوحيد لذلك هو أيضا الفداء كما أسلفنا.

إن الفداء الذي يمكن أن يفي بعدل الله وقداسته لا يمكن أن يتم بواسطة شخص عادي، بل ينبغي أن يتم بواسطة شخص يتصف بتمام الكمال. وهذا الشخص المتوفر على شروط الوفاء بعدل الله وقداسته ومحبته ليس سوى سيدنا عيسى المسيح، لأنه الشخص المتصف بين بني البشر بالكمال التام بما في ذلك الأنبياء أنفسهم. إن المسيح شخص إلهي. إنه شخص لم يكن مجيئه خلقا وإنما تجسدا أي أن الذات الإلهية اتخذت جسدا وحلت على الأرض كما هو واضح في مستهل إنجيل يوحنا:"في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقا." (يوحنا 1: 1و14). إنه الشخص الأكمل كمالا وطهارة ونقاء منذ بدء الخليقة. 

طبعا لا بد أن مجيء المسيح بهذه الطريقة الفريدة المميزة جدا كان لإتمام غاية إلهية أكبر وأعظم من مجرد الوعظ والإرشاد إلى الطريق المستقيم. كان الهدف هو إظهار محبة الله والوفاء بعدله وقداسته، وذلك بتقديم نفسه للموت على الصليب فداء كاملا عن الإنسان، لأنه الشخص الوحيد الذي بمقدوره أن يقوم بذلك الفداء.

بعد أن صار واضحا عمل الفداء في المسيحية نرجع إلى موضوع الغفران وسؤال الحصول على الغفران والطبيعة الجديدة التي تحدثنا عنها في البداية. إن شرط حصول الإنسان على الغفران وتغيير طبيعته الخطاءة هو الإيمان بسيدنا عيسى المسيح. وهذا الإيمان لا يعني الإيمان فقط أن المسيح نبي عظيم من أنبياء الله، بل يجب الإيمان بطبيعته الإلهية الخارقة، يقول الإنجيل الشريف: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد تبرر في الروح تراءى لملائكة كُرز به بين الأمم أومن به في العالم رُفع في المجد" (تيموثاوس الأولى 16:3)

كما يجب أن نؤمن إيمانا تاما بعمله الفدائي من أجل الإنسان. وبعبارة أخرى أن نؤمن بموت سيدنا عيسى المسيح على الصليب وبعثه من الموت في اليوم الثالث ورفعه إلى السماء. أيضا يجب القبول بشكل شخصي بعمل المسيح الفدائي مع الاعتراف بالمعصية والتوبة. وكل من يفعل ذلك يصبح ابنا لله، حيث يولد ولادة ثانية روحية من الله وينال طبيعة جديدة مصداقا لقول الإنجيل الشريف: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون بإسمه (اسم المسيح) الذين وُلِدوا ليس من دم ولا مشيئة رجل بل من الله" (يوحنا 1: 12-13). وهذا الإيمان يحدث تحولا روحيا عظيما في طبيعة الإنسان حيث تتحول القذارة إلى قداسة والكراهية والبغضاء إلى محبة مصداقا لقوله أيضا: "إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا." (كورنثوس الثانية 5:  17)