عشاق الله

أفرام السرياني السوري: شاعر الروح القدس

مار أفرام السرياني شاعرٌ لأيّامنا

جورج مراياتي

يُعتبر مار أفرام السرياني السوري شاعر السريان بلا منازع فقد أوتي لساناً فصيحاً وبياناً فريداً غزير المادّة خصيب المخيّلة فيّاض القريحة، ما ساعده على خوض طراز من الشعر مبدع سكب فيه الأفكار السامية والمعاني النبيلة الصادقة التي تقود المتأمّل والقارئ معاً إلى أجواء الصلاح والخشوع والعبادة لله الواحد الأحد جلّ جلاله. ولعلّ الدارس لشاعريّة أفرام يدرك أنّه ارتقى إلى شعر أسمى الآداب في أعظم اللغات. فهو صنو لهوميروس في إبداع الوصف ولدانتي في السموّ الروحي.. وميامره وأناشيده الغنائيّة لا تزال إلى اليوم ترنّم وتنشد في كنائس العالم إضافةً إلى قصائده في تكريم مريم العذراء، والتي جاءت على نحو يصعب أن يتصوّر العقل أنّ ثمّة قصائد تتفوّق عليها. فهي في مجملها تطرب الآذان وتثقّف الإنسان وتغذّي الإيمان منعشةً النفوس باعثةً فيها التقوى.

طلع كوكب أفرام في فجر المئة الرابعة للميلاد في نصيبين (بالقرب من القامشلي السوريّة)، من أسرة كريمة فاضلة ونشأ خير منشأ، دِيناً وأدباً، فكان على خلق ونبل. ولزم مار يعقوب النصيبينيّ أوّل أسقف على نصيبين (توفّي 338م) الذائع الصيت طهراً وقداسة فأفاد منه ورعاً وأدباً وعلماً. ومن ثمّ ترهّب ورُسم شمّاساً، وعلّم في مدرسة نصيبين أمّ العلوم والعلماء ومركز المعارف في ذلك الوقت مدّة 38 سنة أظهر فيها النباهة والذكاء. ومال إلى أعمال البرّ والإحسان التي ارتضتها نفسه المتواضعة الأبيّة التي تعشق الأرض والإنسان في آن، وتعظّم الخالق أحسن تعظيم. وإضافةً إلى نجاحه في التعليم، وقد طارت شهرته إلى جميع البلاد المجاورة، انكبّ على الدرس ومطالعة الكتب المقدّسة فكان له الإنتاج الديني والأدبي والأناشيد المعروفة بالنصيبينيّة نسبة إلى المدينة.

ولمّا كانت نصيبين موضع نزاع بين الفرس والروم آنذاك أصابتها الأهوال من ويلات الحروب ثلاثاً (338، 346، 350م). وفي آخر الأمر دخلها الفرس سلماً (363م) فهجرها عدد كبير من قاطنيها، ومن بينهم أفرام الذي صار إلى الرها مع نخبة من الأعيان والأساتذة فحلّ بجبلها المقدّس ووسّع مدرستها التي دُعيت"الفارسيّة" لأنّ معظم أساتذتها وطلاّبها أتوا من منطقة السيطرة الفارسيّة، فنهضت هذه المدرسة إلى جوار الكنائس والأديار والمعاهد العليا التي كانت تحيط بها من كلّ صوب. وتخرّجت فيها أعداد صالحة من أئمّة المسيحيّة وعلمائها العظام. كما غرف من بحر أفرام تلامذة مشهود لهم أشهرهم: آبا والشمّاس زينوبيوس وآسونا وشمعون السميساطي ويوليان. وهنا أيضاً في الرها جادت قريحة أفرام بجياد القصائد ونفائس القلائد التي اعتصمت بالدِين والإيمان تجاه التعاليم الباقية للفيلسوف السرياني برديصان (توفّي 222) المنحرفة المضلّلة ونزعته إلى الهرطقة في الرأي والتعليم التي ما لبثت أن تلاشت بفضل أفرام.

وفي العام 373م حلّت بالرها مجاعة كبرى، فنـزل الشمّاس أفرام إلى الفقراء لإسعافهم والمشرّدين لإيوائهم والمرضى للاعتناء بهم وإلى الأغنياء يحثّهم على المساعدة، مستشهداً بقول السيّد المسيح: "طوبى للرحماء، فإنّهم يُرحمون" (متّى 5/7). واستمرّ على أعماله تلك حتّى زالت المجاعة إلاّ أنّ المرض نال منه وهدّه. فجمع أتباعه وحملهم على التواضع وحذّرهم من البدع وحثّهم على ممارسة الفضائل الإنجيليّة. ثمّ وافته المنيّة في العام نفسه فدُفن جثمانه في احتفال بسيط بحسب وصيّته وبُني فوق ضريحه دير بجوار الرها عُرف بالدير السفلي.

لقد كانت نفس أفرام شاعريّة، فحملته تأمّلاته في عظَمة الخالق وحنانه على أن يتغنّى بشعر رقيق منثور فيه رمزيّة متفردّة وأنواع البديع والبيان ممّا حفلت به اللغة السريانيّة العبقريّة من تقابل وطباق وتورية وتشبيه انتقلت كلّها إلى مصنّفاته الكتابيّة، واللاهوتيّة الجدليّة، والنسكيّة التصوفيّة، وصلواته الليتُرجيّة (الطقسيّة) التي لا تزال الكنائس تتلوها. ويعدّ الكثيرون أنّ مؤلّفات مار أفرام هي بحر ضخم ليس من السهل تحديد شواطئه فبالإضافة إلى ميامره أي قصائده المنظومة على البحر السباعي المنسوب إليه، ومداريشه (أناشيده وموشّحاته) والتي أحصى المؤرّخ اليوناني سوزومين أنّ فيها ما يناهز الثلاثة ملايين من الشعر، خلّف ما يتجاوز ألف خطبة وعظة. وعلاوةً على هذا الإنتاج الأدبي الضخم شرح الكتاب المقدّس في جميع أسفاره عدا الكتب القانونيّة المتأخّرة متّبعاً طريقة المدرسة الأنطاكيّة في التفسير شارحاً النصّ آية فآية مركّزاً على المعنى الحرفي بمفهوميه الحقيقي والمجازي خلافاً لمدرسة الإسكندريّة التي كانت تتّبع التأويل والأسلوب الصوفي الرمزي.
لقد تطرّق هذا الكاتب الملهم والشاعر البارع إلى موضوعات لا تزال معاصرة لإنسان اليوم نذكر منها: البتوليّة، والدينونة، والتوبة، والتواضع، والصبر، والتخشّع، والحياة الرهبانيّة والنسكيّة والكهنوتيّة، والمحبّة... وقد نُقل قسم كبير من مؤلّفاته من السريانيّة إلى اليونانيّة في أثناء حياته وحتّى بعد مماته بمدّة وجيزة، ثمّ تُرجمت في ما بعد إلى عدد كبير من اللغات كاللاتينيّة والأرمنيّة واليونانيّة والعربيّة والقبطيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة... ولا يُعرف عدد قصائده التي ضاع جانب منها. أمّا ما وصل إلينا بالعربيّة فيناهز الخمسين مقالة نُقلت من اليونانيّة حوالى القرن الحادي عشر.

هذه مقاطع من ميمر وضعه أفرام ضدّ قدريّة برديصان يبيّن فيه أزليّة الله وأبديّته وأنّه تعالى يلازم جميع مخلوقاته: "واحد هو الآب الذي نعرفه ونراه. وهو كائن بذاته، وبغير ذاته، تبارك اسمه. أبدي وإرادته في كلّ مكان. ظاهر وباطن، مشرق وخفيّ، إنّه فوق وتحت... إنّه قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، ومع كلّ شيء... لا يستطيع المرء أن يهرب من نفسه لأنّها معه، ولا يستطيع المرء أن يهرب من الله لأنّه ملازم له... بعيد عن كلّ شيء، مختلط بكلّ شيء، ومشرق على كلّ شيء. الاسم العليّ والعجب المستور الذي لا نعرف كنهه...".

وله قصيدة تصوّفيّة رائعة في العناية الربّانيّة منها قوله: "إلى أين أهرب يا ربّي وعند مَن أستقرّ وبمَن أستنجد؟ حرام عليّ أن أستغيث بغيرك ولئن افترضتك غريباً عنّي. لأنّه ليس أحد صالحاً سواك يا خالقنا ولا حلواً عذباً يا فاطرنا. أنت خلقتنا وأنت تعتني بنا...".